تونس ـ «سينماتوغراف»
قدّم أخيراً المخرج محمد علي النهدي العرض الأوّل لفيلمه الروائي الطويل “معز الطريق الأسود”، وذلك بقاعة الكوليزي في العاصمة التونسية، وبحضور عدد من السينمائيين والإعلاميين والنقاد.
وهذا الفيلم هو الروائي الطويل الأول في مسيرة محمد علي النهدي الإخراجية، بعد أن أثرى تجربته بأربعة أفلام قصيرة. وقد شارك النهدي في كتابة سيناريو فيلمه سليم بن إسماعيل، أما أدواره فقد جسّدها الممثلون سيف الدين المناعي وأكرم ماغ وليلى الشابي وصلاح مصدق ومحمد علي المداني ومنصف العجنقي والأمين النهدي.
صرّح المخرج قبل بدء العرض بأنه أصرّ على أن يكون العرض العالمي الأول لفيلمه في تونس. وقال أيضاً إن سيناريو الفيلم كان في البداية موجّها لأن يكون دراما تلفزيونية “لكن القنوات التلفزية التونسية رفضت العمل، دون أن يتحدّث عن دوافع هذا الرفض”.
وانتهى النهدي من إنجاز فيلمه الروائي الأول بعد ست سنوات من العمل المتواصل باعتمادات مالية وصفها بـ”المتواضعة”، مشيراً إلى أن فيلم “معز” مثل له “حلما تحقق بفضل جهود فريق العمل المتكون أساسا من المخرجة المساعدة سوسن الجمني ومدير التصوير أمين المسعدي إلى جانب سليم بن إسماعيل الذي تقاسم معه كتابة السيناريو”.
والفيلم من النوع الاجتماعي والسياسي ويصور تفاصيل الحياة اليومية القاسية لمتساكني عدد من المناطق الشعبية بالعاصمة التونسية وبعض الولايات (المحافظات) إبان الثورة التونسية (بعد الرابع عشر من يناير 2011) انطلاقاً من قصة شاب يعيش حياة صعبة في أحد الأحياء الفقيرة لكنه فجأة يجد نفسه في وضع لم يتوقعه.
وتدور أحداث فيلم “معز الطريق الأسود” حول شاب يدعى معز وعُرف في حيّه بأعمال النشل والسرقة، ويتقاطع طريقه مع متشدّد ديني ليصبح ناشطاً فيما بعد ضمن مجموعة إرهابية مسلحة، تقوم بأعمال قتل مروّعة، أبرزها الحادثة الإرهابية لمتحف باردو يوم الثامن عشر من مارس 2015.
ويختلط هنا الخيال السينمائي بالأحداث الحقيقية التي شهدتها تونس، مثل الحادثة الإرهابية في متحف باردو، حيث احتجز عدد من الإرهابيين قرابة 200 سائح كرهائن وأدى ذلك إلى سقوط ضحايا إضافة إلى العناصر الإرهابية.
التقاطع مع الواقع يكرسه المخرج منذ بداية فيلمه، حيث يستهلّ النهدي عمله باستعراض سلسلة سريعة من أهم الأحداث التي تروي اندلاع الثورة التونسية وإجراء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي واغتيال المعارض السياسي شكري بلعيد وغيرها من الأحداث الدموية، وصولاً إلى حادثة متحف باردو الإرهابية، وهو بهذا الاستهلال إنما يضع المتفرّج في الإطار الذي يتمحور حوله الفيلم وهو الإرهاب ومن يصنعه؟
وفي المشاهد الموالية للفيلم تبدأ الأحداث الرئيسية في أحد مراكز الأمن حيث يحقّق عنصر أمني مع الشاب معز حول حيازته سلاحا، فيصرّ على قوله بأنه وجده في حقيبة سرقها من امرأة داخل سيارتها، ثمّ يُنقل رفقة أحد المتشدّدين في السيارة إلى مركز الإيقاف، لكن في الأثناء يُفاجأ الجمهور بإطلاق عون الأمن النار على زميله وإطلاق سراح الموقوفين، ليجد معز نفسه بعد ذلك ضمن جماعة إرهابية مسلّحة ويُقدم على تنفيذ عملية باردو الإرهابية.
