«سينماتوغراف» ـ محمود درويش
للموسيقار الكبير الراحل محمد عبد الوهاب كلمات بليغة عن نجيب الريحاني والسينما قال فيها: «لولا السينما ما أدركنا قيمة نجيب الريحانى لأنها خلدت أداءه وفنه وصورته، لتراه الأجيال الجديدة التى لم تحظ بمشاهدته على خشبة المسرح». وكانت تلك الكلمة عام 1954، اي بعد خمس سنوات من وفاة الريحاني، الذي رحل في مثل هذا اليوم 8 يونيو عام 1949 .
ورغم أنه قدم عشرة أفلام فقط للسينما المصرية، إلا أن ثلاثة منها اختيرت ضمن أفضل 100 فيلم مصري، وهي «سلامه في خير» الذي قدمه عام 1937 وكان الفيلم الخامس له، و«سي عمر» 1941، وكان الثامن له، و«غزل البنات» 1949، وكان آخر أفلامه.
وقد ظلمته السينما، وظلمها. ظلمته بعدم تمكنها من استثمار موهبته الرائعة، التي تجلت في المسرح بوضوح تام، ولم يمهله القدر ليصول ويجول في مجالها كما سبق وأن فعل مع المسرح بعد مرض لم يطل. أما ظلمه هو لها فمبعثه بعده عنها لفترة طويلة وعدم المسارعة إلى دخولها كما فعل فنانو جيله، وأيضا لسوء اختياراته الأولى من الأفلام.
ورغم ذلك، يبقى ان أفلام «الضاحك الباكي» اتسمت بقوة الموضوع وكوميديا الموقف وأسلوب الطرح الاجتماعى والاعتماد على دراما الشخصية التى تتنوع من موقف الى آخر وتدور فى فلك واحد يعمل على إبراز النزعة الإنسانية البسيطة مع وجود القدرة على النقد الاجتماعى. كما أنه طوال مشواره المسرحى والسينمائى رفض بشدة «كوميديا العاهات» أو «المعلبات سابقة التجهيـز» و«الوصفات المجربة» مثل تغيير الصوت أو الشكل أو طريقة المشى. كما كان يحرص فى كل أعماله على تأكيد انتمائه الإنسانى والاجتماعى إلى جموع الشعب حيث اختار طوال الوقت شخصياته من الطبقات الكادحة فى الشعب.
الريحاني والسينما
مع قلة أفلام نجيب الريحاني التي لم تتعد العشرة إلا أن النقاد يعتبرونها علامة في تاريخ السينما العربية بسبب التركيبة السيكولوجية الساخرة المضحكة المبكية للشخصيات التي جسدها الريحانى في ادواره بأداء سهل ممتنع. فقد كان يعرض مشكلات المجتمع فيها بأسلوب ساخر كوميدي بعيدا عن المبالغة والتكلف.
قدم الريحاني للسينما عشرة أفلام هي حسب ترتيبها الزمني: صاحب السعادة كشكش بيه 1931، حوادث كشكش بيه 1934، ياقوت أفندي 1934، بسلامته عايز يتجوز 1936، سلامة في خير 1937، أبو حلموس 1947، لعبة الست 1946، سي عمر 1941، أحمر شفايف 1946، غزل البنات 1949.
والأفلام الأربعة الأول لا وجود لها في الأرشيف السينمائي المصري مما يحول دون اطلاع الجمهور عليها، إلا أن فيلم “ياقوت” عرضته جمعية الفيلم المصرية على النقاد ذات مرة.
وكان الراحل ممثلا مسرحيا بالدرجة الأولى، حيث قدم نحو 80 مسرحية في مسيرته، منها 33 مسرحية مع صديق عمره وتوأمه في الفن بديع خيري حتى اعتزل العمل بالمسرح عام 1946.
وقد تأخر الريحاني في الدخول إلى عالم السينما حتى عام 1931 رغم أنه كان قد بدأ العمل بالمسرح منذ عام 1912، وذلك لاعتقاده أن السينما سوف تبعده عن المسرح الذي يعشقه مما قد يخسر معه جمهوره العريض الذي ارتبط به لسنوات طويلة.
