«من 30 سنة».. ميراث حائر بين الجشع والانتقام

 

ـ أحمد حسونة

الميراث جزء أساسي من النشاط الانساني، سواء كان ميراثا ماديا يتمثل في مال ومنقولات، أو معنوي، يتبلور في المعرفة الانسانية والثقافية والقيم والاخلاقيات، وقيمة هذا الميراث تتركز في إنتقاله من طرف لأخر، كما يقول مورجن فريمين في فيلم لوسي للمخرج لوك بيسون «إن النشاط البسيط للخلية هو نقل المعرفة و ما تملكه للخلية الأخري وهكذا ننمو».

وفي فيلمه، «من 30 سنة» للمخرج عمرو عرفة، تدور فكرته حول الميراث ومساره، وكيف يمكن أن ينتقل في النهاية إلي أشخاص غير متوقعين نتيجة التوزيع غير العادل، وأن ينتج عن هذا الخلل، أفعال مشينة وبشعة.

قصة مثيرة

يدور الفيلم في جو من الاثارة والغموض حول عائلة الطيب، التي تعمل بالسلاح وتمتلك أموالا وقصرا فخما تسكن به نبيلة (رجاء الجداوي) إحدي بنات عائلة الطيب، والتي تضم جمال الطيب (أحمد فؤاد سليم) وابنته رشا (نور)، وحسن الطيب (صلاح عبدالله) و ابنته نهي (جميلة عوض)، وابنه سليم (محمد مهران)، ونوجة (ميرفت أمين)، وابنها هاني (نبيل عيسي)، وعمرو (شريف منير) ابن الأخ المتوفي، وعماد الطيب (أحمد السقا) ابن الأخت المتوفية، هدي.

تبدأ الأحداث مع عودة عمرو من الخارج، ويخبرهم بأنه ورث مبلغا ضخما من المال، وليس له وريث لأنه عقيم، ولديه شك بأن هذه الفلوس ملعونة وتقتل من يرثها، فقرر أن يقسمها عليهم جميعا لتبتعد اللعنة عن المال. ويسعد الجميع بهذا الأمر ماعدا عماد الطيب (أحمد السقا)، والذي  يمتهن الكتابة، ولا يكترث بالمال، ويهتم أكثر بحنان البغدادي (مني زكي) وهي شاعرة سكندرية مدعية، فقيرة، وتعتمد علي الآخرين في تغطية نفقاتها من خلال خفة دمها، وذكائها الفطري بدون أن تفقد شرفها. وتتوالي الأحداث تبدو أن نبؤة اللعنة تتحقق، ولكن تتوالي بعدها المفاجآت لتعاد صياغة القصة أكثر من مرة في ظل المعلومات المكتشفة.

الحبكة والسرد

يعتمد الفيلم بشكل كبير علي السيناريو المحبوك والمتماسك لأيمن بهجت قمر، الذي ينسج بمهارة بين خيوطه المتعددة والأنواع الفيلمية، والتغيرات السردية في النص السينمائي والذي يجسده بشكل رائع المخرج عمرو عرفة من خلال العناصر المختلفة، والتي تم تحقيقها علي المستوي الإنتاجي بشكل متميز نادرا ما نراه في إنتاج الافلام بمصر.

بني السرد علي رواية أحداث العائلة من وجهة نظر عماد الطيب الذي شرع في كتابة رواية عن عائلته والأحداث التي مرت بها، وبالتالي فهو يتحكم في ترتيب المعلومات والأحداث وإظهار ما يريده وإخفاء ما لا يريده حتي تم الإيقاع به وكشف لنا المستور، وانتهي الفيلم بدونه، فتحرر السرد من سطوة الراوي، وشخصيات عائلة الطيب، وتتسيد السرد والحدث حنان البغدادي، وعائلتها التي تمثل نقيضا لعائلة الطيب.

وقد تميز السرد بالتمهيد الجيد للشخصيات والعلاقات، ثم تطوير الأحداث من خلال التوازن الرائع بين التوقع في الوقت المناسب لدي المشاهد من خلال الجمل الحوارية وحديث الراوي (أحمد السقا)، والمفاجآت التي لا يتوقعها المشاهد.

