كان الفنان «جميل راتب» يعتبرُ نفسه ممثلاً مصرياً، هو أكثر تواضعاً من المُبالغات التي كتبتها الصحافة العربية عنه، ووصفته بالممثل العالميّ، تتبعثرُ ذكرياته ما بين الحاضر، والماضي، وتلخصُ مشواراً حياتياً، وفنياً متفرداً، فقد غادر القاهرة في منتصف الأربعينيّات قادماً إلى باريس لدراسة العلوم السياسية، حالما تركها طوعاً، والتحق بإحدى مدارس التمثيل، وخسر المنحة التي كانت مخصصة له، كان يطمح بأن يكون ممثلاً مسرحياً، وارتضى لنفسه المُعاناة المعيشية من أجل طموحاته.
لم يندم على ذاك القرار الذي أجبره الاعتماد على نفسه، ولا هجرته لبلده، فقد حقق أحلامه، وعايش أحداثاً فنية، ثقافية، وسياسية عن قربٍ ما كان له أن يعيشها لو رضخ لرغبة عائلته الارستقراطية بأن يصبح رجل سياسة، وقانون، وكان التمثيل بالنسبة لها عيباً.
تلقفته السينما الفرنسية، والعالمية في أدوارٍ صغيرة كبرت فيلماً بعد آخر، ووصلت إلى بطولاتٍ مطلقة. زيارةٌ عائليةٌ إلى مصر في منتصف السبعينيّات غيّرت من مسيرته، فقد فتحت له السينما المصرية أبوابها بدون أن يبذل جهداً من طرفه، وأثار اهتمام مخرجين عرب، فأسندوا له أدواراً مهمّة في بعض أفلامهم.
تتضمّن قائمة أعماله (وُفق الفيلموغرافيا التي وضعها الناقد السينمائي المصري «محمود قاسم») حوالي 56 فيلماً مصرياً، 5 أفلام لمخرجين عرب، 17 فيلماً أجنبياً، بالإضافة إلى عددٍ كبير من المُسلسلات، والمسرحيات المصرية، والفرنسية.
في السينما المصرية، تعاون مع الكثير من المخرجين، ومنهم: صلاح أبو سيف، علي عبد الخالق، كمال الشيخ، علي بدرخان، بركات، سعيد مرزوق، يوسف شاهين، عاطف الطيب، أسامة فوزي، يسري نصر الله، …..
ومن العرب: محمود بن محمود، مؤمن السميحي، فريد بو غدير، رشيد فرشيو، سمير الغصيني، بوعلام غردجو، عبد الكريم بهلول، وهيام عباس.
ومن الأجانب: كارول ريد، ديفيد لين، إدوارد مولينارو، مارسيل كارنيه، بيير غرانييه ديفير، ……
في هذا اللقاء الطويل جداً بمُناسبة تكريمه في الدورة الثامنة لمهرجان دبي السينمائي الدولي (7-14 ديسمبر2011)، وتعيد نشره «سينماتوغراف» بعد رحيل الفنان الكبير.
يتذكر «جميل راتب» بكثيرٍ من الحنين، والإعجاب فتراتٍ متألقة من حياته، اقترب خلالها من عمالقة الفكر، السينما، والمسرح، ذخيرةٌ من الحكايات لم ينسَها في زحمة العمر، يحكيها بنفس الصوت القويّ الخشن الذي يتردد في أفلامه.
لا يشتكي من غربةٍ، ولا يتذمرّ من وحدةٍ إبداعية تخيّرها لنفسه، راضياً عن مشواره الفني، والحياتي، يحبّ جمهوره المصري، ولا يتوانَ عن الاعتراف بالجميل نحوهم، ويطرب عندما يُناديه أحدهم بكلمة “عمي”.
ولذلك، لم تكن صدفةً عرض فيلميّن من أفلامه: المصري “البداية” (1986) لمُخرجه “صلاح أبو سيف”، والفرنسي “غيمةٌ في كوب ماء” (2011) لمُخرجه “سرينات كريستوفر ساماراسينغ”.
(1)
“أعتبرُ تكريمي في الدورة الثامنة لمهرجان دبيّ السينمائي الدولي بمثابة اعترافٍ بخبرتي في الفنّ، أعلم بأنّ المهرجان كرّم سابقاً ثلاثةً من الفنانين المصريين: فاتن حمامة، عمر الشريف، وعادل إمام، وعندما يضعني في نفس مستوى هؤلاء الكبار، فهو شرفٌ كبيرٌ لي كمصريّ، ولبلدي مصر”.
هكذا بدأ حواري مع الفنان «جميل راتب» الذي امتدّ إلى جلستيّن مُتعاقبتيّن في صالون بيته الباريسيّ الهادئ، كنتُ في كلّ مرةٍ أتصلُ به، يُحدد لي موعداً في الرابعة بعد الظهر، ولم أعرف حتى الآن ما هو سرّ هذا التوقيت بالذات، ردوده التلفونية مُكثفةٌ، ومُركزةٌ للغاية، كنت أعتقد بأنني أوقظه من نومٍ صباحيٍّ متأخر، أو قيلولة، صوته منهكٌ بلا شكّ، ولكنه لم ينسى أن يُملي عليّ كلّ التفاصيل اللازمة للوصول إلى بيته بسهولة، يتوقف عند كلّ رقم، ينطق كلماته القليلة كما يُمثلها في أفلامه، عندما كنت أصل إلى مواجهة البناية التي يسكن في أحد بيوتها، وأضغط على زرّ الهاتف الخارجي، كانت تخرج منه كلماتٍ مُتحشرجة:
ـ الدوور الأوااال..
وما أن أفتح باب المصعد الذي لا يتسّع لأكثر من شخصيّن نحيفيّن في أحسن الأحوال، وأحشر نفسي فيه، حتى يصل سريعاً إلى الدوور الأوااال، وأجد «جميل راتب» واقفاً أمام باب بيته منتظراً، يستقبلني بابتسامةٍ خفيفة يُغلفها بعض حزنٍ عميقٍ.
ـ أهلا، عرفت تُوصل بسهولة؟
كنت أتخيل بيته أكثر اتساعاً، وكانت تخطر في ذهني بعض التوقعات الفانتازية عن ممثلٍ قضى عمره في المسرح، السينما، والتلفزيون.
لم أحاول التباطؤ كثيراً، اخلع سترتي، وأُخرج أوراقي، وقلمي، وأجلس أمامه أفكر كيف أبدأ، وأنا الذي شاهدتُ له أفلاماً قليلة في فتراتٍ متباعدة جداً، وكي أستعدّ لهذا الحوار الذي لم يكن في حساباتي بدون هذه اللمسة التكريمية من مهرجان دبيّ، قرأت، واستفدتُ من بعض الكتابات الصحفية عنه، ولكن، بشكلٍ خاصّ، مراجعتي لمُسودة النصّ الذي كلفني المهرجان بمُتابعة تنفيذه مع الناقد السينمائي المصري «محمود قاسم».
