«من 30 سنة».. الوجود الإنساني أمام لعنة المال

 

ـ  يسرا علي

عندما تعرض عليك صور أو أحداث متقطعة ويطلب منك أن تقوم بترتيب الصور والأحداث لتصل إلي شكل متناسق وأحداث مرتبة تقبلها، في الأغلب تصل إلي ترتيب منطقي لأحداث القصة، ولكن نادرا عندما تصل في النهاية إلي كيان مشتت، لم تدرك منه ترتيب منطقي، ترفض التشتت، وهذا طبيعيا لأن عقلك مبرمج على الترتيب والمنطق.

ولكن الآن، سنرفض المنطق وننطلق إلى الفوضي والتشتت، وهذا ذنب الرأسمالية السوادء، حيث أصبح الفكر المادي يسيطر علي حياة الإنسان، وتمركزت أهدافه في الحصول علي رغبات ومكاسب مادية بحته، فتقلص الفكر التنوري وقيمة الوجود الروحي التي تجعل الإنسان يبحث عن وجوده وماهيته في هذا الكون ليصل إلى قيمته الإنسانية الذي تتلخص في ترسيخ مبدأ الخلافة التي وهبها الله له لتعمير أرضه، ولذلك جعلنا الفكر الرأسمالي نفكر في كيفية الحصول علي المنفعة المادية التي خلت من أي قيمة حقيقية تغذي الروح والفكر.

ومن هذا المنعطف الذي أحدثته فينا الرأسمالية الاحتكارية، يمكن قراءة فيلم «من 30 سنة» الذي يمكن النظر إليه من منظور مختلف، ليس انصافا للعمل الفني، ولكن انصافا للفكر التأويلي الموضوعي بعيدا عن الشعور الوجداني الذي يمكن أن يحدث لأي متلقي.

بداية سريعة

* ما يلي سيحرق أحداث الفيلم لمن لم يشاهده..

 يسرد لنا «عماد ـ أحمد السقا» من خلال الفلاش باك قصة عائلة الطيب تجار السلاح حيث يموت الجد ويوزع تركته بالتساوي علي أولاده ثم يستكمل بالحاضر وضع العائلة المادي والثراء الفاحش لكل منهم ماعدا عماد الذي كانت أمه أفقر من أخواتها، وتجتمع العائلة يوم عودة «عمر ـ شريف منير» من أوروبا بعد أن أصبح أكثر منهم ثراء وتحاول كل العائلة التقرب منه والتودد إليه، يعود عمر ويفاجئ الجميع بفكرة توزيع تركته على العائلة بحجة «لعنة المال الذي يموت صاحبها ويرثها آخر غريب»، ومن هنا تبدأ سلسلة الموت حيث يموت أفراد العائلة واحدا تلو الآخر تحقيقا لنبوءة الرجل المجذوب «محمود البزاوي» الذي سيقابله عمر صدفة في شوارع المدينة ويهتف صارخا «هتقتل تسعة»، وبعد موت أفراد العائلة ماعدا عماد الذي قرر الفرار إلى أوربا حفاظا علي نفسه من لعنة المال، لكن يسترجعه الحنين إلي  حبيبته الشاعرة السكندرية «حنان البنداري ـ منى زكي»، فيفاجئ بزواجها من عمر، وهنا يقرر المؤلف أن يقلب الأحداث ليكشف عن وهم  وخدعة الحكاية بأكملها، وهي أن كلا من عمر وعماد مشتركان في التخطيط  لكل ماحدث تخليصا لثأر قديم بين أفراد عائلتهما، وينتهي الفيلم بموت جميع أفراد عائلة الطيب وترث حنان البنداري  كل التركة.

 من هذا الملخص نشاهد الفعل الأول المحرك لأحداث الفيلم وهو الموت، حيث يتصاعد الزمن تدريجيا كلما يموت فرد من أفراد العائلة، فنحن أمام موت إحدي عشر شخصية في الفيلم من الأبطال، وكأن الموت أصبح حدثا اعتياديا نتيجة صدف قدرية متوالية مستمدة من لعنة المال ونبوءة المجذوب، مفسدةً بذلك مبدأ الإيهام بالواقعية المسيطر على الأحداث، حيث لا يتواجد مايدعم طوال الفيلم الفكرة الخيالية للعنة المال ونبوءة المجذوب.