ومن البداية نعلم من عماد الطيب (أحمد السقا) والذي يروي قصة عائلته والأحداث التي صاحبتها، بأن هناك لعنة ستصيب العائلة إلا أننا لم نفقد أهتمامنا بأحداث الفيلم، فالسؤال الذي يطرحه علي المشاهد،  هو كيف ستقع اللعنة علي العائلة، وهل هناك لعنة  في حقيقة الأمر، ولماذا تأتي من الخارج، و ليس من داخل عائلة تتاجر في السلاح؟، وتستمر هذه الاسئلة في ذهن المشاهد، حتي تتوالي  المفاجآت الواحدة تلو الأخري، من خلال التواءات الحبكة (تغير مفاجئ في  مسار السرد) لثلاثة مرات، تخلف وراء كلا منها مفاجأة  جديدة غير متوقعة تعيد تفسير الأحداث بشكل جديد تذكرنا  بنمط التواءات الفيلم الأمريكي «أشياء متوحشة» إنتاج 1998.

وهذا المستوي السينمائي المتميز، جعلنا نتغاضي عن عدم منطقية قراءة حنان البغدادي (مني زكي) للقصة ببهو القصر الذي تعيش فيه، وبجانبها المتهم الأول في الجرائم التي حدثت، وعلي بعد عدة أمتار منها.  فهنا رجح كل من السيناريست والمخرج عنصر التوتر والإثارة علي حساب منطقية الفعل وإنسجامه مع الشخصية، ثم قيام الشخصية بفعل غير متوقع، وغير نابع من اللحظة، لا يمثل طبيعة الشخصية بشكل جيد، فحنان ابتعدت عن عماد نتيجة تكرار حوادث الموت غير المفهومه، وهو ما عبرت عنه «أنا قلت انك راجل أوي بس نسيت أقولك أني عيلة قوي»، ومن غير المنطقي ان تواجه شخص متهم بقتل كل هذا العدد من الاشخاص، ولا تخشي علي نفسها من القتل، فكان هروبها من المنزل هو الأمر الأكثر طبيعية.

المزج الفيلمي

يحتاج المزج بين الأنواع الفيلمية مهارة شديدة تتمثل في فهم كل نوع علي حدة، وما العناصر التي تستخدمها من كل نوع حتي يكون هناك إنسجام وتوازن بينها، وعدم إفساد الفيلم نتيجة هذا المزج، وهو ما يحدث في أعمال كثيرة. فـ «من 30 سنة» اتخذ من أفلام الرعب تيمة (المجهول واللعنة) التي تصيب الجميع، فهناك قوي غير معلومة تسيطر علي مصائر وأقدار هذه العائلة، وتوالي موت الأشخاص واحد تلو الأخر مثل سلسلة أفلام «صرخة» أو «ماذا حدث في الصيف الماضي»، وكذلك وجود القصر الضخم البارد بضخامته ومساحته الشاسعة، والعلاقات المبتترة بين أفراد الأسرة، ولكن المخرج لم يستخدم العناصر الخاصة بفيلم الرعب لأقصي مدي ليحصره في هذا النوع، ولم يكن موت كل فرد يأخذ فترة طويلة من التوتر والترقب للتعرف كيف سيحدث ذلك، ولم يستخدم القصر فقط كمسرح للقتل، إنما أستخدم أماكن أخري عديدة.

