ناصر عراق يكتب لـ «سينماتوغراف»
الستينيات تشهد مجد محفوظ والتسعينيات تواصل إهانته سينمائيًا
يبدو أن المرء في حاجة إلى مئات الساعات لمشاهدة الإنجاز السينمائي لنجيب محفوظ، فالرجل ترك بصمة عميقة في تاريخ الشاشة البيضاء، سواء بكتابة السيناريوهات أو بالكتابة خصيصا للسينما، أو بإقدام المخرجين على تحويل رواياته إلى أفلام صالحة للعرض.
تعالوا نواصل رحلتنا ونقدم لكم الجزء الثالث من السيرة السينمائية لأشهر وأهم أديب مصري وعربي في الألف السنة الأخيرة.
نجيب المعالج
لا أحد يملك تفسيرا مقنعا لعودة نجيب محفوظ مرة أخرى إلى عالم السينما من باب آخر غير باب الروايات، إذ فوجئ جمهور السينما الذى ذهب ليشاهد العرض الأول لفيلم (الناصر صلاح الدين) فى 25 فبراير 1963 بأن اسم نجيب يتصدر قائمة من ثلاثة أسماء تحت بند علاج القصة التى كتبها يوسف السباعى! أما الاسمان الآخران فهما المخرج الرقيق عز الدين ذو الفقار والمخرج محمد عبدالجواد! فى حين كتب سيناريو الفيلم يوسف السباعى نفسه ومخرجه يوسف شاهين، وفى آخر هذا العام أشرقت رواية أخرى لنجيب على الشاشة البيضاء، فأخرج حسن الإمام فيلم (زقاق المدق/ صدرت فى 1947) الذى عرض فى 21 سبتمبر 1963، أى بعد 16 عاما من صدور الرواية ليحقق نجاحا جماهيريا معتبرًا، لكن جوهر الرواية انزلق من المخرج إلى حد كبير، ولا بأس عليه فى ذلك، فصانع الرواية غير محقق الفيلم، والرواية تخاطب النخبة القارئة الباحثة عن الثقافة والمتعة والمعرفة، بينما الفيلم السينمائى يتوجه نحو الجمهور العام يستهدف إمتاعه سريعاً فى أغلب الأحيان، ومع ذلك فقد احتفى حسن الإمام بنجيب وكتب اسمه ببنط كبير وواضح بشكل منفرد.
بين القصرين
العجيب أن رواية (بين القصرين) أول أجزاء ثلاثيته موفورة الصيت قد أنهى كتابتها عام 1952، ولم تطبع إلا فى سنة 1956، ثم عرفت طريقها إلى الشاشة البيضاء عام 1964، ويبدو أن النجاح الذى حققه حسن الإمام فى فيلم (زقاق المدق) أغراه بالتعامل مع أجواء الحارات العتيقة والزمن القديم، وهكذا كتب اسم نجيب بخط فارسى جميل مرفوقا بوصف الكاتب الكبير قبل اسم الرواية والممثلين، رغم أن يحيى شاهين كان نجماً كبيراً فى تلك الآونة، وقد قام بتجسيد أشهر شخصية سينمائية فى تاريخ الفن السابع، ألا وهى شخصية (سى السيد عبدالجواد).
اللافت للانتباه أن عم نجيب لم يسلُ أجواء السينما رغم ما بدأت تحققه رواياته من حضور قوى على الشاشة، فها هو يعود إليها من الباب الخلفى، حيث عرض له فى 28 سبتمبر 1964 فيلم (ثمن الحرية) الذى أعده نجيب نفسه عن مسرحية للكاتب العالمى عمانويل روبليس كما جاء بالنص فى مقدمة الفيلم، وقد احتفى المخرج نور الدمرداش باسم نجيب فوضعه فى لوحة واحدة على الشاشة مكتوبا بخط رقعة جميل وناصع، رغم أن جميع أبطال الفيلم ونجومه محمود مرسى وصلاح منصور وكريمة مختار لم تكتب أسماؤهم بشكل منفرد، باستثناء عبدالله غيث!
الطريق وخان الخليلي
إن علاقة محفوظ بالسينما تدفعنا للوقوف أمام أمرين: الأول ما طبيعة علاقة الرجل بالسينما فى فترة السبعينيات من القرن الماضى، وهى فترة ضاجة بالأحداث العنيفة والمفاجآت الغريبة والانقلابات السياسية الحادة (تذكر الآتى: حرب أكتوبر 1973/ الانفتاح 1974/ انتفاضة يناير 1977/ سفر السادات إلى إسرائيل 1977/ اتفاقية كامب ديفيد 1978/ معاهدة السلام 1979/ مصرع السادات 1981)، أما الأمر الثانى فهو كيف تعاملت السينما مع محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل فى الأدب (أكتوبر 1988)؟
يبقى فى الأخير ضرورة الإشارة إلى أن هذه الدراسة لا ولن تكفى الإحاطة بمنجز نجيب محفوظ السينمائى، لأنه أغزر وأشمل، لكننا حاولنا، قدر الطاقة، أن نطل سريعا على عالمه الشاسع بمناسبة مرور تسع سنوات على رحيله.