لقد اتسمت مشاهد الفيلم بالسرعة والحركة والعنف أيضاً، وهي تقنيات وظّفها المخرج بإحكام لإبراز خطورة العناصر المتشدّدة وقدرتها على استقطاب الشاب بسرعة، مستغلّة ظروفه الاجتماعية الصعبة أو تورّطه في عمليات إجرامية، وهذا ما سلّط عليه المخرج الضوء من خلال تقنية “الفلاش باك” التي وظفها في الفيلم لتسليط الضوء على الحياة اليومية لمعز قبل التحاقه بالجماعات الإرهابية.
وقد أدّت تقنية “الفلاش باك” في هذا العمل وظيفتين رئيسيّتيْن، أولاهما إراحة المتفرّج من عناء تتابع الأحداث الدموية، وثانيتهما الانتقال بالمتفرّج إلى الاطلاع على الحياة اليومية لمعز التي اتسمت بالانحراف وعمليات النشل والسرقة، وهي ظروف سمحت للإرهابيين باستقطابه بدعوى “التكفير عن ذنوبه” ومنحه “صكوك
الغفران”.
ويلقي الفيلم الضوء على تحرّكات الإرهابيين وحصولهم على الأسلحة وطرق تدريبهم ومن يساعدهم. ووفق ما أظهره العمل بدت الخلية الإرهابية شبكة متكاملة ضمّت من بين عناصرها سياسيين وأمنيين ومشتغلين في السلك الطبي.
وينتهي الفيلم بعد الحادثة الإرهابية التي جدت في متحف باردو، وإثر ذلك كرّم النهدي العناصر الأمنية على جهودها في مكافحة الإرهاب.
ولئن كان الباحث الأميركي صموئيل باتوي يدعو إلى حسن توظيف السينما كسلاح في الحرب العالمية القائمة ضدّ الإرهاب، فإن النهدي حاول من خلال كل التفاصيل الفيلمية التي اشتغل عليها بعناية أن يوجه فيلمه إلى تفكيك ظاهرة الإرهاب من منبتها، وهي الظاهرة المتداخلة والمعقدة والتي تتجاوز كونها مجرد تشدد ديني، وتشمل المعطى الثقافي والاقتصادي والفساد السياسي والتمزق الاجتماعي والتشتت النفسي وغير ذلك.
وتكشف الأفلام التي تتناول موضوع الإرهاب عن رؤية كل من الإرهابيين ومناهضي الإرهاب. لكن ذلك ينطوي على نظرة أحيانا تكون متحيّزة كما هو الشأن في الأفلام الهوليوودية التي تتناول مسألة الإرهاب الدولي، والتي بدأت منذ السبعينات من القرن الماضي؛ وهي نظرة تميل إلى تنفير العالم من البلدان والمناطق التي ولد فيها الإرهابيون.
والنهدي يفند الجذور الإرهابية والعنيفة في الذوات، بل يكشف عن نشأتها المفاجئة والسريعة نتيجة لظروف أخرى ولمجموعات تمتلك المال والسلطة تستغل حالة التيه التي يعيشها الشباب.
يذكر أن المخرج محمد علي النهدي هو ابن الممثل التونسي الأمين النهدي والفنانة الاستعراضية والممثلة سعاد محاسن، ولد في العاصمة سنة 1972، وهو خريج المعهد الحر للسينما الفرنسية (قسم المونتاج السينمائي)، وأخرج عددا من الأفلام القصيرة منها “المشروع” سنة 2008، و”حدث ذات فجر” سنة 2010، والفيلم الوثائقي القصير “أخيرا أعبر عن نفسي” سنة 2011، كما شارك بالتمثيل في العديد من الأفلام السينمائية التونسية والأجنبية منها “الكسوة” لكلثوم برناز سنة 1997، و”عرس القمر” للطيب الوحيشي سنة 1999، و”فاطمة” لخالد غربال سنة 2001، و”سينيستا” لإبراهيم اللطيف سنة 2009، والفيلم السينمائي العالمي “الذهب الأسود” لجان جاك أنو سنة 2011، إلى جانب المشاركة في العديد من المسلسلات التلفزيونية والأفلام القصيرة والمسرحيات.