كان (فرنسا) ـ خاص «سينماتوغراف»
من بين مئات الأفلام الدرامية الطويلة التي تناولت موضوع الهولوكوست، فإن القليل منها قد أثار – أو حتى حاول – تجربة ما حدث داخل معسكرات الاعتقال، ولكن هناك مجموعة صغيرة من الأفلام، مثل «قائمة شندلر» و«ابن شاول» و«المنطقة الرمادية»، التي واجهت هذا الرعب وجهاً لوجه وبطريقة لا تمحى من ذاكرة المشاهدين، وإلى تلك القائمة يمكن إضافة «منطقة الاهتمام ـ The Zone of Interest» للمخرج البريطاني جوناثان غلازر، الذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في دروته الـ76.
إنه عمل رائع – مخيف وعميق، تأملي وغامر، فيلم يرفع الظلام البشري إلى النور ويفحصه كما لو كان تحت المجهر. لا يقدم صورة لضحايا الهولوكست بل يعمق صورة الجناة، يحوم فوق كل لحظة حدثت، والمفزع هو صورة الشر التي يقدمها.
في البداية، يبقى العنوان على الشاشة لفترة طويلة، ونسمع موسيقى «ميكا ليفي»، إنها مثل الجوقة التي يتم تشغيلها بشكل عكسي مع صوت منمق لصراخ بشري، بعدها ينتقل الفيلم إلى لقطة ثابتة لبيئة شاعرية: مرج منحدر بجوار بحيرة، مغمور بأشعة الشمس، مع نزهة على بطانية لعائلة لديها أطفال، والعديد من الرجال يقفون في ملابس السباحة. كل شيء يبدو سعيدًا للغاية و «طبيعيًا» حتى نلاحظ عنصرًا متناقضًا.. قصة شعر أحد الرجال – رأسه حُلق من الخلف والجانبين، وشعر طويل داكن مثل بقعة الزيت في الأعلى.
هذا الرجل هو رودولف هوس (كريستيان فريدل)، ضابط ألماني في قوات الأمن الخاصة، ومعظم أحداث الفيلم، نلاحظه هو وعائلته في منزلهم، عباره عن مبنى كبير من طابقين على شكل صندوق مليء بالغرف ذات الديكور البسيط الذوق، بالإضافة إلى حديقة واسعة مع مسبح صغير، وتنمو صفوف من الزهور في الحديقة بجانب الجدار المجاور. لكن هذا الجدار، الذي يبلغ ارتفاعه حوالي 12 قدمًا، هو الذي يوقفنا في مساراتنا، ويوجد في الجزء العلوي ثلاثة صفوف من الأسلاك الشائكة مثبتة في مكانها بواسطة أعمدة منحنية، إنه السلك الشائك لأحد معسكرات الاعتقال، حيث يقع المنزل، مباشرة على الجانب الآخر من جدار أوشفيتز، مصنع الموت البولندي الذي بدأ بذبح وإحراق ضحاياه معظمهم من اليهود في أغسطس 1941.
رودولف هوس، ليس مجرد شخص يعمل في المخيم. إنه القائد – الرجل الذي لا يدير أوشفيتز فحسب، بل كان له دور فعال في تصميم وتنفيذ آلية الموت الجماعي هناك، والتي تم تصديرها بعد ذلك إلى معسكرات الاعتقال النازية الأخرى. كل هذا على أساس تاريخي، وفيلم «منطقة الاهتمام»، الذي تم تصويره في أوشفيتز مقتبس بشكل فضفاض من رواية مارتن أميس لعام 2014، والتي تتناول شخصية رودولف هوس الحقيقية وعائلته. ومع ذلك، لا يقوم غلازر بتهويل ما في الكتاب بطريقة تقليدية. إنه يعطينا مشاهد ممتدة – تستغرق وقتًا طويلاً ثابتة، نلاحظ فيها الشخصيات وهي تمضي في حياتها كما لو كنا نشاهدها على كاميرا مراقبة يستخدمها ستانلي كوبريك. الكثير مما يحدث عادي وإن كان له دلالته: تناول وجبات الطعام، وقراءة قصص ما قبل النوم، والجلوس في الحديقة. تتمتع عائلة هوس بحياة مدللة يدعمها فريق من مدبرات المنازل، ويتميز منزلهم بهالة من الراحة.
في حالات نادرة فقط، يتطفل واقع معسكر الموت بقوة إلى وعي عائلة هوس، لا سيما خلال فترة ما بعد الظهيرة، حيث يقضي رودولف وقته في الصيد والتجديف داخل النهر مع أطفاله. خائفًا من إدراك أن سطح الماء يتناثر عليه رماد الجثث المحروقة، ما يجعله يسارع إلى تنظيف الأطفال بالداخل.
إن الرؤية الواضحة (والرائحة المفترضة) للدخان المتصاعد من محارق الجثث في المخيم وصوت صراخ السجناء أو نباح كلاب الحراسة أو الضباط الذين يأمرون بالإعدام لا يظهر على الشاشة، بل يكون كل هذا الرعب أشبه بضوضاء خلفية التلفزيون المتروكة في غرفة أخرى بالمنزل.
وتتكشف أغرب فترات الفيلم وأكثرها رعباً على صوت قراءة رودولف لقصص ما قبل النوم. تتحول الصور المرئية إلى التصوير الحراري، حيث تظهر فتاة صغيرة تقوم بواجبها من أجل الحركة الحزبية اليهودية، وتتسلل ليلاً لتقطف التفاح والكمثرى وتتركها حيث يمكن للسجناء العثور عليها.
ثم يأتي الصراع الذي يمزق رضا العائلة عندما تلقى رودولف خبرًا بأنه سيتم نقله إلى المكتب الرئيسي، بالقرب من برلين، وعندما يبلغ زوجته هيدويغ تغضب، وتذكره بأن العيش بعيدًا عن المدينة مع وجود مساحة للتنفس كان حلمهم منذ أن كانا في السابعة عشرة.
يتم تقديم العائلة في الفيلم، بطريقة ساخرة شبه جامدة، خاصة عندما يركز على الرفاهية الاستهلاكية القاسية والانشغالات المدللة لزوجة رودولف، التي تلعبها ساندرا هولر، والتي جعلت من هيدويغ زوجة وأمًا «نموذجية» من المدرسة القديمة، غافلة عن كل شيء خارج منزلها، إلى أن يصبح هذا الوجود مهددًا.
يقول المخرج البريطاني جوناثان غلازر إنه بحث كافة تفاصيل فيلمه «منطقة الاهتمام» لمدة عامين قبل التنفيذ، وعمل مع متحف أوشفيتز ومنظمات أخرى، وعلى عكس رواية مارتن أميس، استخدم الأشخاص الواقعيين بدلاً من الأسماء الخيالية، مما جعله أقرب للحقيقة قدر الإمكان، وسمحت التكنولوجيا التي أبقت الطاقم بعيدًا عن موقع التصوير للممثلين بالارتجال في بعض الأحيان، وكل هذا أضاف تخيلاً للفظائع التي ارتكبها هؤلاء الأشخاص ولكن دون رؤيتهم أبدًا، وجعله خاليًا من العنف حتى يحقق الرسالة التي يريدها.