في الكتابات، والحوارات التي قرأتها، وجدتُ بأنّ «جميل راتب» حكى للصحافة عن كلّ شيء في حياته، ولا أعرف ماذا تبقى لي، وكيف أهرب من تلك المعلومات المُكررة، وأستخلص منه أخرى جديدة.
كان امتحاناً حرجاً بالنسبة لي، خاصةً، وأنه حواري الحقيقيّ الأول مع ممثل، لأنني خلال مشواري النقديّ، كنت أتحاشى دائماً إجراء حواراتٍ مع مخرجين، أو ممثلين.
في الخفاء، أراقب حركاته المُتمهلة، تعود مشاهدتي له في فيلمٍ ما إلى فترةٍ طويلة، تخيلتُ بأنني سوف ألقاه في نفس الصورة القديمة التي انطبعت في ذهني عنه، ولكنّ الزمن ترك آثاره، أتطلع إليه يقطع المسافة ببطءٍ من باب البيت، وحتى الكنبة في الصالون، لم ينتظر طويلاً، وسألني:
ـ بتشرب إيه؟
تخيرتُ الامتناع عن احتساء أيّ مشروبٍ يقدمه لي كي لا أُزيده إرهاقاً، وبالآن ذاته، أُشغله عن حوارٍ طويلٍ أتوقعه رُبما يحتاج إلى جلساتٍ عديدة.
الصالون دافئٌ جداً، يشجع على نومٍ أقاومه، خطرت في بالي فكرةً مزعجة، ماذا لو غفوتُ لثواني، أو غالبه النعاس أمامي، سوف تكون طرفةُ حقيقية.
تركته يتحدث كما يريد، فقد تبيّن لي بأنه لا يحتاج إلى أسئلة، هو يحفظ عن ظهر قلبٍ ما يريد أن يقوله، فقط، كنت أسجل خطياً معظم ما سمعته منه، وخلال الجلستيّن جمعتُ مادةً وفيرةً.
لا أمتلك أرشيفاً ورقياً، أو بصرياً أستعين به، ولا أفلاماً أشاهدها له، وأتفحص أدواره فيها، تساءلتُ في داخلي عن موهبة الكثير من الإعلامييّن، والصحفييّن، وقدراتهم على إجراء حواراتٍ مع ممثلين، ومخرجين بدون أن يشاهدوا أفلامهم.
الصدفة وحدها قادتني إلى مشاهدةٍ ثانية لأحد أفلامه عن طريق قرصٌ مدمج يحتوي على مجموعةٍ من الأفلام المغاربية منسوخةً بطريقةٍ غير شرعية عند عرضها على شاشات قنواتٍ تلفزيونية عربية، ومنها الفيلم التونسيّ «صيف حلق الوادي» من إنتاج عام 1996 لمخرجه «فريد بوغدير».
في الفيلم يعيش «جميل راتب» دور «الحاج» بعيداً عن التجانس الذي يجمع باقي الشخصيات في بطولةٍ جماعية تُجسّد حالةً اجتماعيةً فريدة في ذلك المكان فترة نهاية الستينيّات على الرغم من الاختلافات الفكرية، والدينية بينها.
«الحاج» صاحب البيت الذي تسكنه عائلةُ مسلمة، سبعينيٌّ يشتهي الصبية «مريم» المُتوقدة جمالاً، والتي بدورها تتعمّد إيقاظ أحاسيسه الجسدية المُوشكة على الانطفاء.
في الفيلم لا يتحدث «الحاج» كثيراً، ولكنه حاضرٌ بقامته العالية، ونظراته الشهوانية المُركزة، وهو يتلصص على «مريم»، ويتلظى بنار الغيرة من شبابٍ يعيشون تحولاتهم العاطفية، والجنسية.
في آخر مشهدٍ للحاج في الفيلم، تذهب «مريم» إلى بيته، وبدون ترددٍ، أو إبطاءٍ، ترفع عنها الغطاء الذي لفت به جسدها، وتقف أمامه عاريةً تماماً، وتُلخص نظراته حالته النفسية، والجسدية، وهو يركع أمامها، ويبحلق فيها مندهشاً حدّ الموت.
مشهدٌ صادمٌ، ومفتوحٌ على تفسيراتٍ متعددة، لقد استخدمت «مريم» جسدها سلاحاً تدافع به عن نفسها، وأفكارها المُنطلقة، والمُتحررة، وفي نفس الوقت، انتقمت من «الحاج» الذي طرد عائلتها من البيت بسبب تأخر أبيها «يوسف» عن دفع الإيجارات الشهرية.
في حواري مع «جميل راتب»، لم أكن قد شاهدت الفيلم بعد، سألته:
ـ هل تتذكر مشهد «مريم» وهي تتعرّى أمامك؟
ـ نعم، لقد كان آخر مشهدٍ لي في الفيلم، لأنني عندما شاهدتها عاريةً، وقعت على الأرض ميتاً.
ـ كان المُفترض بأن تقتلك؟
ـ لأ، أصل انبهرت بجمالها، فمتّ…. من الإعجاب طبعاً…
سوف تمرّ أسابيع على ذلك اللقاء قبل أن يزوّدني بعض زملاء المهنة الطيبين بأفلامٍ أخرى شارك «جميل راتب» في تمثيلها، بدأت أشاهدها تباعاً، وهي فرصة لمُراجعة أعماله، وأفلام المخرجين الذين عمل معهم.
وبينما تنتهي حياة «الحاج» في المشهد الأخير من الفيلم التونسيّ «صيف حلق الوادي» لمخرجه «فريد بوغدير»، يموت «رشدي عبد الباقي» (جميل راتب) برصاص مسدس «مصطفى حسين» (محمود ياسين) في بداية الفيلم المصري «على من نُطلق الرصاص» من إنتاج عام 1975 لمخرجه «كمال الشيخ»، حدثت عملية الاغتيال في لقطةٍ سريعة جداً لم تُوفر للمتفرج إمكانية التعرّف على شكل الضحية، وسوف نراه لاحقاً في المستشفى راقداً فوق سريرٍ نقال، ولكننا، سوف نتعرّف عليه عن طريق أقوال الشخصيات الأخرى المُحيطة به، وبشكلٍ خاصّ، زوجته «تهاني فؤاد» (سعاد حسني)، ونكتشف تدريجياً دوافع الجريمة، وأسبابها، ونفهم بأنه العقل المُدبر لقتل خطيبها السابق المهندس «سامي عبد الرؤوف» (مجدي وهبة) في السجن، بعد توريطه في قضية سرقة مواد البناء التي تسببت في انهيار إحدى المباني السكنية التي أشرفت على بنائها «شركة المقاولات العصرية» التي يرأسها «رشدي بيه»، وعلى الرغم من أهمية هذه الشخصية، حيث تنطلق الأحداث منها، وتتمحور حولها، لن يشاهدها المتفرج في الفيلم كثيراً، وكأنها أصبحت رمزاً يصعب الاقتراب منها، وتحولت في الفيلم إلى واجهةٍ لشخصياتٍ أخرى أكثر تورطاً في الفساد.
