«سينماتوغراف» ـ شريف صالح
“كلّنا مثل القمر، لديه جانب مظلم”. تلخص هذه المقولة حبكة فيلم “أصحاب ولا أعز” الذي بدأت منصة “نتفليكس” عرضه في أول إنتاج لفيلم عربي لها. فثمة جوانب معتمة داخل كل إنسان لا يعرفها أقرب الناس إليه سواء من الأصدقاء أو الأزواج الذين يشاركونه الفراش.
هذه البدهية جعلت “القمر” بطلًا أساسيًا باعتباره معادلًا بصريًا لكل الشخصيات، فمنذ اللقطة الأولى تحدثنا شاشة تلفزيون عن الخسوف، ويتكلم عنه “شريف” (إياد نصار) وزوجته “مريم” (منى زكي).
ثم يتبين أن جزءًا أساسيًا من سهرة الأصدقاء، هو مطالعة تفاصيل الخسوف عبر تلسكوب. في مشهد تكرر أكثر من مرة، في جو شاعري يمزج ما بين الإضاءة المركزة والظلال. وهي اللحظات القليلة التي ظهر فيها الأصدقاء أقرب إلى الرومانسية والبهجة.
كأنه عندما ندرك الجانب (المعتم والآخر في داخلنا) ونتصالح معه، سوف نكون أكثر سعادة.
يلتقي الأصدقاء السبعة في منزل “مي” (نادين لبكي) و “وليد” (جورج خباز) على عشاء تختلط فيه الأكلات الشامية والمصرية، مع وفرة من المشروبات الكحولية.
ينضم الزوجان اللذان يسعيان لإنجاب طفل، وهما زياد (عادل كرم) وجنى (ديامان أبوعبود) ثم يأتي متأخرًا وحده “ربيع” (فؤاد يمين) معتذرًا عن غياب صديقته “رشا”.
حول مائدة العشاء تبدأ ثرثرة الأصدقاء، ويتعرف المتفرج في الفصل الأول على الشخصيات السبع، “وليد” يعمل طبيب تجميل، و”ربيع” كان يُدّرس في الجامعة ويبحث عن عمل، و”زياد” لديه شركة تاكسي.
ظل التعريف بالشخصيات مبتورًا، وناقصًا، لا يعطي عمقًا كافيًا لها، لأن معظم الحوارات تمركزت حول الإحباطات الجنسية. ف “جنى” ترغب في طفل، و”مريم” تفضح الطلاق الجسدي بينها وبين زوجها، و”مي” ترغب في تجميل صدرها.
من الناحية البصرية تثبيت الكادر حول مائدة الطعام لمدة 99 دقيقة ليس بالأمر الهين، ويتطلب براعة كبيرة تحسب للمخرج وسام سميرة، الذي كسر رتابة المشهد الثابت، بتنويعات بسيطة، مستغلًا حديقة البيت والمطبخ والحمام.
لكن تظل الطاولة هي الفضاء المهيمن، وهو تحد كبير لطاقم التمثيل المقيد في وضع الجلوس معظم الوقت، وعليه أن يعتمد على تعبيرات الوجه، والمسكوت عنه الذي تشي به الملامح. وكان طاقم التمثيل جيدًا خصوصًا فؤاد يمين ونادين لبكي الأكثر سلاسة، مقارنة بمبالغة الثنائي منى زكي وإياد نصار.
مثل هذه الأعمال ـ على شهرتها ـ وإعادة إنتاجها في السينما العالمية، هي أقرب إلى روح وطبيعة المسرح، حيث “وحدة الزمان والمكان” بالمفهوم الأرسطي، فنحن نتابع المشهد ذاته، مع تطابق زمن القصة وزمن الخطاب.
لعل أشهر فيلم في تاريخ السينما قدم هذه التوليفة كان “12 رجلًا غاضبًا” لسيدني لوميت، الذي اعتمد على طاولة يتلف حولها المحلفون طيلة الوقت باستثناء مشاهد قصيرة لكسر الرتابة.
من الناحية الإيقاعية، نجح ” أصحاب ولا أعز” في التحديات التي فرضتها طبيعة القصة المُمسرحة.
كما وضع المخرج ممثليه على خط الإطار، وأحيانًا يقدم الكادر مبتورًا، وهو ما لا يترك مجالًا لتعميق الفراغ، بل يخلق حالة متوترة وغير مريحة للعين، كأنه يسجن شخصياته داخل قفص، في مساحة خانقة. من ثم يعكس التوتر الذي تعانيه على المتفرج نفسه. لهذا غلبت على التكوين اللقطة المتوسط القريبة.
