لوس أنجلوس ـ «سينماتوغراف»
يمكن القول أن أوبنهايمر Oppenheimer، هو أكثر أفلام كريستوفر نولان تجريداً وفي نفس الوقت أكثرها إثارة، إنه يمثل رؤية مقلقة وساحرة للكارثة التي تستطيع البشرية جلبها على نفسها، سواء من خلال الابتكار أو قدرتها على تبرير أي فظاعة.
يدور الفيلم في جوهره دائماً حول مسألة مكانة جيه روبرت أوبنهايمر في التاريخ، كما يراها الآخرون، وكما يراها هو نفسه. والاستنتاجات التي يتوصل إليها الفيلم ليست بالسهلة أبداً، حيث تعتمد على الأفكار التجريدية المتكررة والمذهلة أكثر من الكلمات.
إنها رؤية سينمائية تهز الأرض لم يشهد مثلها أي فيلم آخر من أفلام نولان، وهو عمل قد يتركك تأثيره الجمالي تخرج من السينما في تفكير صامت، إحساس لا يستطيع سوى قلة من مخرجي هوليوود الحديثين زرعه.
فيلم سيرة ذاتية مدته ثلاث ساعات يقدم عناصر تشويق مثيرة، ونادراً ما يتباطأ باستثناء لحظات ليتأمل بها أسئلة الذنب الهائل، حيث يصور حالة نفسية نابضة بالحياة تتربص في العقل الواعي للبطل، والمبتلى برؤى الدمار الشامل التي تعمل بمثابة تحذير واتهام للجنس البشري في آن واحد. إنه عمل سينمائي يشعر المشاهد بالشلل، ويجعل قلبه يخفق، ويخطف الأنفاس.
حددت المشاهد الافتتاحية التوقعات لنوع الفيلم الذي يليها، حيث أسس الجدول الزمني المتشعب إلى 3 مسارات للقصة، التي عادت بلقطات فلاش باك لتقديم والد القنبلة الذرية المستقبلي (يلعب دوره كيليان ميرفي في جميع الأعمار)، خلال أيام دراسته الجامعية في عشرينيات القرن الماضي، عندما كان يشعر بالوحدة والاضطراب. في المرة الأولى التي يظهر فيها روبرت، نراه ينظر نحو الأسفل ويحدق في قطرات المطر المتموجة في البرك، وهي صورة تذكره بنيران الجحيم المنبعثة من الجسيمات الذرية، حتى صفاء الطبيعة لا يمكنها تهدئة عقله المضطرب. تتكرر هذه الأفكار المتطفلة طوال الفيلم، خاصة في اللحظات التي يضطر فيها إلى مواجهة القوة الهائلة لما قام باختراعه. كثيراً ما تتم مقاطعة قصة نولان عن الغرور والندم والقوة التي أُطلق العنان لها، من خلال صور يتم تجسيدها منكسرة ومفجرة إلى حجم شاشة IMAX، كما لو كان يريد الفيلم وضع سياق مرعب تماماً لكمية الدمار الهائل الذي يمكن إحداثه من شيء صغير للغاية.
تأخذنا جلستي استماع حكوميتان إلى ماضي روبرت، كليهما بعد عدة سنوات من تفجيري هيروشيما وناغازاكي. يتم تقديم الأولى باللون الباهت، وفيها يتم تحدي ولاء روبرت للولايات المتحدة في عام 1954، بينما يتم تقديم الثانية باللونين الأبيض والأسود، وفيها يوضع رئيس لجنة الطاقة الذرية السابق لويس شتراوس (روبرت داوني جونيور)، وهو حليف سابق ثم خصم لاحقاً لروبرت، تحت وابل الأسئلة عام 1959. غالباً ما يعود المشهد الأخير إلى السابق، والذي بحد ذاته يتتبع مسيرة روبرت العلمية خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي حتى تم تجنيده في نهاية المطاف في مشروع مانهاتن في عام 1942.
جلسات الاستماع الثنائية في أوبنهايمر تخلق وجهات نظر متضاربة تؤدي أحياناً إلى مشاهد متداخلة ومتكررة، كل منها من وجهة نظر روبرت وشتراوس على التوالي، حيث يتم الكشف عن أحدهما بلون (أكثر حيوية بقليل) والأخرى بلون أحادي.
لكن علاقة الثنائي ليست القوة المحركة المركزية للقصة، بل هي السباق لبناء واختبار القنبلة الذرية، والتي تستغرق جزءاً كبيراً من وقت الفيلم، ولكنها تخدم هدفاً هاماً من حيث الموضوع.
يتعمق أوبنهايمر في غرور كلا الرجلين بطريقة تؤدي في النهاية إلى خاتمة درامية مذهلة تكشف عن التيار الخفي المستمر للندم الذي يحركه نولان ويستخرج أداءً متفجراً ومتعدد الطبقات من “داوني” لم نشهده في أي من أفلامه في العشرين عاماً الماضية.