في هذا الفيلم الذي تعتبره أدبيات الثقافة السينمائية العربية واحداً من الأفلام السياسية التي تُذكرنا بالتحقيقات البوليسية حول قضايا اغتيال، لا يمنح السيناريو مساحةً كبيرةً للتعرّف على القدرات التمثيلية للفنان «جميل راتب»، ولهذا، رُبما لن ينطبع كثيراً في ذهن المتفرج، ولن يتذكره إلاّ في أدوارٍ لاحقة.
عن دوره في هذا الفيلم، وعلاقته مع المخرج الراحل «كمال الشيخ»، ألتقطُ فقرةً من حواري معه:
يقول «جميل راتب»:
ـ خلال مسيرتي المهنية، تعاملتُ مع مخرجين لا يُوجهون الممثل، وهناك مخرجون كبار لا يهتمّون بهذا التوجيه، في أول عملٍ لي مع «كمال الشيخ» في فيلم «على من نطلق الرصاص» (1975)، كنت أنفذ مشهداً مهماً مع «سعاد حسني»، وبعد تصويره فكرت في أدائي، واعتقدت بأنه لم يكن صحيحاً، وينقصه أحاسيس أخرى، بينما اكتفى المخرج بطريقة الأداء تلك، وهكذا فهمت بأنه يترك الممثل يعتمد على نفسه، وقد حدث نفس الأمر في فيلم «الصعود إلى الهاوية»، وفهمت بأنه يتحتم عليّ الاعتماد على نفسي.
في المقابل، هناك بعض المخرجين المُبتدئين لا يمتلكون القدرة الكافية على قيادة الممثل، وهنا يجب أن يعتمد على نفسه في أداء دوره، وهناك آخرون من الكبار يعرفون تماماً ما يريدون، مثل (صلاح أبو سيف، كارول ريد، وديفيد لين)، في هذه الحالة استسلم أمامهم، وأنفذ ما يطلبونه مني.
بالنسبة لي، أفضل الأفلام التي مثلتها تلك التي تحتوي على مضامين سياسية، واجتماعية، «على من نطلق الرصاص» 1975، و«الصعود إلى الهاوية» (كمال الشيخ) 1978، «البداية» (صلاح أبو سيف) 1986، «البرئ» (عاطف الطيب) 1986، «كش مات» (رشيد فرشيو) 1994.
بعد أن شاهدت «على من نطلق الرصاص»، تبيّن لي بأنّ المشهد الذي أشار إليه «جميل راتب» يحدث في مكانٍ واحد، غرفة «رشدي بيه» في المستشفى، ولكن في أيام متتالية، وفي الحالتين يتمدد فوق سريره، عاجز عن فعل أيّ شيء، يتحدث مع زوجته «تهاني» بصوتٍ ضعيفٍ واهن، يتوسل إليها بالأحرى، هي التي بدأت تشكّ في ممارساته السابقة، وعندما تتأكد بأنه خطط لقتل خطيبها السابق «سامي»، وأكثر من ذلك متورطٌ في قضايا فسادٍ كبيرة تسببت بمقتل مواطنين تحت أنقاض بيوتهم المُتهدمة، تقرر مواجهته، والإبلاغ عنه، ولكنّ قراراتٍ عُليا تطلب إغلاق الملف..
في الحقيقة، ربما يكون «جميل راتب» على حقّ عندما شعر بعدم الرضا عن أدائه، فقد كانت «سعاد حسني» تسيطر تماماً على المشهد في دورٍ يُحسب لها أكثر من أيّ ممثلٍ آخر في الفيلم.
(2)
ـ كانت بداية مشواري الفنيّ أدوار بطولة في المسرح الفرنسي، ولكن، في السينما أدواراً ثانوية، كما أخرجتُ أفلاماً للتلفزيون الفرنسي.
عندما كنت في مصر، وقبل سفري إلى فرنسا، مثلتُ دوراً بسيطاً في فيلم بعنوان «الفرسان الثلاثة»، كان ذلك في الأربعينيّات، وكنت أحبّ التمثيل، وكانت عائلتي تُعارضني، ومنعتني من مشاركتي في الفيلم، وطلبت من المخرج حذف المشهد الذي مثلته، كانت الأبواب، بالنسبة لي، مغلقة تماماً، كنت في تلك الفترة أدرس الحقوق، ومن ثمّ جئتُ إلى فرنسا لدراسة العلوم السياسية، وكان لديّ منحة اعتمدت عليها في معيشتي، ولكنها توقفت، والتحقت بمدرسة التمثيل، وبدأت أعمل مع فرقٍ مسرحية بسيطة في مسارح صغيرة، وكنت أشارك في أدوار رئيسية، كما عملت في أشغال خارج التمثيل كي أنفق على نفسي، اشتغلت كومبارس، وفي سوق الخضار، ونادل في مقهى، ومترجم،…، ويوماً بعد يوم، أصبحت معروفاً كممثل، وهكذا أكملت مشواري، كانت الخطوات الأولى صعبة في البداية، ومع إصراري، بدأت أهدافي تتحقق تدريجياً.
في أواخر السبعينيّات، ذهبت إلى مصر كي أُنهي أعمالاً عائلية، قبل ذلك كنت أزورها كلّ سنتين تقريباً، وخلال تلك الزيارة تعرفت على الشاعر «صلاح جاهين»، كان إنساناً، وصديقاً عظيماً، ومن خلاله اقترح عليّ المخرج «كرم مطاوع» دور البطولة في مسرحية بعنوان «دنيا البيانولا»، وافقت، وخلال فترة قصيرة انهالت عليّ العروض من أهمّ المخرجين كي أمثل أدواراً مهمة في مسلسلاتٍ تلفزيونية، ومنذ تلك الفترة، بدأت أخطو خطواتٍ جديدة في حياتي.
في الحقيقة، لم يكن هدفي التمثيل في السينما، ولم أكن أحبّ الوسط السينمائي، وكنت أفضل العمل المسرحي ممثلاً، ومخرجاً، ولكن انتقالي إلى السينما، والتلفزيون حوّل حياتي الفنية، وكسبتُ شعبية كبيرة في مصر.
وصلت إلى فرنسا في مرحلةٍ إبداعية غنية جداً من الناحية الفنية، والثقافية، وكان هناك كبار المفكرين، والمخرجين، عشتُ في وسط تلك المرحلة، وقريباً من تلك الشخصيات العظيمة، لو لم أحضر إلى فرنسا في سنّ العشرين ما كنتُ عايشت ذاك المناخ الذي أثرّ في تكويني الفكري، ولهذا أعتبر نفسي محظوظاً من هذه الناحية.
منذ أن كنت صغيراً، أحبّ السينما، وأحرص على مشاهدة كلّ الأفلام، ولكن، كان هدفي التمثيل في المسرح الذي كان في مرحلة انفتاح كبيرة جداً.
