مراجعة «البلوط القديم» | كين لوتش يقدم رسالة «سياسية وإنسانية»
كان (فرنسا) ـ نسرين سيد أحمد
في أحد مشاهد فيلم «The Old Oak ـ البلوط القديم» للمخرج البريطاني المخضرم كين لوتش، الحاصل على سعفتين ذهبيتين في مهرجان كان، تقول يارا، اللاجئة السورية الشابة، إن الكاميرا، التي وثقت بها رحلتها بين المخيمات حتى وصولها لبريطانيا، أنقذت حياتها ومنحتها فرصة لرؤية الأمل حتى في أحلك لحظات اليأس. والقول ذاته يمكن أن ينطبق على مخرج الفيلم، الذي اختار أيضاً أن ينظر إلى الأمل وإلى الخير في داخل البشر، على الرغم من الإقرار بوجود الكثير من القبح الذي فرضته الظروف الصعبة.
لكل زمن رسول ومناضل ومحارب، ويمكننا القول إن لوتش هو أحد مناضلي السينما الكبار، منذ أعوام سارت أقاويل أن لوتش سيعتزل الإخراج، لكن مع تضييق حكومة المحافظين في بريطانيا الإنفاق على المهمشين الفقراء، الذين هم في أمسّ الحاجة إلى الدعم والمعونات الاجتماعية، وجد لوتش، الذي كان في السبعينيات من عمره آنذاك، أن لديه المزيد ليقال وأن صدره يصطخب بصرخات الاحتجاج والإنذار، التي أطلقها في فيلمه «أنا، دانيال بليك» الذي حاز عنه السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 2016. أراد لوتش في «أنا، دانيل بليك» أن يصحح النظرة الشائعة التي يروج لها الإعلام عن أن الطبقة العمالية في بريطانيا تتكون في غالبيتها من الكسالى ومعاقري الكحول، الذين يفضلون أن تنفق عليهم الدولة بدلاً من أن يعملوا لكسب دخل يكفيهم، أراد لوتش أن يرينا تعفف أنفس العاملين الذين كدحوا طوال أعمارهم والذين لا تكفيهم أجورهم الزهيدة لتوفير قوت يومهم في بلد من أثرى دول العالم، وأراد أن يكون صوت هؤلاء الصامتين.
والآن في عامنا الحالي، ولوتش في منتصف عقده الثامن، وجد مناضل السينما وأحد كبار إنسانييها، المؤمنين بقدرة البشر على الخير، رغم ما يوجد في النفوس من شرور، أن لديه المزيد ليقال في فيلمه «البلوط القديم» الذي عرض ضمن المسابقة الرسمية في مهرجان كان في دورته السادسة والسبعين. اختار لوتش قضية شائكة يفضل الكثيرون التعامي عنها، وهي العنصرية والتحامل وسوء المعاملة التي يلقاها اللاجئون السوريون في بريطانيا على يد الفقراء من الطبقة العاملة الذين يرون في القادمين تهديدا لثقافتهم ولدخلهم القليل. ينتقد لوتش عنصرية الطبقة العاملة البيضاء إزاء اللاجئين القادمين، حيث يصور مشهد وصول العائلات السورية إلى تلك القرية في شمال إنجلترا، وكيف واجهها البعض بالسباب العنصري وبتحطيم كاميرا يارا، اللاجئة السورية الشابة. لكن لوتش، وإن كان رافضاً بشكل قاطع وصارم لسلوك ورؤية هؤلاء البيض العنصريين، إلا أنه يوضح أن هؤلاء هم الفئة الضالة القليلة وسط الطبقة العاملة. يوضح لوتش إن أغلب الطبقة العاملة البيضاء من الضحايا والمقهورين، يماثل قهرهم ما يتعرض له اللاجئون من قهر وفقر وشظف في العيش. يوضح لوتش أن هؤلاء الإنجليز الذين يعيش الكثير منهم على الكفاف لا يجدون متنفسا لمظالمهم إلا في اضطهاد من هم أقل منهم حظا وهم اللاجئون. يرى بعضهم أن مساعدات الكنائس والجهات الخيرية تخصص للاجئين، بينما لا تمد الدولة يد العون للفقراء من أهل القرية.