تتكشف القصة وصولاً إلى تلك الخاتمة كما لو كانت في سقوط حر، وتندفع بشكل هادف بين العديد من المشاهد التي تحدث فيها اكتشافات علمية هامة، مما يجعل روبرت وفريقه من العلماء المختارين بعناية أقرب خطوة إلى أشخاص بقوى من خارج عالمنا.
يتم إبطاؤهم كثيراً خلال الفيلم بفضل أسئلة التحقيق التي تطرحها حكومتهم المشبوهة نفسها الخائفة من تمدد الشيوعية، والتي يقودها بعض مسؤولي الأمن المتميزين (الذين يمثلهم داين داين ديهان، وكاسي آفليك، وديفيد داستمالشيان) الذين يلعبون دور الأوغاد الإداريين في أعلى رتبة، مما يعزز من الشدة الموجودة.
يجلب كيليان ميرفي بأدائه لشخصية روبرت الغامض ( وهو الأستاذ الذي يدور حوله الطلاب المتحمسون مثل الإلكترونات حول النواة) إحساساً ضرورياً برباطة الجأش والقيادة والذي يتناقض مع مكانته الهزيلة، لكنه يحمل تعبيراً دائماً من الإنزعاج يمكن رؤيته حتى خلف ابتساماته البالية. إنه لا يبدو “وكأنه رأى للتو شبحاً”، بقدر ما يبدو وكأنه كان يراه طوال حياته، مما يجبر المرء على التساؤل عما إذا كانت قدرته على تخيل اللبنات الأساسية للوجود هي التي دفعته إلى العظمة، أو اللعنه.
يقدم الفيلم طاقم ممثلين مساعدين مرصع بالنجوم، والذي يبرز منهم الكثيرون، أحدهم على سبيل المثال هن النساء في فريق نولان، وهما شخصيتين من الإناث اللتان تثير مشاركتهما مع الحزب الشيوعي الأمريكي (وارتباط روبرت بهما) حفيظة العم سام، تلعب فلورنس بو دور جان تاتلوك، وهي حبيبة روبرت المتقلبة، بينما تلعب إميلي بلانت دور كيتي زوجة روبرت التي عانت طويلاً، ويتم تجسيد شخصيتها بشكل عميق ومتكامل أكثر بكثير مما اعتدناه من أدوار الزوجات الداعمات في أفلام السيرة الذاتية الهوليوودية، اللواتي لا يفعلن شيئاً سوى التغني بعبقرية شركائهن. وبدلاً من ذلك قد تكون كيتي هي الشخص الوحيد الذي يعرف روبرت الحقيقي من الداخل إلى الخارج: الرجل الذي يقف متنكراً بمهارة وراء تواضعه المزيف وشخصية “العبقري الوحيد” المزعجة.
يقدم نولان العديد من روائع اللمحات الإخراجية إلى جانب زملائه الذين تعاون معهم في فيلم Tenet، بداية من المصور السينمائي هويت فان هوتيما، إلى الملحن لودفيغ غورانسون، ووصولاً إلى المونتيره جينيفر لام. يتم استخدام إطار IMAX العملاق الذي يبلغ ارتفاعه تقريباً مثل عرضه لإحداث تأثير هائل، ليس فقط لالتقاط المشهد، ولكن للتركيز بشكل درامي على اللقطات المقربة، ولتصوير المناظر الطبيعية الهائلة لنيو مكسيكو حيث يحتل روبرت مكانة الرجل الأصغر والأكثر وحدة في التاريخ.
ومن ناحية أخرى، يؤلف غورانسون موسيقى حماسية ومثيرة للأعصاب من الأصوات المحيطة، مثل أقدام الجماهير الغاضبة، والتي تتصاعد بوتيرة ثابتة، ومن خلال العمل جنباً إلى جنب مع مصمم الصوت راندي توريس، يعرف نولان وغورانسون بالضبط متى يتخليان عن التأثيرات الصوتية المدوية وترك الصمت يتحكم بالكامل. حتى همسات التنفس البشرية، سواء عند الارتياح أو الرعب، تصبح سيمفونية خاصة بها عندما يصبح عقل روبرت أكثر تركيزاً على الكارثة.
هنا يصل الإخراج إلى أوجه، فيلف الشخصية في أعمق مخاوفها وقلقها بجعله حقيقي بشكل مرعب. يمكن القول أنه أفضل مشهد قام نولان بإخراجه على الإطلاق. ستعرفونه عندما تشاهدونه.
تجذبنا المونتيره جينيفر لام داخل وخارج هذه الكوابيس الحية من خلال الأحاسيس المرهفة للصوت واللمس، كما لو أن العالم كان متقلباً فجأة لدرجة أن أدنى قدر من المحفزات قد يشعله، حتى القنبلة نفسها تبدو مليئة بالتفاصيل النابضة بحيث نشعر أنها على قيد الحياة، كوحش نائم ينتظر أن يوقظه أحد.
ونظراً لأننا نشاهد أوبنهايمر في عام 2023 فنحن نعلم أن العالم لا ينتهي في عام 1945، ولكن يبدو دائماً من خلال الفيلم أنه من الممكن أن ينتهي في أي لحظة.