وبشكل عام نحن نعيش علي غرار مبدأ السببية، فلكل شئ يحدث سبب لدى الإنسان، لذلك يحاول دائما البحث عن مسببات الأمان والسعادة حسب طبيعة موصلاته العصبية التي تبحث عن اللذة والسعادة وتبعده عن الألم، وتختلف أفعاله من حيث السلبي والإيجابي حسب طبيعة الإنسان. وعلى غرار هذا نجد أن منطقة الأمان لدى أبطال الفيلم هو «المال/ الثراء الفاحش» لذلك نجد أننا أمام دائرة صلبة هي (تجار سلاح عائلة الطيب»/ يتصارعون على المال/ في اتجاه الموت)، أو بمعنى أدق موت الجميع في سبيل أن يعيش المال، وكأن المال الإله الذي يقدسه الجميع، مع تلاشي كافة ماهيات الوجود للقيمة الإنسانية، فالمال أصبح الأمان الفعلي في حياة فوضوية لا هدف منها ولا بغية سوى المطلب الرخيص، والموت نتيجة حتمية لشراسة رغبة المال المسيطرة على الشخصيات المادية.

هذا المضمون الذي ناقشة جورج لوكاتش تحت فكرة سيطرة مبادئ الرأسمالية التي تسلب الإنسان وجوده الاجتماعي الحقيقي ويتحول إلي إنسان سلعي تسيطر عليه القيم الكمية وتتلاشي أمامه القيمة الكيفية التي تقي المجتمع من تشرد وفوضوية النفوس، وتشتت العلاقات الاجتماعية نتيجة خضوع البشرية للتبادلية السلعية وقيم المنفعة الكمية.

ومن هنا يكون مفتاح القراءة الإنصافية للفيلم، شخصية عماد، المثقف صاحب الدراسات النقدية التي لا تشفي ولا تغني من جوع والذي يتجه إلى كتابة القصص والروايات لعلها تحدث انقلابا ماليا لحياته، ورسم المؤلف شخصية المثقف بشكل سلبي حيث اعتمد في بداية الفيلم على فكرة الإنسان الشريف الذي يضبط  جوانب الحقد على أثرياء عائلته ويعيش في دائرته راضي بما فيها من فقر مدقع، ومؤمن بما يكتبه والذي يتنافى مع الذائقية العامة.

هذا الجزء نسقط عليه فكرة البطل الإشكالي عند جورج لوكاتش وهو الذي يبحث عن قيم كيفية «الفكر والجمال» منافية للقيم السائدة عند عائلته وهي القيم الكمية «المال»، ومن ثم يرفض ثراء عمر وثروته ويكتفي بميراثه من بقية أفراد العائلة.

ولكننا نكتشف أن هذا البطل الإشكالي في النهاية مجرم ومخطط لجميع جرائم القتل، حيث تحول في نظر المتلقي  للبطل الضد عن جورج لوكاتش بعد صراع الإنسان مع الرأسمالية الإحتكارية التي شرب مبادئها بصورة أكثر بشاعة، والبطل الضد هنا أصبح ضدا رغم تماهية مع قيم المجتمع السائدة، إلا إنه أصبح ضدا على المجتمع لبشاعة تنفيذ هذه القيم عنده، وبالفعل نجد عماد بشخصيتيه المثقفة يدبر تدبيرا محكما للقتل تختفي منه أي قيمة (جمالية/ كيفية) كان يبحث عنها، فقضي علي الجميع وعلي نفسه نتيجة الضدية العمياء.

وهكذا يتحول البطل الإشكالي إلي البطل الضد من المسكوت عنه، ولم تشير تراتبية الزمن لهذا التحول، ولكننا نفهمه من سياق الزمن والحدث عندما نعيد ترتيب الصورة بعد المشهد النهائي.

وإشارة الفيلم أيضا إلى «كتاب اللامنتمي لكولن ويلسون» حيث فكرة رفض الإنتماء لهذا المجتمع الكريه ومعاداته، الذي يرى أن صحيح العقل ليس حرا.. وبدون الدخول في تفاصيل أفكار الكتاب، نجده إشارة جيدة لصحة تأويل البطل الإشكالي والضد علي مضمون الفيلم ومايحدث فيه من اضطراب.

كل هذا تجسيد لقيم ما بعد الحداثة ومبادئ اللاوجود والفوضي لذلك يأتي موت الجميع نتيجة حتمية لصراعهم على المال، وتحول البطل الإشكالي إلي الضد سيجعله يفني، بل ويحقق فكرة رفض العقل والفكر وضياع الوجود الروحي للإنسان وانهيار المجتمع الأخلاقي والديني.

وتدليلا علي ذلك لم نجد أثرا لإنتصار الخير في النهاية، بل بذرة صراع جديد تتحول إلي عائلة حنان البنداري التي أخذت التركة وستدور عليهم تخيلا نفس الدائرة.

وجعل المؤلف شخصية عماد هي الرقم الأخير في الأموات لأنها صاحبة العقل المدبر، والفكر جذوره دائما متشبثة بالحياة، لكن عند ضياعه تعمي العين، وبالفعل عندما تمتع عماد بالمال لم يفكر في غدر حنان له، بل بدى أغبي مخلوق.

صراعات فكرية

كل التكوينات والأبعاد النفسية والاجتماعية لأبطال الفيلم مبتورة، لأنه لا أهمية للوجود الإنساني بعد انهيار القيم الجمالية والعلاقات الاجتماعية، وتحول الإنسان إلي التشيؤ، وهنا موت الأشياء لا أهمية لها.