في أحد مشاهد الفيلم تحصل طفلة سورية لاجئة على دراجة مستعملة تبرع بها أحدهم، بينما ينظر صبي من أهل القرية قائلا، إنه كان على الدوام يأمل في الحصول على دراجة. يصبح وصول اللاجئين السوريين إلى القرية الفقيرة هو اللحظة الكاشفة التي تكشف جوهر الكثير من أهل القرية، التي تمنح لوتش الفرصة للإعراب عن رؤيته اليسارية المناضلة لمظالم أهل تلك القرية ولمظالم اللاجئين في آن.
«البلوط القديم» الذي يعنون اسم الفيلم هو اسم حانة القرية، حيث يجتمع أهل القرية مساء لاحتساء البيرة وللحديث، الذي يعربون فيه عن غضبهم إزاء أحوال قريتهم، وعن تجاهل السلطات لمطالبهم، عن أسعار العقارات التي تتعرض لهجمة شرسة، حيث تشتري شركات كبرى العقارات في المزاد بأسعار زهيدة، بينما يضطر أهل القرية لدفع أثمان باهظة لشرائها، في هذه الحانة أيضاً ينفث البعض حنقهم وعنصريتهم إزاء الغريب، إزاء اللاجئين. مالك هذه الحانة هو «تي جيه بالانتاين» (ديف ترنر). هو رجل شهد في حياته الكثير من الخيبات والانكسارات. هو من أسرة عمال المناجم الذين واجهوا الكثير من القهر على يد حكومة مارغريت ثاتشر، ونرى من الصور المعلقة في الغرفة الخلفية للحانة، الماضي الثوري لوالده الذي شارك في الإضرابات والاحتجاجات على إغلاق مناجم الفحم التي عمل فيها أهل القرية، والتي كانت مصدر الدخل الوحيد لهم. «بالانتاين» رجل صاحب مبادئ، ورغم ظروفه الاقتصادية الصعبة وحانته التي يتداعى مبناها، والتي تحتاج إلى إصلاحات عاجلة، إلا أنه لا يشارك في أي لغو عنصري، ولا يشاركهم رؤيتهم العنصرية.
تتوطد الصداقة بين «بالانتاين»، والفتاة السورية يارا، التي تقترح، بعد رؤية الصور التي التقطها عم بالانتاين لإضرابات العاملين في المناجم في الثمانينيات، والتي عنون إحداها بـ«عندما نأكل معا، لا مكان للجوع والوحشة» أن يخصص بالانتاين القاعة الداخلية المغلقة في حانته لتقديم وجبة طعام يشترك فيها أهل القرية والقادمون السوريون، يتقاسمون إعداد الطعام وتناوله، على أن يتكرر ذلك أسبوعيا، لتكون فرصة سانحة للتعارف، ولحصول من يحتاج إلى طعام على وجبة ساخنة. لكن هذه التعاون الخيري يثير غضب العديد من أهل القرية، حيث وافق بالانتاين على فتح القاعة الداخلية لحانته للاجئة وافدة حديثا على القرية، بينما رفض فتح أبوابها لأهل القرية، لاجتماع يبثون فيه غضبهم من قدوم اللاجئين.
يقدم لوتش فيلماً لا يحمل أسماء ممثلين كبار، ويقدم ممثلين جديدين، كان ظهورهم في فيلمه أول عهدهم بالتمثيل، لكنهم تحت إمرة مخرج متمكن من أدواته كل التمكن. يقدم لوتش رسالة سياسية وإنسانية واضحة جلية لا التباس فيها، رسالة تحقق لمّ شمل المجتمع بفئاته المختلفة، من السكان المحليين، واللاجئين الوافدين الجدد.