للمرة الأولى تصدر رواية لمحفوظ فتهرع السينما إليها وتنتجها فى العام نفسه، إنها روايته الجميلة (الطريق) التى أخرجها حسام الدين مصطفى وعرضت على الشاشة فى 14 ديسمبر 1964، حيث كتب اسم نجيب قبل أسماء نجوم الفيلم، وهم من المشاهير الكبار مثل شادية وسعاد حسنى ورشدى أباظة وتحية كاريوكا، الأمر الذى يؤكد أن قامته الأدبية كانت فى ارتفاع وعلو فى ذاك الزمن، وبرغم الجانب الفلسفى العميق الذى تطرحه الرواية، وهو شقاء الإنسان فى رحلة البحث عن المثل الأعلى أو المطلق، فإن الفيلم لم يشتبك مع ذلك الجانب الرئيسى فى الرواية، واكتفى برصد عذاب البطل فى رحلة البحث عن أبيه، وما واجهه من علاقة غرامية رائقة أو مشبوهة.
بعد مرور عشرين سنة على صدور رواية (خان الخليلى فى 1946)، ها هى السينما تسعى إليها، فيقدمها عاطف سالم فى فيلم بالاسم نفسه يعرض فى 12 يناير 1966، فما الداعى لذلك؟ هل بات اسم نجيب على أفيشات الفيلم جالبا للجمهور والمال؟ أم أن الحنين إلى قاهرة الأربعينيات داعب سكان قاهرة الستينيات؟ أم أن حبكة الرواية بها ما يخاطب الذوق العام لرواد السينما فى ذلك الوقت؟
الأمر نفسه حدث مع رواية (القاهرة الجديدة/ صدرت فى عام 1945)، بينما حققها المخرج صلاح أبوسيف للسينما باسم (القاهرة 30) وشاهدها الجمهور فى 31 أكتوبر 1966، أى بعد 21 عاما من صدورها، فماذا حدث حتى تلتفت السينما إلى روايات الرجل؟
على أية حال حقق (القاهرة 30) نجاحا باهرا ومازال، وبالمناسبة صدرت الرواية فى الطبعة الأولى باسم (فضيحة فى القاهرة)، ثم قام محفوظ بتغيير الاسم إلى القاهرة الجديدة، وحولها أبوسيف إلى القاهرة 30، حيث تألق حمدى أحمد فى دور محفوظ عبدالدايم، وكذلك الفنان عبدالعزيز ميكوى فى دور على طه. وأذكر أننى التقيت صلاح أبوسيف مرة فى معرض الكتاب عام 1993، وسألته (لماذا يا أستاذ وضعت أغنية عبدالوهاب «القلب يا ما انتظر» فى خلفية المشهد الذى جمع سعاد حسنى وحمدى أحمد ليلة قرانهما، حيث ساد صمت عميق بين العروسين وهما جالسان فى الشرفة، بينما ظل عبدالوهاب يصدح لمدة ثلاث دقائق تقريبا «وليه يا روحى تحب نوحي.. وليه يا روحى طول الغياب»؟).. آنذاك ابتسم الأستاذ صلاح وقال لى: (الموقف محرج جدا كما تعلم، ولم أجدا حلا سوى أن أضع أغنية شجية مثل هذه خاصة أننى أحبها كثيرا).
السمان والخريف وقصر الشوق
شهد عام 1967 عرض فيلمين عن روايتين لمحفوظ، الأولى (السمان والخريف) التى صدرت فى 1962، فى حين حققها للسينما المخرج حسام الدين مصطفى وعرضت فى 13 فبراير 1967، وقد استقر اسم محفوظ على الشاشة بوصفه كاتبا كبيرا يكتب بخط عريض وقبل أسماء النجوم، ويبدو أن الفيلم لم يكن على مستوى الرواية، برغم وجود ممثل عظيم مثل محمود مرسى على رأس نجومه، لذا لم يحقق نجاحا كبيرا آنذاك، ولا عند عرضه الآن على شاشة الفضائيات، أما الفيلم الثانى فهو (قصر الشوق/ عرض فى 31 ديسمبر 1967) وحسنا فعل مخرجه حسن الإمام حين وضع أغلفة الأجزاء الثلاثة من الثلاثية فى بداية التترات، وهى المرة الأولى حسب علمى التى يوضع فيها غلاف الكتاب المطبوع بدلا من اللجوء لخطاط يكتب اسم الفيلم. وإذا كان السمان والخريف لم يحقق النجاح المأمول نظرا للتشويش الفنى الذى أصاب الفيلم بعطب لا يخطئه المشاهد العادى، فإن قصر الشوق قد حقق نجاحا لافتا، بدا فى ترسيخ شخصية السيد عبدالجواد فى الوجدان الشعبى المصرى، وأذكر أننى نشرت حوارا حين كنت أدير تحرير مجلة (دبى الثقافية) أجراه ناقدنا الكبير كمال رمزى مع الفنان المتفرد محمود مرسى حول شخصية السيد عبد الجواد التى أداها محمود مرسى فى مسلسل تلفزيونى، أذكر أن الفنان الكبير أقر بأن يحيى شاهين كان أكثر براعة منه فى تجسيد الشخصية، إذ قال بذكاء وتواضع: (إن دور سى السيد كان يبحث عن يحيى شاهين، بينما كنت أنا أبحث عن الدور)!