وبالتالي لم يكن القصر برغم برودته النسبية مكانا مرعبا، بل يبدو فيه الهدوء والراحة. أيضا وجود إلتواءات في حبكة الفيلم بهذا الشكل أخذ العمل في إتجاه الإثارة (Thriller) والفيلم الأسود (Film Noir)  أكثر من أفلام الرعب، ثم أستعار من الفيلم الأسود العيوب الأخلاقية الموجودة في معظم الشخصيات فالبطل التقليدي غير موجود بالفيلم، فعمرو وعماد سيطر عليهما الرغبة في الجشع والانتقام، ونبيلة بخيلة ومتعجرفة، ونوجة تحب شاب في سن ابنها، ويعاني ابنها هاني من سيرتها كراقصة، ويدمن المخدرات، وحسن أراد أن يزيد من ثروته بتزويج أبنته نهي من رجل ثري وأبنه سليم يستولي علي حبيبة صديقه ليتزوجها لتخونه بعدها مع زوج أخته نهي، ورشا تريد الزواج من عمرو بعد أن أصبح غنيا، يستثني من ذلك الحاج البغدادي (محمود الجندي) وعائلته. اما حنان أبنته، فهي شخصية كوميدية جاءت لتحل محل المرأة القاتلة في الفيلم بشكل مثير للإهتمام، فهي تأمرت بشكل خفي وبدون استخدام الأدوات التقليدية للمرأة القاتلة لجسدها وأنوثتها والتخطيط للقتل وتنفيذه، بل استخدمت شخصيتها الضاحكة في وقوع كلا من عمرو وعماد في براثن حبها، وهو ما يخلق عداء بين عماد وعمرو يجعله يكشف عن حقيقته وينتهي بالضلوع في قتل عمرو، ثم تدبر حنان مكيدة لعماد عندما تكتشف أنه المدبر الحقيقي وراء كل الجرائم، وكان هدفها من زواجها به الفوز بثروته، وبالتالي تجمع بين ورث زوجها المتوفي شريف منير، وزوجها الجديد أحمد السقا وهو شئ يدل علي أن شخصيتها تحتوي علي الصفات النفسية للمرأة القاتلة، ولكن في ثوب كوميدي.

عناصر العمل

الإخراج

عندما يكون الفيلم مركبا ومعقدا في حبكته بهذا الشكل، يكون دور المخرج هام جدا في توصيل المعلومة، ودرجة وضوحها إلي المشاهد، وتضليله لفترات محدودة، ويتحقق ذلك من خلال تقطيع المشاهد إلي لقطات باحجام وعدسات وحركات مختلفة توصل النص السينمائي بالشكل المطلوب الذي يتحول إلي شحنة شعورية محسوبة من قبل المخرج  للمشاهد، وهذا ما حققه عمرو عرفة من خلال إيقاع رصين وحركة كاميرا محسوبة، والقطع بين الأشخاص وردود أفعالهم بشكل يجعل المشاهد متابعا بشكل جيد لما يحدث علي الشاشة. ويهتم عمرو عرفة أيضا بإستخدام الجرفيك، وهي تقنية مازالت في المراحل الأولي في تطورها لدينا بمصر، إلا أنه يتم تنفيذها بشكل جيد في أفلام عمرو عرفة مثل حلم عزيز، وقد أستخدمها بشكل واضح في مشهد الوطاويط، ومشهد القصر ومراحل التطور العمراني حوله في بداية الفيلم. كذلك قام بتنفيذ مشهد غرق السيارة بشكل متقن لم نراه من قبل علي الشاشة المصرية، وهو لا يتم بدون مدير تصوير رائع مثل وائل درويش تبدو بصمته في الفيلم واضحة.

التمثيل

تتماهي الخطوط بين الأداء التمثيلي والشخصية الورقية، وإدارة المخرج للممثل، بحيث يصعب التعرف علي من كان له الفضل الأكبر في تجسيد شخصيات الفيلم، ولكن مع حنان البغدادي صاحبة اللازمة (كل الشكر.. كل الشكر) قد تصبح من أحد أفيهات السينما التي تبقي مع الجمهور، جسدتها “مني زكي” بإبداع شديد، ويدل علي إضافتها الكثير للشخصية أو جعلها شخصية حية تتواصل بسهولة مع المشاهد، فهي تمثل الجسر بين عائلة الطيب وعائلة البغدادي، بين عائلة ميراثها المال والطمع والجشع، وعائلة ميراثها الحب والتكافل والمحبة، وفي نفس الوقت هي تنتمي للبغدادي في محبته لأفراده وإرتباطها بعائلتها، وتشاركهم بورثها في النهاية، وفي نفس الوقت طموحة متطلعة للشهرة وللمال والحياة الرغدة، وتتكأ علي الآخرين للوصول إلي أهدافها. فإختلاف طبيعتها وأدائها وضعها بقوة في مواجهة تمثيلية بينها وبين شخصيات عائلة الطيب.