ـ بعد نجاحي في مصر اشتركت في أعمالٍ مهمة جداً، هناك بعض الأفلام المصرية التي أعتبرها من أهمّ الأعمال، «الصعود إلى الهاوية» للمخرج كمال الشيخ استلمت أول جائزة تمثيل عن هذا الفيلم، ومن ثمّ «البداية» للمخرج الكبير صلاح أبو سيف، وحصلت عنه على جائزةٍ من أحد المهرجانات في سويسرا، وفيلم «لا عزاء للسيدات» للمخرج بركات مع الفنانة فاتن حمامة.
هناك فيلمٌ تونسي «شيشخان» حصلت عنه على جائزة في إحدى دورات «بينالي السينما العربية» بباريس، وأخرى في باستيا (كورسيكا)، …
«وداعاً بونابرت» فيلمٌ مهم، وأيضاً «لورانس العرب»، ولكن لم يكن دوري فيهما رئيسياً، في «شيشخان» كنت أتحدث اللهجة التونسية، عندما صورت في تونس، أجرى المخرج، والمنتج بروفات تمثيل لأول مرة، وطلبا مني بأن أتكلم باللهجة المصرية، أو اللغة الفرنسية، قلت لهما: لا يمكن، أمهلوني أسبوعاُ، وبالفعل، بعد أسبوع بدأت أتكلم باللهجة التونسية، ولكن اللهجة الأسهل، بالنسبة لي، هي المصرية طبعاً.
ـ في مرحلةٍ من مسيرتي الفنية تحتم عليّ قبول بعض الأدوار، عندما قررت الاستمرار في مصر، كان لابد من إثبات وجودي في أفلام خفيفة، في الحقيقة، مثلتها بهدف الانتشار، وكنت أعرف بأنّ قيمتها محدودة، كانت أفلاماً جماهيرية، ولم تكن سيئة في إطار نمط الإنتاج وقتذاك، ولكن ليست من النوعية التي أرغب بمشاهدتها كمتفرج.
وبعد ذلك بدأت أختار الأفلام التي تُناسب أفكاري السياسية، والاجتماعية مع مخرجين كبار، ولكنني عملت مع الكثير من المخرجين الشباب الذين كانوا ينجزون أفلامهم الأولى، وكنت سعيداً بأن يعرضوا علي أدواراً، كانوا يعتبروني من نوعية الممثلين القدامى، وكانت بالنسبة لي أفلاماً مهمة، لأنني كنت أتعرف على السينما الجديدة، وأولئك الشباب، وثقافتهم، أصبح البعض منهم مشهورين، كانوا يشكلون مستقبل السينما المصرية، ولم تكن أفلامهم تافهة، كان ذلك الجيل يمتلك هماً ثقافياً في مرحلة مهمة في السينما المصرية، وبما أنهم كانوا شباباً، فقد كانت لديهم اهتمامات بالقضايا الاجتماعية، والسياسية، وقدموا في أفلامهم مواضيع محظورة مثل الجنس، الدين، والحريات،…
لن أقول عنهم بأنهم شباب الثورة اليوم، ولكنهم كانوا يعكسون في أفلامهم الأفكار الشبابية، عندما كنت ألتقي بواحدٍ منهم، كنت أحرص على التعرّف عليه، وأقتنع بأفكاره، كانت مغامرة بالنسبة لي، فقد لا ينجح الفيلم رُبما، ولكن، عندما يحقق نجاحاً، كنت بدوري أنجح معه، وكان من المهم أن ينجز هؤلاء تلك الأفلام.
اليوم مثلاً، لا أقبل العمل إلاّ في أفلام تتضمن معنى، ثقلاً، ومضموناً حتى وإن فشل الفيلم، أنا على استعدادٍ للعمل فيه أفضل من المشاركة في أفلام تقليدية.
مازلت أحتفظ بنسخ بعض هذه الأفلام، أشاهدها أحياناً بالصدفة عندما تبثها إحدى القنوات التلفزيونية.
عندما أشاهدها، أحاول التدقيق في نقاط الضعف لتحسين أدائي في المرات القادمة، وعندما أجد في دور معين الأداء جيداً، أعترف لنفسي بأنني لن أستطع تكراره في فيلم آخر، في المسرح مثلاً، عندما نشاهد ممثلاً سيئاً نتعلم منه كثيراً، الأفلام الجيدة التي عملتها لا أستطيع أن أعملها بطريقةٍ أخرى، هناك أدوار نجحت فيها، وأخرى أديتها بصدق، ولكنني لست نادماً عليها.
ـ أعتزّ بدوري في فيلم «جنينة الأسماك» لمخرجه يسري نصر الله، وحصلت على جائزة عنه على الرغم من صغره، وأيضاً دوري في فيلم «عفاريت الإسفلت» لمخرجه أسامة فوزي.
من القدامى، أحبّ العمل مع (صلاح أبو سيف، كمال الشيخ، وبركات)، عندما أعمل مع المخرجين العظام أبقى متواضعاً جداً، هم يقودون العمل، وأنا في خدمتهم.
ولأنّ (أسامة فوزي، ويسري نصر الله) أصغر مني سناً، فإنّ علاقتي معهما تختلف بالمقارنة مع المخرجين القدامى الذين كانوا أكبر مني، كنت مطيعاً لهم بالمعنى الفني.
الآخرين مهمين جداً، لأنه يوجد تبادل فكري معهم، ويضخون دماء جديدة في العمل، والفنّ، وكنت أتناقش في تفاصيل معينة.
ـ كان «سيدة القطار» لمخرجه «مؤمن السميحي» من الأفلام غير الناجحة، عندما قرأت الموضوع، وجدته جيداً، ومن تونس عملت مع (فريد بو غدير، ورشيد فرشيو).
كان «شيشخان» أول فيلم مثلته في تونس، وبدأت الحكاية عندما مثلت مع «علي بن عياد» دور «عطيل» في مسرحيةٍ بمناسبة افتتاح أحد المسارح المهمّة، كان أكبر ممثل، ومخرج في ذلك الوقت، والتقينا مع (محمود بن محمود، وفاضل الجعايبي)، وكانا وقتذاك طلبة في الجامعة، وبعد مشاهدتهما للمسرحية، قالا لي: سوف نعمل معاً في يوم من الأيام، كانوا ظرفاء جداً، أتذكر بأنهما قالا لي بأنّ الشخصية عمرها 75 عاماً، وكان عمري في ذلك الوقت 50 سنة، وعندما تحققت طموحاتهما، وبدآ بإخراج الفيلم، اتصلا بي فعلاً، وبعد اليوم الأول من العمل معهما، طلبا مني بأن أؤِدي الدور كما أريد.
هناك فيلمٌ آخرٌ مهم من الناحية السياسية، «كش مات» للمخرج التونسي «رشيد فرشيو»، يلخص حكاية رئيس جمهورية فاسد في بلدٍ عربي، يعيش في الغربة، ويراجع حياته الماضية، وأعتقد بأنّه مناسبٌ للعرض في هذه الفترة.
ويجب القول بأن المسرح، والسينما التونسية، من أحسن المسارح، والسينمات العربية، فقد أنجزوا أعمالاً قوية، يمكن القول بأنّ المستوى الفني، والثقافي في تونس عالي جداً.