تعود حبكة الفيلم في جذورها إلى مسارين: الأول آت من الأدب القوطي، حيث الفكرة الرائجة بأن اكتمال القمر قد يدفع البعض إلى العنف والجنون والصرع، وغرابة الأطوار، كما ما يتجلى في أدب دراكولا وأفلام الزومبي. فالشخصيات هنا تبدلت بعنف أمزجتها وأحوالها، مع تغيرات القمر الحادة.
أما المسار الآخر فهو آت من “الديكاميرون” لبوكاتشيو إحدى روائع الأدب الإيطالي والإنساني، والتي تدور حول محاصرة سبع نساء وثلاثة رجال في قصر إبان فترة الطاعون، فيقررون ممارسة الحكي لتزجية الوقت، وطبعًا تبادل الاعترافات. واتسمت بخفة الظل والطابع الجنسي، ولا يخفى قطعًا تأثرها ب “ألف ليلة وليلة”.
وهذا ما نراه في الفيلم، حكايات عن الجنس، وتلميحات لا تخلو من خفة ظل، مع نهايات ذات نبرة مأساوية أحيانًا، ومعظم الحكايات لا نراها مجسدة، بل محكي عنها. فالفيلم لا يعرض لنا مشهدًا عاريًا واحدًا، رغم أنه يتضمن سرديًا عشرات المشاهد العارية (المحكي عنها) متروكة لخيال كل متلقٍ.
بعيدا من المسارين العميقين لحبكة الفيلم، فهو مقتبس اقتباسًا مباشرًا من الفيلم الإيطالي “غرباء بالكامل” (والديكاميرون أساس خطر للأدب الإيطالي عمومًا) كتبه وأخرجه باولو جينوفيس وشارك في الكتابة فيليبو بولجنا وآخرون.
ليس الاقتباس بجديد على السينما المصرية والعربية، بل ربما يكون 60% من الأفلام الناطقة بالعربية مقتبسة صراحة أو ضمنًا، من روايات وأفلام ومسرحيات عالمية. وإن كان تتر “أصحاب ولا أعز” لا يشير صراحة للأصل الإيطالي، مكتفيًا بأنه كتابة وسام سميرة وغبريال يمين.
يطرح الاقتباس دائمًا أسئلة وقضايا يصعب حسمها، بدءًا من المقارنة. هل مثلًا “أمير الانتقام” لأنور وجدي قدم “الكونت دي مونت كريستو” كما يجب؟ هل “البؤساء” في نسخة فريد شوقي أفضل أم نسخة هيو جاكمان؟
عادة الإجابة عن السؤال تكون لمصلحة الأصل الأجنبي، ومعظم من شاهدوا النسخة العربية رأوا أن “غرباء بالكامل” أفضل. حتى على مستوى العنوان يبدو الأجنبي أفضل وأكثر دلالة على محتواه، فاضحًا اغترابنا الإنسان عن بعضنا بعضًا مهما ادعينا من حميمية. أما العنوان العربي فهو باهت ولا يدلّ على متنه.
ما جدوى الاقتباس إذا كنا لا نضيف شيئًا للقصة الأصلية أو نقدمها بمستوى أقل؟
قديمًا، كان المألوف أن تكون هناك عملية “تمصير/تعريب” كي يتلاءم “النص المستعار” مع البيئة المصرية والعربية، ويصبح قابلًا للحياة والاستعادة. فمثلًا “شمس الزناتي” لعادل إمام مازال ناجحًا إلى اليوم، ولم يهتم كثيرون بأصله الأمريكي “السبعة الرائعون”.
هنا الأمر اختلف، لأن “الاقتباس” أعاد إنتاج الثقافة الأخرى “المقتبس عنها” وليس تقديم الثقافة “المقتبس إليها”.
فنحن في مجتمعاتنا العربية (من الناحية الرقابية الرسمية والشعبية) لا نتناول جميعًا الخمور بكل هذه البساطة والبذخ على العشاء، ولا يملك تسعون في المئة من الشعوب العربية حق شرائها أساسا.
بل لدينا شعوب تنام في الخيام والعراء والبرد وتحت قصف المدافع، وفي غياب للكهرباء والفحم، وبالتالي هؤلاء لا يمثلهم الفيلم ولا يعرف شيئًا عن معاناتهم في توفير قطعة لحم أو كوب حليب لأطفالهم.
