«سينماتوغراف»: أحمد شوقي ـ كليرمون فيران
متابعة مهرجان مخصص للأفلام القصيرة يكاد يكون أصعب من أي نظير مخصص للأفلام الطويلة، فإذا فرضنا أن المعدل الطبيعي للمشاهدة المكثفة هو أربعة عروض يوميا، وأن العرض الواحد يحتوي على 5 أو 6 أفلام كما هو الحال في كليرمون فيران، أهم مهرجان في عالم الأفلام القصيرة، فإنك تجد نفسك مطالب بتلقي حوالي 22 فيلم يوميا، لكل منها أسلوبه ولغته وشحنته العاطفية والفكرية، وهو أمر أصعب بكثير من استغلال نفس وقت العروض في تلقي أربعة أفلام فقط، حتى لو كان زمن كل منها يعادل زمن ستة أفلام قصيرة.
هذا العام يواصل مهرجان كليرمون زخمه، وازدحامه بالأفلام متنوعة المستوى، الآتية من كل بقاع الأرض تقريبا، ففي المسابقة الدولية وحدها يشارك 79 فيلما يمثلوا 59 دولة. وبين الأفلام المتباينة التي نشاهدها يوميا، اخترنا لكم أبرز عناوين عُرضت في أول يومين من المهرجان.
تفتيش (روسيا)
أحد الأشكال المثالية للفيلم القصير هي الفيلم الذي يدور في تتابع وحيد متماسك زمنيا، بحيث يماثل زمن الفيلم الواقعي الزمن الدرامي السردي. حملة تفتيش من الحماية المجتمعية على منزل امرأة مدمنة كحول، لمتابعة مدى تقدم حالتها والموافقة على استمرار بقاء ابنتها معها. تقدم المخرجة جالا سوخانوفا الحكاية من وجهة نظر المفتشة الصارمة، التي تطبق القانون بحذافيره وتسعى لتفتيش كل تفصيلة لضمان سلامة الابنة.
بكاميرا ترافيلنج تتابع حملة التفتيش من بدايتها وتتجول في أرجاء المنزل الفقير، يخوض المشاهد الحملة مع المفتشة، ويستجوب الفتاة الصغيرة معها حول مكان تواجد والدتها حاليا، وعن مدى تطور حالتها وتنظيمها للمنزل، حتى تأتي الصدمة في النهاية للمشاهد مع المفتشة، عندما تكتشف أن الطفلة هي من تقوم بإدارة المنزل وتخفي حقيقة تدهور حالة والدتها.
عند هذه اللحظة الأمر يخرج لما هو أكبر من التفتيش والفتاة الصغيرة، ليصبح متعلقا بجدوى القانون الذي تنفذه المفتشة ككل، فالمفترض أن هدف القانون هو حماية الطفلة من والدتها، لكن ما يحدث على أرض الواقع هي أن الفتاة تكذب بكل الطرق حتى لا يجبرها القانون على ترك والدتها (والنص القانوني يفترض أن ما يتم هو العكس). صدمة كهذه تجعله فيلما قصيرا مثاليا، ببناء درامي متماسك وجذاب، وطرح فكري يستحق التفكير.
هذا اليوم من الشهر (تايلاند)
جوي ولي صديقتان مراهقتان، يبدأ الفيلم بمشهد طويل لهما تجلسان داخل الفصل، تتبادلات رسائل مكتوبة خفيفة الظل، تحمل مأزق الفيلم: بعد تزامن موعد الدورة الشهرية لكل منهما منذ بلوغهما، تأخرت دورة جوي لأول مرة هذا الشهر. انطلاقا من هذا المأزق العابر، نكتشف تباعا وعلى مدار زمن الفيلم الطويل نسبيا (30 دقيقة)، تعقد العلاقة التي تربط الفتاتين ببعضهما البعض.