(3)
ـ كان أول فيلم أجنبيّ اشتركتُ فيه هو «ترابيز» لمُخرجه «كارول ريد»، ومن ثمّ عملتُ مع مخرجين آخرين، ومنهم (مارسيل كارنيه، وديفيد لين)، وهو مكسبٌ كبير لأيّ فنان.
هناك ممثلٌ عظيمٌ جداُ عملت معه في فيلم «لورانس العرب»، واستفدت منه، ومن إنسانيته، وأصبح من أكبر أصدقائي، هو «أنطوني كوين»، كان يعتبرني مثل أخيه الصغير، واكتسبت الكثير من علاقتي معه على المستوى الفني، والإنساني.
كان «أنطوني كوين» يوماً في روما يمثل «زيارة السيدة العجوز»، وأرسل لي بطاقة سفرٍ كي ألتقي مع المخرج، وعندما وصلت هناك، فوجئت بأنه لا يوجد دوراً لي، فعرضوا عليّ العمل كمساعد، وافقت، لأنني كنت مهتماً بالإخراج السينمائي، فقد أخرجت سابقاً أفلاماً للتلفزيون الفرنسي لصالح قناةٍ متخصصة بأفلام موجهة للمغرب العربي.
من حظي في المسرح الفرنسي بأنني عملت مع ممثلين مهميّن مثل (لوران تيرزييف، وسوزان فلون)، … كان أغلب الممثلين الذين عملت معهم من طراز عالٍ جداً، وكان العمل معهم مكسباً كبيراً لي.
فيما يتعلق بالممثلين العرب، كان هناك تفاهمٌ فنيّ مع (سناء جميل، محسنة توفيق، فاتن حمامة، وسعاد حسني)، ولكن «فاتن حمامة» مهمة جداً، فهي ممثلة كبيرة، ولا أحد يستطيع انتقاد أدائها، هي «أم كلثوم» السينما، لا يوجد نقاش حولها، هناك فنانون كبار، ولكن هي خارج هؤلاء تماماً.
عملت أيضاً مع (نادية لطفي، سعاد حسني، مريم فخر الدين، مديحة يسري، وهدى سلطان)، … وأغلب الممثلات اللاتي أصبحن نجماتٍ في غيابي، لو كنت بقيت في مصر، كنا نجحنا مع بعض.
بالنسبة للممثلين الرجال، هناك واحدٌ مهمٌ جداً، وأعتبره أستاذاً كبيراً، هو «محمود المليجي»، وفي المسرح، والتلفزيون أحب العمل مع صديقي «محمد صبحي»، هو مخرج، مؤلف، وممثل عظيم في المسرح، ولكن، لم يستطع أن يكون بنفس الحجم في السينما، إنه فنان كبير، واستفدت منه كثيراً، عملت مع أغلب الممثلين الرجال: (صلاح السعدني، نور الشريف، وعادل إمام)، … ولكن، بالنسبة لي، كممثل، لا أعتقد بأنهم أضافوا لي كما فعل كلٍّ من (محمود المليجي، ومحمد صبحي).
«محمود المليجي» إنسانٌ متواضعٌ جداً، فنانٌ كبير، يهتم، ويركز في عمله، اشتغلت معه في بعض الأفلام، وكنت حريصاً بأن أكون في مستواه، هو من الممثلين العظام الذين خدموا الفن بصدقٍ، واحترام.
كما كنت من المُعجبين جداً بممثل عظيم هو «محمود مرسي»، هناك بعض الأدوار التي رفضها، وطلب من المخرجين، والمنتجين بأن يقترحوها عليّ، كان من المفترض بأن يمثل في مسلسل «الراية البيضاء»، ولكنه اعتذر، ومثلت الدور بدلاً عنه، كان مهماً بالنسبة لي، لقد أثرّ على كثيراً في الفنّ، وعلى المستوى الإنساني.
من الأسباب المهمة التي جعلتني أغادر مصر هي حبّ الأعمال الفنية، فأنا حالياً أعيش بين البلدين، لأني تعودت العيش في فرنسا في أجواءٍ ثقافية، وفنية مهمة جداً أكثر من مصر.
ـ كنت واحداً من ممثلي «الفرقة الفرنسية للكوميديا»، وكان رئيسها عضواً في «الكوميدي فرانسيز»، وهو أحد الذين ساعدوني على العمل، والانتشار في الفنّ، ولم أكن عضواً في «الكوميدي فرانسيز»، وهذا التشابه جعل الصحفييّن يكتبون بأنني عملت مع «الكوميدي فرانسيز».
مثلت مع ممثلين في جولات، بدأنا جولة في عددٍ من البلدان العربية، وكنت أمثل دور البطولة، كانت الفرقة اسمها «تروب فرانسيز دي كوميدي» بإدارة «جان مارشا»، الحقيقة هو الذي اختارني.
هناك شخصية مهمة في تلك المرحلة، «غابي مورليه»، واحدة من أكبر الممثلات، كانت صديقة للعائلة، ولخالي «محمد سلطان»، وكنا نعتبرها مثل خالتنا، عندما جئت إلى باريس فرحت بي جداً، حاولت مساعدتي، ولكن خالي رفض، نقل لها أكاذيب عني، حتى اليوم الذي شاهدتني في حفل تخرجي من مدرسة التمثيل، كانت في لجنة التحكيم مع «جان مارشا»، وبعد أن حصلتُ على الجائزة الثانية، قالت لي بأنّ اللجنة رغبت بأن تمنحك الجائزة الأولى، ولكني اقترحت على الأعضاء بأن يمنحوك الجائزة الثانية، وقررت أن تساعدني، عندما وجدتني في الأستوديو، اندهشت، وقالت :
ـ يستطيع هذا الشاب البقاء في بلده معززاً، مكرماً، ولكنه يعيش في باريس بتواضع، لقد ترك كلّ شيء في مصر، وجاء إلى فرنسا من أجل المسرح.
وتحدثت مع المخرج، ومنحني دوراً صغيراً.
كان «سليمان نجيب» ينظم الموسم المسرحي في مصر، ويعرف الممثلين الأجانب، قابل «جان روشا» وقال له:
ـ هل تعرف ممثلاً مصرياً اسمه «جميل راتب»؟
ـ نعم أعرفه.
ـ هل تعتقد بأنه يستطيع التمثيل في فرقتك.
وأعطوني دور البطولة.
كان «سليمان نجيب» يعتقد بأنه من المهم أن تتضمّن دار الأوبرا ممثلاً مصرياً، كان رجل مسرح، ويحب المسرح.
(سليمان نجيب، جان مارشا، أنطوني كوين، غابي مورليه)،… هؤلاء ساعدوني في حياتي الفنية بالدعم المعنوي، وبطرقٍ مختلفة، وهذا أمرّ لا أنساه أبداً، لقد رحلوا عن عالمنا جميعاً، وأفكر أحياناً بأنني لم أعرف كيف أعبر لهم عن شكري، ولكن هذه هي الحياة.