وجاء الريحاني إلى السينما محملا بخبرات متراكمة من الوقوف على خشبة المسرح لفترات طويلة. وقد انعكس ذلك في أدائه في الأفلام التي قدمها.
وتميز اداء الريحاني في السينما بالبساطة والقدرة الفائقة على التعبير عن أدق تفاصيل الشخصيات التي جسدها، جامعا بين الضحك تارة وبين الحزن تارة أخرى ومتنقلا بينهما في سلاسة حسد عليها، وله في ذلك مشاهد يدرسها عشاق التمثيل حتى يومنا هذا.
فلا يمكن لأحد أن ينسى ملامح وجه الريحاني وهو يبكى مستمعا للموسيقار محمد عبدالوهاب يشدو بأغنيته الجميلة عاشق الروح فى «غزل البنات» الذي عرض فى 22 سبتمبر 1949، أو وهو يطلق تحية كاريوكا فى «لعبة الست» الذي عرض فى 28 فبراير 1946.
الفيلم الأول
كان أول ظهور سينمائي حقيقي للريحانى عام 1931 في فيلم «صاحب السعادة كشكش بك» الذي اخرجه بالتعاون مع استيفان روستي وانتجه من خلال شركة أفلام الريحاني. ولم يكن الريحاني متحمسا لهذه التجربة لعدم وجود بديع خيري إلى جواره بسبب خلاف بينهما، لكنه وافق في النهاية وتم تصوير الفيلم وبلغت تكاليف إنتاجه 400 جنيه مصري وكان مبلغاً زهيداً إلا أن الفيلم حقق نجاحاً لم يتوقعه الريحاني نفسه- كما يشير هو في مذكراته، لتصبح هذه الشخصية بداية نجاح الريحاني سينمائياً ومسرحياً.
وقد دخل الريحاني هذا الفيلم تحت ضغط الأزمة المادية من دون سيناريو أو خطة عمل وكان يعتمد على الارتجال حيث كان يؤلف « أولاً بأول».
ويروي الريحاني في مذكراته عن ميلاد شخصية كشكش بك قائلا: «رأيت الشخصية فيما يشبه الحلم حيث رأيت ريفياً ثرياً يرتدي الجبة والقفطان وعلى رأسه عمامة كبيرة. وقد تحمست لتقديمها مسرحياً من خلال شخصية عمدة ريفي يأتي إلى القاهرة وينفق أمواله على الراقصات ويعود لبلدته مفلساً». وأطلق الريحاني عليها اسم «كشكش» وهو الاسم الذي كانت صديقته الفرنسية تدلله به.
بعد ذلك قام ببطولة فيلم «حوادث كشكش بيه» من تأليفه واخراج كارلو بويا تمثيل سيد سليمان ومختار عثمان وحسين رياض وعبداللطيف جمجوم واستيفان روستي وعرض يوم 22 يناير 1934 بسينما الأهلي.
وقدم الريحاني فيلـمه الثالث «ياقوت» من إخراج إميل روزييه والسيناريو لبديع خيرى والذى قام بالتمثيل لاول وآخر مرة فى السينما وادمون تويما وناهد كمال وعبد الله صالح وايمى برفان. وقد تم تصويره فى ستة أيام فى باريس وقدم نجيب الريحانى هذا الفيلم تحت وطأة أزماته المادية، وعرض في 23 مارس بدار سينما متربول 1934.
وفي يوم 6/3/1936 عرض الريحاني فيلم «بسلامته عايز يتجوز» بسينما ديانا من بطولته واخراج الكسندر فاراكاش وتمثيل عزيزة أمير وبشارة واكيم وعبدالفتاح القصري وفتحية شريف وحسن فايق وزينات صدقي وزكريا أحمد وبديع خيري وشفيقة جبران وبهيجة أمير ومحمد مصطفي.