ليس هناك أي علاقات عاطفية أو أحاسيس بين الشخصيات، وكيف ستكون وسط هذا الزخم من التشيؤ؟، وهذا التركيب التحليلي يطرح سؤال، هل يستطيع المتلقي أن يفهم كل هذه الصراعات الفكرية البعيدة التأويل للغاية عند المتلقي العادي وليس المتخصص؟، وهل قصد فعلا المؤلف أن يجسد الإنسان الفوضوي في عصر مابعد الحداثة؟ وإن قصد هذا التجسيد، هل حلله وفسره وناقشه ووضح الجوانب السلبية والإيجابية لسيطرة المادة؟ هل رفض هذا المجتمع أم لا؟.

إن قصد المؤلف هذا التفسير، فهو لم يناقشه على الإطلاق بل وضع الفيلم في دائرة سخيفة لا يفهمها المتلقي ولا يدرك ماهية ولا هدف الفيلم، ولم يوضح بشاعة هذا الوجود المادي الفوضوي، بل جعل المتلقي يهتف عاليا (ماتيجي تموت المشاهدين كمان!..).

وإن لم يقصد المؤلف هذا التأويل، سنصل إلي نفس النتيجة أن الفيلم بلا مضمون وبلا هدف، حتي تحقيق هدف المتعة لم يتواجد، لأن البناء الدرامي للأحداث سيسقط منه الأسس المنطقية، فلا يعقل أن تنتقم شخصيتان من البعد البسيط غير المركب بموت عائلة بأكملها دون رسم أبعاد نفسية محكمة تساعدنا على تقبل هذا الكم الهائل من زهق الأرواح بدون انهيار للضمير الإنسانى أو للتركيبة الإنسانية بشكل عام.

ومن هنا مع انهيار المضمون نغلق قصد المؤلف علي تحقيق المتعة من خلال اللعب بالأحداث بدون تحقيق لفكر يستنبط ويستنتج ويعمل عقله وروحه واستخدام مبدأ دغدغة المشاعر والتشويق والخدعة حتى نحدث جوا تجاريا نصل به لأعلى الإيرادات، وهذا ما يسمي بالسينما الرخصية، لأنه عندما يتلاشي الفكر نصل للرخص.

تحت الضوء

ـ دور الشاعرة «حنان ـ منى زكي» مقحم على الأحداث لخلق جو ممتع ومثير، وأبدع المؤلف في رسمها بحيث تحدث مناخا لطيفا لدى الجمهور، فتلك الشخصية الثانوية التي تؤثر على مشاعر المشاهد بالفكاهة والسخرية وتحسم النهاية، أبدعت مني زكي في تجسيدها وأضفت متسعا نفسيا يحتاجه المتلقي وينتظره، ولكن كثير من تحركات الشخصية ليست منطقية، فليس هناك منطق في تواصلها الدائم بعماد وعمر وتبنيهما المادي لها بهذه الصورة بدون وجود مقابل حقيقي، ومظهرها غير الملائم للفقر المدقع الذي تعيش فيه، وهذه سقطات بسيطة، تاه فيها المؤلف لكثرة الخطوط الدرامية كي يصل بخدعته للمنتهي.

ـ تمتع شريف منير بحيوية وطلاقة في أداء شخصية الثري، وأظهر في آدائه لها وعيا لما يحدث حولها، وفهمها لمعدن الأشخاص مثل نظراته لأبنه عمه «نور» وحديثه مع حنان ووالدها «محمود الجندي».

ـ نتوقف عند أحمد السقا الذي لم يستطيع الخروج من نمطية التمثيل التقليدية لديه في جميع أدواره، فجميع حركات جسده متوقفة وثابتة علي نفس الشكل والهيئة وكأنها تجمدت، حركات وجهه ثقيلة علي روح المتلقي، وكأنها تقول له (إنني أمثل الموت/ إنني أمثل الإندهاش).

ـ بقية الشخصيات تعتبر تقليدية بالنسبة لحجم وقيمة الممثلين (ميرفت أمين – رجاء الجداوي- نبيل عيسى- صلاح عبدالله وغيرهم)، وهي أدوار عادية أمام تراكمية خبراتهم السابقة.

ـ يجب التأكيد على نجاح المخرج عمرو عرفة في ترميم فوضوية المضمون، من خلال الإمتاع البصري للديكور والملابس والتحكم في الأداء التمثيلي، واختيار الأماكن، وكل هذا خفف من وطأة أفعال الموت، ويمكن الثناء على (مشهدي موت ميرفت أمين ونبيل عيسى)، وكان لهما أثرا ممتعا بصريا وفكريا، خاصة مع ميرفت أمين التي تستسلم للموت بدون فزع، وتودع من حولها في صمت.

 

Exit mobile version