عشت في فرنسا ثلاثين سنة قبل العودة إلى مصر، بعد تلك السنوات الطويلة، تعرفت على الشعب المصري، وأدركتُ بأنه من أعظم الشعوب، شعرت بمصريتي، ويتحتم عليّ الإشارة بأنني أحب الجمهور المصري الذي رضيّ بي، بدون قبول المصريين ما كنت أصبحت ممثلاً معروفاً، وأنا نفسي مندهش لقبولي، إذا لم يتبنى الجمهور ممثلاً لن يمتلك أيّ حضور.
خلال فترة قصيرة، تعرفت على الشعب المصري، تستقطب مهنتي كلّ الفئات الاجتماعية، البورجوازيين، والعمال من كلّ طبقات المجتمع، ومن خلال معاشرتهم يستطيع الواحد منا أن يفهم ماذا تعني مصر، والمصريين، وأنا قريب جداً من الناس البسطاء، وفي عملي أعتمد على آراء العمال، لأنهم صادقون، عندما أمثل مشهداً، وأتلقى منهم إشارة الرضا، هذا يعني بأنني أديت دوري بطريقةٍ صحيحة.
عندما حصلت على بعض الشهرة، يمكن أن ألتقي بممثلٍ يجاملني، ويقول لي: إنت هايل، أو يقول لي: إنت زي الزفت، وهنا رُبما يحسدني، ولهذا، أعتمد على الجمهور لأنه صادق.
هناك ثلاث وقائع عشتها، وأثرت عليّ جداً، في إحدى المرات، كنت أشارك في برنامج تلفزيوني، وكان هناك حوار معي، وكنا نتلقى مكالماتٍ من الجمهور، عندما انتهى اللقاء، قالت لي مقدمة البرنامج:
ـ هل هناك أشخاصاً تريد أن تشكرهم؟
قلت لها: نعم، ثلاثة.
ـ من هم؟
ـ أولاً، سائقٌ، وقف، نزل من الأوتوبيس، سلم عليّ، وصعد مرة أخرى، لقد أثرت تلك الواقعة علي كثيراً.
في مرةٍ أخرى، كنت في المطار أنتظر صعود الطائرة، تقدمت نحوي سيدة تعمل في النظافة، امرأة بسيطة جداً، نظرت إلي، وغابت، ثم عادت، وقدمت لي زجاجة من المياه الغازية، وقبل أن أشكرها، اختفت وسط الزحام.
في مرةٍ ثالثة، سافرت إلى القاهرة، وأوصلني سائق تاكسي إلى بيتي، وفي الطريق دار بيننا حديث عن الأولاد، وفي لحظةٍ وجه لي سؤلاً:
ـ وحضرتك عندك أولاد، أجبته بالنفي، فردّ علي فوراً:
ـ ولا يهمّك، كلنا أولادك، ..
هذه ثلاث وقائع حدثت معي، وتأثرت منها جداً، وأريد أيضاً أن أشكر الجمهور، لولا تبنيه لي، لما حظيت على شهرتي هذه، أنا لست نجم شباك، ولكن وجودي في العمل مهم، وما يريحني، ويخدمني الشعبية، وأقولها بتواضعٍ، بأنها أكبر من النجوم الكبار، الجمهور قريبٌ مني، وأنا بدوري قريبٌ منهم، وأحسّ بهم.
ـ أنا معجبٌ بالكثير من الممثلين، ولا يعني بأنهم أثروا في تكويني، يجب أن يمتلك الممثل نوعاً من الموهبة، أو الحضور، قال لي «أنطوني كوين» مرةً، بأنّ الممثل يصبح في قمة الأداء بعد 30 سنة، في البداية شجعني كبار المخرجين، ولكن الممارسة، والمجهود في العمل هو الذي يجعل الممثل يتقدم.
مثلت كثيراً في المسرح، وعندما رجعت إلى مصر عرضوا علي أدواراً سينمائية، كانت فرصة بأن أعمل في السينما، لأنّ العمل فيها مختلف عن المسرح، والتلفزيون.
وافقت على أعمالٍ كثيرة، جيدة، وغير جيدة، لا أخجل من الأعمال التي مثلتها، تعتبر في الوضع العام للسينما المصرية أعمالاً جادة، وفرصة بأن أمثل شخصيات مختلفة، كانت تجربة مفيدة، كنت أوافق على فيلم إذا كان الدور يمنحني فرصة للتعبير.
بالنسبة للأدوار المختلفة، بوليسية، أو كوميدية في الأفلام التجارية، كان يعنيني منها الأدوار جيدة، وفرصة بأن أجرب، أمارس، وأتعلم، وأتعوّد على هذه الأدوار، وكنت أفكر بأنه عندما يكبر الممثل في المهنة يمكن أن يختار، وهو ما حدث معي فعلاً.
ـ كان من المفترض بأن أنجز فيلماً بعنوان «عصفور الشوارع»، عرضت على الممثلة، والمخرجة الفلسطينية «هيام عباس» بأن تعمل معي، وأمثل الدور الرئيسي، ولكن، مع الأسف، لم نستطع الحصول على تمويل للفيلم، وما زلت أحتفظ بالسيناريو.
(4)
ـ لو كانت الفرصة قد سنحت لي، لما ترددت بالذهاب إلى أمريكا، ولكن، كنت أريد التخصص في المسرح، وليس السينما، وفكرة ذهابي إلى أمريكا مرتبطة بالسينما، ولكنني لم أبذل أيّ مجهود كي أدخل المجال السينمائي بطريقةٍ قوية، حتى في فرنسا كان اهتمامي موجهاً نحو المسرح، هذا يكفيني، لم يكن هدفي السينما، ولكن، عندما رجعت إلى مصر، عرض علي مخرجون كبار، بدون أن أسعى إلى ذلك، بأن أمثل أدواراً جيدة جداً، ودخلت في مجال السينما من غير مجهود، ومنذ تلك الفترة أصبحت ممثلاً مسرحياً، وتلفزيونياً، وسينمائياً.
ـ كلنا نعلم بأن هناك عنصرية في أمريكا، كانت في البداية ضدّ الهنود الحمر، وبطريقةٍ أقل ضدّ السود، واليهود، ومع الزمن تغيرت تلك النظرة، ولكن، ما زالت العنصرية موجودة، وحتى في فرنسا هناك نوع من العنصرية، بالنسبة لي، لم أعاني منها، لم تكن موجهة نحوي، في وقت من الأوقات، تحدث معي شباب من المغرب العربي، وطلبوا مني الانضمام لهم كي يمنحونا أدواراً عادية، لأن كل الأدوار كانت ثانوية، بالنسبة لي، لم أعاني من تلك المشكلة، فقد ساعدني شكلي على تمثيل أدوار من جنسيات مختلفة، إيطالي، فرنسي، يوناني،.. الآن، تغيرت تلك النظرة، يوجد اليوم ممثلون من المغرب أصبحوا نجوماً في السينما الفرنسية، لأنّ السياسة تغيرت، وأيضاً يعيش المغاربة في فرنسا، وهم فرنسيون، وجزء من المجتمع الفرنسي، وهكذا، عند الحديث عن المجتمع الفرنسي، لابد من حضور شخصيات من أصول أجنبية مختلفة.