ويؤكد المؤرخون السينمائيون أن الظروف المادية السيئة التي مر بها الريحاني فرضت عليه قبول الأفلام الأربعة الأول والتي لم يكتب لها النجاح، ولهذا قرر عدم العمل في السينما حتى أقنعه الممثل أحمد سالم مدير «ستديو مصر» وقتها ببطولة فيلم بعد نجاح فيلم «وداد» لسيدة الغناء العربي أم كلثوم الذي أنتجه استديو مصر.
وأكد أحمد سالم للريحاني أن السينما هي الوثيقة التي ستحفظ تاريخ الفنان ليصبح فيلم «سلامة في خير» البداية الحقيقية لنجيب الريحاني في السينما، وهو أول فيلم من إخراج نيازي مصطفى، الذى درس السينما فى ألمانيا وعمل كمونتير وكان من أنجح من استخدموا الحيل فى السينما المصرية، ولذلك تدخل بفاعلية فى تعديل السيناريو الذى كتبه الريحانى وبديع خيرى وكان يساعده صلاح ابو سيف فنجح الفيلم خاصة وانه ضم مجموعة كبيرة من الممثلين مثل حسين رياض – فؤاد شفيق – شرفنطح – راقية إبراهيم – روحيه خالد، وحسن فايق واستيفان روسيتى وفؤاد شفيق وفردوس محمد وميمى شكيب وعرض في 29 نوفمبر 1937.
وظهر الريحاني في الفيلم جادا بعد أن اقتنع سريعاً بالمخرج نيازي مصطفى بل وكتب بنفسه السيناريو وتعاون مع بديع خيري في صياغة الحوار وحقق الفيلم نجاحاً كبيرا جعل الريحاني يواصل عمله في السينما.
وكان الفيلم السادس «سى عمر» عام 1941، وهو فيلم مقتبس عن الفيلم الأمريكى «رغبة» وقد تم تمصيره بشكل رائع وتشجع الريحانى وقدم شخصيتين فى الفيلم «عمر – جابر» بعد أن رفض ذلك من قبل في «سلامه في خير». وحقق سى عمر نجاحاً أكبر حيث كان أكثر نضجاً فى كافة المجالات وقام بالتمثيل ميمى وزوزو شكيب ومارى منيب وفؤاد الرشيدى وفيكتوريا حبيقه واستيفان روسيتى وعلى عبد العال وشرفنطح وعبد العزيز الجاهلى وعبد العزيز احمد وسراج منير وعبد الفتاح القصرى وغنت فيه المطربه اجلال زكى والمطرب محمد الكحلاوى وكان العرض في 6 يناير 1941 وكان من اخراج نيازى مصطفى أيضا.
ورغم نجاح سى عمر إلا أن نجيب الريحانى لم يتحمس للسينما بالشكل الكافى ولذلك انتظر خمس سنوات كاملة حتى قدم فيلميه السابع «لعبة الست»، والثامن «أحمر شفايف» فى عام 1946. والفيلمان من إخراج ولى الدين سامح الذى كان مهندساً للديكور فى أستوديو مصر منذ افتتاحه وشارك فى فيلم «وداد» كما شارك فى فيلمى الريحانى السابقين.
وجاء فيلم «لعبة الست» كواحد من أهم كلاسيكيات الكوميديا فى السينما المصرية بينما يغلب الطابع التراجيدى وقام بالتمثيل سليمان نجيب وتحيه كاريوكا وغنى عزيز عثمان وشارك بشاره واكيم وحسن فايق ومارى منيب وكانت الالحان لمحمود الشريف وعرض 28 فبراير 1946.
وفي فيلم «أحمر شفايف» تعمد نجيب الريحانى أن يشبع رغبته الدائمة فى الأداء التراجيدى وإن أدى ذلك إلى عدم نجاح الفيلم على المستوى الجماهيرى وشاركته ساميه جمال التى غنت ورقصت وصالحه قاصين وعفاف شاكر وعلى عبد العال وعبد العزيز خليل وزوزو شكيب ورياض القصبجى ومحمد الديب، ومن اخراج ولى الدين سامح وعرض 9 سبتمبر 1946.