أفلام بالجملة!
ربما تكون المجاملة هى التى دفعت محفوظ إلى أن يقوم بإعداد قصة فيلم (شىء من العذاب) للسينما، وهى القصة التى كتبها أحمد رجب، إذ كان الرجل فى ذلك الوقت (عرض الفيلم فى 22 سبتمبر 1969) يتمتع بالحسنيين.. مكانة أدبية مرموقة ومجد وظيفى مستقر (كان وكيل وزارة الثقافة)، وبالتالى لم يكن فى حاجة إلى العودة إلى إعداد القصص للسينما ليتربح، لذا أظن أن مجاملة صديقه صلاح أبوسيف مخرج الفيلم هى التى حرضته على فعل ذلك.
فى 13 أكتوبر 1969 عرض فيلم ميرامار المأخوذ عن رواية لنجيب صدرت فى 1967، وقد بذل مخرج الفيلم كمال الشيخ مجهودا كبيرا ليبدو الفيلم فى أبهى صورة، وقد وفق لا ريب فى ذلك، لكن ستظل لرواية ميرامار طعمها الخاص من حيث البناء والتكنيك والحس اللاذع!
وكعادة الأستاذ نجيب نفاجأ باسمه مكتوبا فى مقدمة فيلم (بئر الحرمان/ عرض 29 ديسمبر 1969)، وهى رواية لإحسان عبدالقدوس، بوصفه من تولى إعدادها للسينما! ثم يكتب اسمه فى فيلم (دلال المصرية/ عرض فى 3 نوفمبر 1970) باعتباره من اقتبس قصة البعث لتولستوى، بينما تولى حسن الإمام إخراج الفيلم وكتابة السيناريو!
ثم تنهمر الأفلام عن رواياته، من أول (السراب/ صدرت عام 1948) وأخرجها أنور الشناوى ليعرض الفيلم فى 28 ديسمبر 1970، وهو فيلم بائس بكل أسف، برغم عمق الرواية ومتانة الحبكة، ثم فيلم (الاختيار/ عرض فى 15 مارس 1971) الذى كتب قصته مع يوسف شاهين، وبالمناسبة فقد أدان محفوظ فى حواره الطويل مع رجاء النقاش يوسف شاهين واعتبره منفصلا عن الجماهير نظرا لغموض أفلامه! وفى 15 نوفمبر 1971 عرض فيلم (ثرثرة فوق النيل/ صدرت الرواية فى 1966)، فحقق نجاحا لا بأس به نظرا لأجواء الحشاشين وقفشاتهم التى اعتنى بها حسين كمال مخرج الفيلم أكثر من اهتمامه بمضمون الرواية الفاتنة، وأعد محفوظ قصة إحسان (إمبراطورية ميم/ عرض فى 1972)، وكتب قصة فيلم (ذات الوجهين/ 14 يناير 1973)، وهو فيلم متواضع بكل المقاييس، ثم تصدر غلاف روايته (السكرية) عناوين الفيلم الذى عرض فى يوم عرض ذات الوجهين!
فى نحو خمس عشرة سنة (من منتصف السبعينيات حتى نهاية الثمانينيات) استضافت السينما روايات أديبنا الكبير بكثافة، فعرضت له (الحب تحت المطر)، (الكرنك)، (الشيطان يعظ)، ثم سطا المنتجون والمخرجون على رائعته الخرافية (الحرافيش) ومزقوها إلى عدة أفلام تعيسة مثل (شهد الملكة)، (الحرافيش)، (المطارد)، إذ لم ينجح أى مخرج، للأسف الشديد، فى استخراج الذهب الفنى الكامن فى هذا المنجم الروائى الخالد وأعنى (الحرافيش)!
على أية حال.. لن نستطيع أن نتوقف طويلا عند هذه الأفلام نظرا ولركاكتها، لكن يصح القول إن السينما أسهمت لا ريب فى ترويج اسم نجيب شعبيا، ومن يريد الاستزادة من عبقريته الروائية عليه العودة إلى الأصل. بقى أن نشير إلى أن السينما لم تقترب من بعض رواياته المهمة مثل (العائش في الحقيقة)، (حضرة المحترم)، و(قشتمر) وليس عندى تفسير لذلك، لكن تبقى علاقة صاحب نوبل بالسينما بالغة الثراء وفى حاجة إلى مزيد من القراءة والتحليل، فعسى أن نفعل ذلك يوما ما.