في وقت ما، كان الممثلون من أصول أفريقية في السينما الأمريكية يعانون من هذا الأمر، الآن هناك عدد منهم يؤدون أدواراً رئيسية، وحصل البعض على جوائز عالمية معتبرة، لقد تقلصت العنصرية مع الزمن، والتطور السياسي، والاجتماعي.
ـ حصلت على الجنسية الفرنسية في عمرٍ متأخر بعد أن قضيت ستين عاماً في فرنسا، قبل الحصول عليها عملت أعمالاً تتعلق بالتبادل الثقافي الفرنسي المصري، وحصلت على وسام الثقافة، والفنون، ومع استمراري في العمل ما بين مصر، وفرنسا، والسينما، والمسرح الفرنسي، حصلت على وسام الاستحقاق الفرنسي، وأخيراً، حصلت على وسام الشرف، ومن تونس حصلت على وسام الاستحقاق التونسي، كل هذه الأوسمة بفضل اشتراكي مع البلدين في المجال الفني، والثقافي، كما تمّ تكريمي في مهرجانيّ القاهرة، والإسكندرية، والمركز الكاثوليكي المصري، وفي أحد مهرجانات المغرب.
ـ كانت الأسرة تعيش في أجواء سياسية، كان والدي، وأخي في ثورة 1919 طلاب في الجامعة، يقودا الحركة الجامعية ضدّ الاحتلال البريطاني، واعتقلا، وعمة والدتي «هدى شعراوي» من روّاد العمل السياسي الاجتماعي، ومن ثوار 1919، وقائدة الحركات النسائية.
كنت مهتماً بالسياسة، ولكن، لم أنتمي إلى أيّ حزب، عندما جئت إلى فرنسا، وكنت شاباً في العشرين، تعرفت على شباب خارج المجتمع الفني، وكنت أنتمي إلى اليساريين دائماً، كان أحد أقربائي في الحزب الشيوعي، اعتقل، وصديقة له «أنجي أفلاطون» اعتقلت أيضاً، لم يكن الهدف من علاقتي مع هؤلاء سياسية، ولكن إنسانية.
ـ عندما اندلعت ثورة 1952 في مصر كنت أعيش في فرنسا، وكنت منقطعاً عن مصر، والمجتمع المصري، أعجبت بتلك الحركة لأنني كنت أؤمن بالأفكار الجمهورية، وضدّ النظام الملكي، والرأسمالي.
وطبعاً، كنت فخوراً جداً بصورة «عبد الناصر» تزين كلّ الصحف، والمجلات، وأصبحت مصر مهمة جداً من الناحية السياسية في العالم، قبل ذلك التاريخ كانت مبهرة سياحياً، ولكن، بعد “عبد الناصر” أصبحت مهمة سياسياً.
من بين الأعمال السياسية التي أنجزتها في السينما، فيلم «جمال عبد الناصر»، مثلت فيه دور «محمد نجيب».
قدم جمال عبد الناصر مساهمات كثيرة، ومهمة جداً للمجتمع المصري، ولكن، مع السادات لم تكتمل، ولكني ضد سياسة عبد الناصر، فقد شجعت سياسته الاقتصاد الحر، كانت مصر من دول العالم الثالث، وكان توجهاته السياسية رأسمالية ساعدت أعمالاً رأسمالية كبيرة، ولكن موجهة لوسطٍ محدود، ولم تساعد الطبقات الفقيرة.
وكنت ضد معاهدة «كامب ديفيد»، لأنها بالنسبة لي ساعدت السياسة الإسرائيلية أكثر من المصرية، كانت مصر أقوى قوة في العالم العربي، بعدد سكانها، وجيشها، وكان بإمكانها الوقوف في مواجهة إسرائيل، ومع تلك المعاهدة، ألغى الإسرائيليون أقوى قوة يمكن أن تقف في مواجهتها، ومن ثمّ كان ذهاب السادات إلى إسرائيل مبادرة شخصية منه، لم يحصل على موافقة المصريين، ولا حتى السياسيين.
أما بالنسبة لـ «مبارك»، فقد كان طيباً في بداية عهده، ولكن لم يكن قوياً بما يكفي، وبدون رأيّ شخصيّ مهم، أعتقد بأن المحيطين به استغلوه، والأمريكان أيضاً، وخصوصاً فيما يتعلق بالسياسة الداخلية، اتضح الهدف بأن يستمر في الحكم، ويرثه أولاده بعده كي يصبح حكماً ملكياً إلى حدٍ ما.
فتحت ثورة تونس، ومصر أبواب الديمقراطية في البلاد العربية بالإجماع، ولكن ينبغي القول بأنّ كلّ بلد يمتلك مشاكله الخاصة، ولا نستطيع تشبيه بلدٍ بآخر، كلّ بلد مختلف عن الآخر، يعني من الصعب أن نتصدى للديكتاتورية بنفس الأسلوب.
كلّ هذه البلاد حرّة طبعاً بأن تختار الأسلوب الذي يناسبها، حتى وإن كانت هذه الأساليب غير مناسبة، الحلّ الوحيد للديمقراطية، أن يكون هناك نظاماً مدنياً يعترف بكلّ الأديان، كل مواطن يمارس الدين الذي اختاره، هذه مسألة شخصية.
ـ لا يُطبق الإسلام بنفس الطريقة في كلّ البلاد العربية، هناك السلفيون، والمعتدلون، وهناك تباينات مختلفة بينهما، لا أعتقد بأنّ المتدينين يستطيعون إرجاع البلاد إلى الخلف، لأنّ هذه الأحزاب تحارب نفسها، لأن مبادئها مختلفة، ما يحدث حالياً هي أفكار غير إسلامية، وغير موجودة في القرآن، فكرة النقاب مثلاً، وحتى تطبيق الفتوى تختلف من بلدٍ إلى آخر، في دول الخليج مثلاً تطبق فتاوى غير موجودة في القرآن، هذه اجتهادات، وتفسيرات، لست ضدّ الإسلام، ويتوّجب على المسلمين أن يثبتوا ما هو مكتوب في القرآن، وما هو غير مكتوب.
عندما منعوا عبادة التماثيل في الفترة التي سبقت الإسلام، حالياً لا أحد يعبد التماثيل، حتى رجم الزاني، أو الزانية، تعود فكرة الرجم إلى أصولٍ يهودية، كانت موجودة قبل الإسلام، واحتفظ الإسلام بالرجم، ولكن بشرط إثبات الزنا أمام أربعة أشخاص، وبراهين أخرى يستحيل تقديمها، بمعنى احتفظ بالعقاب، ولكن حالت صعوبة الإثبات دون تطبيقه.
تفسيرات الإسلام مختلفة من بلدٍ إلى آخر مع أن المرجع الوحيد هو التعاليم القرآنية، حتى الأحاديث النبوية فيها بعض الشكوك، إذاً، القاعدة الوحيدة هي القرآن.