وفى عام 1947 قدم الريحانى فيلمه التاسع «أبو حلموس» ليعود به إلى كوميديا الموقف والفيلم مأخوذ عن إحدى مسرحيات بديع خيرى والريحانى وكان من اخراج ابراهيم حلمى وشاركه التمثيل الراقصه هاجر حمدى، وحسن فايق وعباس فارس وزوزو شكيب وكان العرض في 27 اكتوبر 1947.
وبعد هذا الفيلم اتفق الموسيقار محمد عبد الوهاب وأنور وجدى اللذان كانا شريكين فى شركة إنتاج سينمائى مع نجيب الريحانى فى عام 1949 على بطولة فيلم «غزل البنات» من إخراج أنور وجدى الذى حشــد كوكبة رائعة من كبار النجوم «يوسف وهبى، محمد عبد الوهاب الذي غنى عاشق الروح، محمود المليجى، زينات صدقى، ليلى مراد، استيفان روستى، عبد الوارث عسر، سليمان نجيب، فردوس محمد، فريد شوقى، ومحمد كامل، وسعيد ابو بكر، وأنور وجدى». ومات الريحاني قبل أن يتم انتهاء الفيلم بعد إصابته بحمى التيفود مما أدى إلى تغيير نهايته.
ويشير بعض المؤرخين السينمائيين إلى أن هذا الفيلم تم بعد أن طلب الريحاني من ليلى مراد- جارته في السكن في عمارة الإيموبيليا- أن يجمعهما عمل مشترك.
وقد نجح فيلم غزل البنات نجاحاً مدويـاً جعله يمثــل القمـة بين كـل الأفـلام «التراجيدية- الكوميدية» فى تاريخ السينما المصرية والعربية وكان أفضل ختام لهذا المشوار الحافل الذى حفره نجيب الريحانى بموهبة رائعة.
وادرك الريحاني قبل رحيله وبعد مشاهدته لبعض الأجزاء من فيلمه الاخير «غزل البنات» قيمة السينما واهميتها، وخفف هذا من غضبه على السينما بسبب أفلامه الأربعة الأولى التي لم تحقق النجاح المنتظر.
نظرة نقدية
يرى السيناريست رفيق الصبان أن الراحل نجيب الريحانى صاحب مـدرسة متفردة فى الكوميدية ولم ينجح أن يقلده أى فنان مهما كانت درجة موهبته مشيـراً إلى أن كلا من فؤاد المهندس وفريد شوقى حاولا أن يسيرا على طريقته لكنهما فشلا.
وقال إن الريحانى من الفنانين القلائل الذين قدموا عمقاً نفسياً للكوميديا الموجودة فى أعمالهم. وفى رأيه أن السينما لم تتح له المجال ليعلن عن موهبته وعقبرية ادائه كممثل من الطراز الأول بشكل كبير على عكس المسرح الذى تبارى على خشبته ليقدم شخصيات متنوعة ومعظمها ملىء بالتمرد الخفى وعدم الاستسلام للمحتل الانجليزى وهذا ما جعل هناك حرب على اعماله لأنها كانت تدعو الشعب للثورة على الظلم.
واعتبر الصبان أن «كشكش بيه» من أكثر الشخصيات التى برع الريحانى فى تقديمها وعلقت فى اذهان الناس.
وقد كان من الطريف والغريب أن يكتب الريحاني نعيه قبل وفاته، والذي جاء فيه: «مات نجيب.. مات الرجل الذي اشتكي منه طوب الأرض وطوب السماء هذا إذا كان للسماء طوب مات نجيب الذي لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب. ومات الرجل الذي لا يعرف إلا الصراحة في زمن النفاق. ولا يعرف إلا البحبوحة في زمن البخل والشح.. مات الريحاني في ستين ألف سلامة! ».