وكان الأداء لباقي الشخصيات جيد جدا بشكل عام، فلمع صلاح عبد الله في مشهد تلقي نبأ وفاة ابنته وابنه سليم (محمد مهران)، الذي أدي دوره بشكل لافت للنظر، أما بالنسبة لشريف منير وأحمد السقا، أري أن الورق قد أعطاهم أكثر من أدائهم للشخصية، والذي كان جيدا جدا، ولكنهما لم يستطيعا أن يجسدا النقلة بين الشخصية الخيرة، والشخصية الإجرامية بشكل مؤثر.

المكان

لعب المكان دورا هاما  في تجسيد الفرق بين عائلة الطيب وعائلة البغدادي، فعائلة الطيب تبني قصرا ضخما وحيدا في الصحراء بعيدا عن التواصل الانساني، ثم يأتي العمران بمباني أسمنتية، تحيط القصر، بدون أن يحدث تواصل بينهم وبين جيرانهم فهم في عالم مغلق. وقد تم تجسيد هذا المعني بشكل رائع عن طريق الجرافيكس بحيث أعطي شعور مماثل لشخص تم وضعه في زنزانة.

ويأتي منزل البغدادي علي النقيض تماما، فهو متصل بالطبيعة والبحر، وبالفنار الذي يرشد السفن إلي المكان، فهو مكان قابل و ليس طارد، يرحب بالغريب، والمنزل مرتفع عن سطح الأرض يصعد إليه بسلالم يدل علي العلو، ضيق ولكنه ملئ بالعائلة، فالعائلة تحتوي المكان، وليس العكس.

المضمون

كما ذكرنا من قبل في بداية المقال، يدور الفيلم حول فكرة الميراث وهو موضوع هام جدا في  الشريعة الانسانية والسماوية، لأنه نقل منفعة خيرة، وفي حالة عدم العدل أو الطمع ينقلب إلي شر، ويتحول الأمر إلي أبعاد خطيرة قد تؤدي لكوارث، وهو ما حدث بالفيلم  أن الجد قد قسم الأرث بالتساوي بين الأبناء، ولكن الأخوة والأخوات أقصوا والدة عماد (أحمد السقا) و والد عمرو (شريف منير) فخلق ألة جهنمية قضت علي العائلة بأكملها. وقد جاء عمرو بنفس الفكرة ظاهريا مما تسبب في كل هذا الندم.  ويأتي السؤال هنا: لماذا لم يقوم الطيب بتقسيم الورث حسب الشريعة؟ هل لتبسيط الأمر أم جعله أمرا انسانيا غير مرتبط بشرائع دينية، وهل عدم إلتزام الطيب بالشريعة هو ما أدي إلي عدم “البركة” في المال. في حقيقة الأمر لم يتم تناول الجانب الديني من قريب أو بعيد، وهل وجود العنصر الديني كان سيضيف قوة أم ضعف إلي الفيلم، خاصة أن فكرة تقسيم الورث بالتساوي قد أحياها مرة أخري عمرو في خطته للإنتقام من أفراد العائلة.

 وهل الميراث كان ملعونا من البداية بسبب مصدره الآتي من تجارة السلاح؟ وهل كانوا يتاجرون في طلبيات مشبوهة؟، من الواضح أن جمال وحسن ضد المتاجرة في “الشمال” من حوارهما مع هاني، وهل الأبناء هما السبب في دخول مال حرام أطاح بكل الثروة؟، ونأتي أيضا لدلالة اسم الطيب الذي يدل علي الطيبة والنقاء، ومقارنة اسمه بتجارة السلاح تخلق مفارقة.

هذا الورث الذي أراد الجد الأكبر أن يوزعه علي عائلته بالتساوي آل إلي عائلة أخري نتيجة الظلم الذي جار به الأخوات علي بعض، حيث يذهب في النهاية إلي فتاة، والدها من خصاله الكرم، يجعل بابه مفتوحا ولا يرد ضيفا من علي بابه، بل يقترض حتي لا يغلق بابه أمام أحد. ذهب الأرث إلي حنان البغدادي التي تغيرت ظاهريا، ولكنها تحتضن أسرتها الشعبية المتمسكة بطعامها البسيط، وحميميتها، وينضم خادم القصر إليهم ليستمتع أخيرا بهذا المكان الذي كان يعمل به.

Exit mobile version