ـ هناك اتصالات مع (فاتن حمامة، محسنة توفيق، محمد صبحي)، وحتى مع الفنانين الشباب مثل «عمرو واكد» الذي يتصل بي دائماً، وأحتفظ بعلاقةٍ مع بعض الفنانين، يعني لستُ منقطعاً عن الوسط الفني في مصر.
كنت في مصر في بداية ثورة 25 يناير، ولكن، مع الأسف، لم أشارك كما فعل الآخرون في ميدان التحرير، ولكنني كنت على اتصال مع بعض الذين كانوا يذهبون للتظاهر، والاعتصام هناك، في اليوم الثاني بعد تنحي «مبارك»، أوصلت صديقاً فرنسياً إلى المطار، وفي العودة انتهزت الفرصة، وذهبت إلى ميدان التحرير، كان الوقت في الصباح الباكر، والجو رايق، تجمع المعتصمون حولي، وباركت الثورة، وصعدت على المنصة، وقلت لهم بأني أبارك خطواتهم، ومتعاطف مع الثورة التي سوف تفتح باب الديمقراطية، ولكن هناك مشاكل كثيرة يجب حلها قبل الوصول إلى طموحاتهم .
وقتذاك كتبوا في الصحافة بأنّ «جميل راتب» رغم سنه، ذهب إلى ميدان التحرير كي يساند الثورة.
ـ لا يمكن أن أقبل بأن سياسة حكومة «مبارك» كانت مفيدة للشعب المصري، يجب الاعتراف بالحقيقة، ولكن أن يشتمه هؤلاء الفنانين الشباب، فهذا أمر معيب، من حقهم الإعلان عن مواقفهم، ولكن لا يشتموا أحداً.
الثورة ضرورة حتمية، وعلى الأنظمة الديكتاتورية التخلي عن السلطة، وتسليمها للشعب، ما يحدث في سورية أمر فظيع، يقول هؤلاء بأنهم سوف يبادروا إلى تنازلات، كان عليهم تحقيقها قبل الثورة، هناك احتجاجات في لندن ضد الحكومة، اختاروا اسم «ميدان التحريرّ»، وهذا مهم جداً، ما حدث في البلدان العربية سوف يؤثر على العالم.
ـ «ليلة الييبي دول» من الأفلام السياسية المهمة التي عملتها، وأيضاً عملت في فيلم اسمه «الانتفاضة» من إخراج «أحمد الخطيب»، كنت أمثل دور جنرال إسرائيلي، دور مهم جداً، ولكن، أيضاً من المهم المشاركة في فيلم عن الانتفاضة، في أعمال سياسية عملتها بقناعة مثلا لم يكن دوري طويلاً في فيلم «البرئ»، ولكني مثلته لأنه مهم.
عملت «الوداع يا بونابرت»، كنت أعرف «يوسف شاهين» قبل أن يصبح مخرجاً مشهوراً، هو سافر إلى أمريكا، وأنا إلى فرنسا، أثناء تصوير «شفيقة، ومتولي» حصل خلاف بين «سعاد حسني»، و«علي بدرخان»، ولإنقاذ الموقف، والمشكلة، فقد أخرج «يوسف شاهين» أغلب مشاهدي في الفيلم، نفذها بدون أن يعلن الأمر رسمياً.
وبعد ذاك الفيلم اشتغلت معه في «وداعاً يا بونابرت»، كنت معجباً جداً به كمخرج، وأهمّ الأعمال التي أنجزها لم يكتبها بنفسه، مثل «باب الحديد»، «الأرض»،.. عندما بدأ يكتب الأعمال بنفسه، أعتقد بأنها كانت أضعف، لم يكن لديه القدرة على جمع الدراما، ولكن، تقنياً، وفكرياً هو مخرج كبير.
ـ أستفيد من العيش في البلدين، أسافر إلى مصر كي أحسّ بسخونة الشعب المصري، وهنا في باريس أشتري صحيفة الأهرام يومياً كي أتابع الأخبار، كما أتابع الأخبار في فرنسا لأنها مهمة للسياسة العالمية، والحالة الاقتصادية، وتؤثر على السياسة العالمية، لأنه ينتظرنا مفاجآت كبيرة غير الثورات العربية.
عندما غادرت مصر انقطعت عن الجو العائلي، وعندما بدأت الاعتماد على نفسي، شعرت بأنني ولدت من جديد، وأصبحت إنساناً حراً، وبممارسة الفن، تفتّح ذهني، وازدادت ثقافتي، وأصبح المجتمع الفني عائلتي الحقيقية، الأجواء الأرستقراطية التي نشأت فيها بعيدة عني كثيراً، هناك البعض من أفراد عائلتي قريبين مني عاطفياً، هم أصدقاء أكثر من أقارب، حيث أجد تفاهماً مشتركاً معهم، عندي أصدقاء في فرنسا، وزوجتي فرنسية، نحن منفصلون، ولكننا احتفظنا بعلاقةٍ إنسانية.
ـ تفسير الوحدة التي أعيشها حالياً طوعاً، عندما أستعيد شذرات من حياتي الماضية، أفهم بأنني إلى حدٍ ما شخصاً أنانياً، والسبب، لأن هدفي الوحيد، وأهم شيء في حياتي المسرح، والفن، وبعدها تأتي الأمور الأخرى، ومنها العائلة، في الدرجة الثانية، لهذا أجدني تعودت على الانطواء.
منذ طفولتي كنت منطوياً على نفسي، خجول، وأعيش في عوالم داخلية، هكذا كانت طبيعتي، وأعتقد بأن علاقتي مع التمثيل، وشغفي به وسيلة للخروج من حالتي الانطوائية، كي أصبح إنساناً آخر، ولكن، بشكل عام، أجدني انطوائيّاً.
ـ لو كنت أعيش في القاهرة، ولم أسافر، وأدرس المسرح في فرنسا، كانت تبقى بالنسبة لي كارثة، لأن عائلتي كانت سوف تجبرني أن أعمل في السلك الدبلوماسي، أو أيّ مهنة أخرى، ولن أكون سعيداً، ولهذا، يجب أن نشجع الأطفال، والشباب على ممارسة هواياتهم، وتحقيق طموحاتهم كما يرغبون.
ـ فيما يتعلق بالأولاد، يجب أن يكون هناك تفاهم ما بين الأم، والأب، مثلا مع زوجتي كنا في نفس الوقت نتطوّر، وكنا بعيدين عن بعض، وسوف يصبح الأولاد ضحية بين الاثنين.
هناك أشخاص دورهم في الحياة أن يكون أماً، أو أباً، وهناك آخرون لا يرغبون أن يعيشوا أحد الدورين، لهذا، أقول، بأنني أناني، كان الأهم بالنسبة لي تحقيق أمنياتي، وأفكاري.
عندما أنظر إلى الخلف أجد بأنني قد حققت طموحاتٍ كثيرة كنت أرغب بأن تتحقق، ونجحت فيها، والأهمّ، أعتقد بأنني نجحت في علاقتي مع الناس.