اختيار المخرجة جيراسيا وونجسوتين لهيئة الفتاتين شديد الذكاء، فجوي التي نكتشف لاحقا أنها مارست الجنس لأول مرة مع صديقها دون أن تخبر لي، جميلة منطلقة تحاول أن تظهر بصورة الفتاة الجذابة، أما لي التي توجه مشاعرها نحو صديقتها، فهي أكثر جمودا وأقل جمالا، يبدو لك من اللحظة الأولى أنها رغم خفة ظلها، إلا أن ارتباطها بجوي أكبر بكثير من ارتباط الأخيرة بها.
عبر مشاهد طويلة يشغل كل منها عدة دقائق، تتكشف حقيقة ما قامت به جوي، وحقيقة مشاعر لي المضطربة تجاهها، فهي من جهة تغير من جمالها وجرأتها، وتتمنى لو كانت هي من تمتلك حبيبا تقبله وتمارس معه الجنس، ومن جهة أخرى تغير على صديقتها، وتمتلك ميلا يكاد يكون حسيا تجاهها، يدفعها لمحاولة التلاعب حتى لا تتركها جوي وتختار حبيبها. ومع ظهور هذه العلاقة تدريجيا، يقوم الفيلم بإلقاء نظرة ذكية على حياة المراهقات وتكوينهن النفسي، تم تقديمها بحب واضح وانتصار للطبيعة البشرية التي تدفع الإنسان أحيانا للقيام بتصرفات حمقاء، لكنها لا تنزع منه أبدا جاذبيته.
جمال (إيطاليا)
بالرغم من وجود مسابقة مستقلة مخصصة للأفلام التجريبية هي مسابقة “لابو»، فإن هناك بعض الأفلام المعروضة في المسابقة الدولية تمتلك حسا تجريبيا واضحا، من بينها هذا الفيلم الإيطالي الرائع من إخراج رينو ستيفانو تاجليافيرو، والذي اعتمد على فكرة غير معتادة هي بث الحياة في أشهر الأعمال الفنية.
مجموعة مختارة من اللوحات والأيقونات الشهيرة، معظمها ينتمي لعصر النهضة، قام المخرج باستخدام تقنيات التحريك لجعلها تتحرك حركات بسيطة توحي بالحياة، مع جمع هذه الحركات ووضعها في سياق خاص، يعزف بشكل متتال سوناتات بصرية عن حياة البشر: الجمال، الحب، الخوف، الجنس، والموت. بدون أي كلمات وبحركة هادئة رصينة، يقدم المخرج عملا مخلصا للسينما الخالصة كفن مستقل بذاته، حتى لو قام باستغلال عناصر آتية من فنون أخرى، فهو يمزجها بصورة أصيلة وليدة الوسيط بالأساس، لتكون النتيجة عمل بصري ممتع.
ثقب (كندا)
أي عمل يلعب بطولته واحد من ذوي الاحتياجات الخاصة هو عمل مهدد مبكرا بإساءة التصرف، باستغلال معاناة البشر في صناعة فيلم لن يربح منه سوى مخرجه، أو على أحسن الأحوال بالميل للعاطفية المفرطة التي يفرضها التعامل مع حالة إنسانية خاصة. ما سبق يوضح سر إعجابي بالفيلم الكندي “ثقب” للمخرج مارتن إدرالين، الذي تخلص من كل فرص الخطأ السابقة وصنع عملا مثير للاهتمام.
البطل رجل أربعيني، يعاني من إعاقة واضحة في أطرافه تجعله يحتاج لمن يساعده في الحركة، لكنه رغم هذا يمتلك جهازا تناسليا مكتملا، وبالطبع عقل وخيال قادرين على إثارة هذا الجهاز، لنصل للحقيقة المؤلمة وهي أن هذا الرجل عاش أكثر من نصف عمره دون ممارسة الجنس، وسوف يعيش الباقي أيضا محروما منه لأسباب جسدية، بينما يظل عقله ورغبته يمزقانه ويدفعانه لتصرفات غير معتادة، ناهيك بالطبع عن الاكتشاف في منتصف الفيلم بأنه يميل أكثر نحو الذكور أكثر من النساء.