هل المطلوب أن يمثلهم الفيلم أصلًا؟ ألا توجد تلك الشريحة المرفهة بيننا، حتى لو كانت صغيرة جدًا؟ ولا شك أن الفيلم نجح في التعبير عن همومها المتعلقة ب “الكاندوم”؟ هذا ينقلنا لمرجعية الفيلم، وعلاقته بالمتفرج. إلى مَن يتوجه؟ هل هو مجرد دبلجة عربية لنص إيطالي؟
إن الرسائل (وكل فيلم حمّال رسائل) لا تنبع من احتياجات المجتمع العربي، ولا مشكلاته، بل لا تبالي بها أساسًا. حتى الإشارات العابرة إلى “العراق” لا علاقة قوية لها بالعراق الذي نتابع أخباره حاليًا. حتى لبنان المفترض أنه الفضاء الأساسي للقصة، ليس له أي حضور.
كان يمكن ببساطة نصب مائدة الطعام في فنلندا وتغيير الأسماء، ولن يتغير أي شيء في الحوار.
في الفصل الأول تتحدث منى زكي بفخر عن “الملوخية بالأرانب” باعتبارها آخر ما تبقى من هويتها (المصرية) أما خلع سروالها التحتاني، ومواجهتها العلنية لزوجها بانتهاء علاقتهما الجسدية، وتذمرها من بقاء حماتها معها، وإقامتها علاقة عبر الفيسبوك. فكل هذا لا يعبر في قليل أو كثير عن طبيعة المرأة المصرية، بل يتضاد معها.
والشيء نفسه عند “مي” التي تخون زوجها مع صديقه، وفي الوقت نفسه تعاتبه لأنه ليس حازمًا مع ابنته التي بلغت الثامنة عشرة. ثم نرى الأب نفسه يتكلم هاتفيًا مع ابنته ويخيرها إذا رغبت في المبيت مع صديقها بمنطق أنها “أصبحت حرة”. فهل هذه هي هوية معظم أفراد المجتمع اللبناني؟ لا أظن.
إن مشكلتنا اليومية في معظم المجتمعات العربية ليس “الكاندوم” بل “دماء غسل الشرف” من المحيط إلى الخليج. لذلك ثمة أفلام عربية عظيمة تعيش إلى اليوم مثل “البوسطجي” لأنها لامست هوية وهموم مجتمعاتنا، ولم تذهب باتجاه استعارة زائفة.
هنا الاستعارة مرتبطة بتوجيه، وتصورات عولمية، عن شكل الحياة وتأثير التكنولوجيا على الإنسان، وشكل مائدة الطعام، وطريقة التفكير، وطبيعة العلاقات، وهو ما يظهر مثلًا في التركيز على الرجل (المثلي) الذي لعب دوره فؤاد يمين ببراعة، وذكرني بلحيته بالراحل روبن وليامز.
إن قضية “المثلية” ليست جديدة في ذاتها، وكثيرًا ما تمت الإشارة إليها على سبيل السخرية والازدراء والتلميح، كما في الفيلم الشهير “إشاعة حب” وشخصية “لوسي”، وفي مرات قليلة بجدية كما حدث في “حمام الملاطيلي” وجسد الدور يوسف شعبان، وكذلك “عمارة يعقوبيان” ولعبه خالد الصاوي.
الفارق هنا أن المعالجة لم تنبع من “أكواد الثقافة العربية”، بل وفق توجيهات “نتفليكس” الداعمة لحقوق المثليين، من ثم ظهر “ربيع” (صاحب الاسم الجميل والخلق الرفيع) كأنه المسيح المضطهد وسط رعاع البشر، فهو هادئ بشوش، محب للآخرين، حريص على لعب الرياضة، لا يعاني من الازدواجية والنقص وسلاطة اللسان مثل بقية أصدقائه. كأن الفيلم كله من أجل الانتصار ل “ربيع”.
ثمة من سوف ينحاز للفيلم باعتباره انتصر لقضايا مسكوت عنها، وهي مبالغة غير صحيحة، لأنه كل ما يقوله قيل في عشرات الأفلام، لكن الجديد في التوليفة هو التوجيه، أي إعادة تعريف ورؤية قضايانا من (المنظور النتفليكسي الاستشراقي). ليس كيف يرانا الغرب، بل كيف يريد الغرب أن يرانا.
لا بأس. كلنا لدينا جانب مظلم، ومع ذلك علينا أن نتصالح، ونستمتع بالحياة معًا. هذا ما اختارته النهاية المرحة عندما يوقف “ربيع” سيارته ليؤدي تمارينه الرياضية المعتادة، كأن شيئًا لم يكن. انتهت لعبة “الفضح” في السهرة السعيدة.