الأزمة النفسية جريئة ومنطقية ومثيرة للتعاطف، خاصة مع أداء الممثل كين هاروار الذي قام بالرغم من إعاقته الجسدية بأداء الدور بصورة أكثر من ممتازة، بحميمية واضحة ربما تشير لتفهمه لمعاناة الشخصية الرئيسية، لتأتي لحظات انكساره مؤلمة بحق، ولحظة راحته وتصالحه كهدية يقدمها صانع الفيلم للجمهور في النهاية.
مول لكلب (المغرب)
بالرغم من الاسم الغريب الذي نحتاج أن يقوم أحد الأصدقاء المغاربة بتفسيره لنا، يظل فيلم المخرج كمال الأزرق واحدا من أمتع الأفلام التي عرضها مهرجان كليرمون فيران هذا العام. حكاية لشاب هادئ، يتمتع بالأمان المادي، ويعيش في هدوء مع أسرته وصديقه الوحيد: كلبه اللبرادور الأصفر. وعندما يترك كلبه لينزل البحر لدقائق يخرج فلا يجده، ليبدأ رحلة غريبة يعيد فيها اكتشاف مدينة كازابلانكا التي عاش فيها طوال عمره دون أن يعلم عنها شيئا.
ما بين الملاهي الليلية وأوكار الدعارة، إلى عربات الشرطة وسوق الحيوانات المسروقة، وصولا إلا حلبات مصارعة الكلاب الدموية غير المشروعة، يعرف يوسف المهذب أنه كان يعيش في مدينة آمنة صنعها خياله فقط، لتكون تجربة ضياع الكلب هي رحلة نضج يمر بها البطل الشاب.
ملحوظة: محبي الحيوانات وأقوياء الملاحظة فقط سيلاحظون أن الكلب الذي ظهر في المشعد الافتتاحي للفيلم يختلف عن الكلب الذي ظهر باقي زمن الفيلم. أمر يبدو بالتأكيد أن سببه ورطة إنتاجية ما، لكنه بالطبع خطأ يمكن تجاوزه قياسا على مستوى الفيلم.
قيادة القطيع (قرغيزستان)
من المثير دائما أن تشاهد إنتاج دولة للمرة الأولى، هذه أول مرة أشاهد فيلم قرغيزي (من قرغيزستان إحدى جمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق)، وكانت النتيجة مرضية جدا.
الفيلم الذي أخرجه روسلان أكون تدور أحداثه بالطبع في الجبال القرغيزية ومراعي الماشية، والطبيعة الإثنية للفيلم متوقعة بالطبع في ظل كونه آت من دولة ذات طبيعة خلابة وعرق خاص وسينما ناشئة، لكن المهم هو عدم استخدام المخرج الطبيعة في صناعة كارت بوستال منزوع القيمة الدرامية، بل جعلها خلفية لرحلة شاقة يخوضها طفل وطفلة بعد أن رحل والدهما وتركهما وسط الجبال يقودان قطيعا كبيرا من الماشية.
بشكل عام هناك أربعة من الأفلام الستة المذكورة في هذه المشاهدات عن رحلة نضوج، على رأسها من حيث تناول الفكرة الفيلم القرغيزي، ربما لطزاجة المكان، أو للتناقض الشديد بين ضخامة العالم وصغر حجم البطلين الطفلين، أو لإمساك المخرج بإيقاع مناسب للدراما بينما كل شيء حوله يغريه بالمشاهد التأملية ذات الزمن الدرامي الميت. كل هذه أسباب لنتيجة واحدة، هي أن الفيلم الآت من دولة لم نعرف عنها من قبل أن بها صناعة سينما، قد يكون أحد الرابحين في نهاية أهم مهرجان للأفلام القصيرة بالعالم.