القاهرة ـ محمود قاسم
كلما حاول الكاتب البحث عن كيفية تناول شهر رمضان في السينما المصرية كانت هناك أزمة تكرار في الكتابة في أن عدد الأفلام التي تدور الأحداث فيها في شهر رمضان قليلة بشكل ملحوظ. ولكن، بالبحث الجاد والحقيقي بدأت الصورة تتغير وهي ان العديد من الأحداث التاريخية البارزة في التاريخ العربي في القرن العشرين قد دارت في شهر رمضان، لكن التعرف علي هذه الأحداث من خلال التاريخ الميلادي جعلنا لا نعرف أن الجنود المصريين والعرب ذهبوا إلي حرب فسلطين في عام 1948 وهم صائمون ولاشك أن ذكاء الرئيس الراحل أنور السادات الذي أراد تاريخين لانتصار أكتوبر مما جعله يشعر الشعب المصري بالفرحة مرتين، حين كان هناك احتفال رسمي بانتصار أكتوبر في يوم السادس من كل عام، وهناك احتفال إعلامي بالعاشر من رمضان أيضا في كل عام.
وعن طريق هذه الرؤية الجديدة لتاريخ السينما فان كتاب سيناريو أفلام حرب فلسطين عام 1948، وما أكثرها عدداً كانت كلها تدور أحداثها في صيف 1948، وقد تنبهت إلي هذه الظاهرة بقوة وأنا أشاهد فيلم «الإيمان» الذي أخرجه أحمد بدرخان عام 1952 حول مادار في حرب فلسطين من خلال عائلة مصرية ربطت أبناؤها أنفسهم بحرب فلسطين فذهب الأخ الأكبر صابر «سراج منير» كضابط متقاعد يتم استدعاؤه إلي الحرب فيذهب إلي هناك ويودع بناته وأخاه الأصغر زناتي «محمود المليجي» ويعلن ذهابه إلي هذه الحرب وهو صائم إلي الله بمناسبة حلول شهر رمضان.. وقد قضي الضباط والجنود أيام الحرب القاسية في ظروف مختلفة عما سيحدث في حرب رمضان أو حرب أكتوبر.. فنحن في شهر يوليو وأيضا أغسطس حيث إن المحاربين يرتدون الزي العسكري الخاص بالحرب، ونراهم في الخيام المفتوحة يعانون أيضا الصيام والحر معاً وقد أعلن صابر في أحد مشاهد الحرب عن التزامه الديني بالصيام، وقد كان في صحبته في هذه الرحلة اثنان من أفراد عائلته جسدهما كل من نور الدمرداش وسناء جميل اللذان شاركا في الحرب أيضا كمتطوعين من الشباب وفعلا ذلك وهما صائمان والذي حدث ان صابر قد دفع حياته في المعارك ودفن مع الجنود الذين ظلوا صائمين وسط القيظ والقنابل والنهار الصيفي الطويل.
وإذا كنا سوف نقرأ أفلاماً مصرية تم انتاجها عن هذه الحرب بمواقع أن ماحدث للجنود والضباط العرب الذين شاركوا في هذه الحرب كانت متشابهة فسوف نعرف إلي أي حد عاني الجنود، لكن الكثير من الأفلام التي تم انتاجها عن حرب 1948 قامت بتسييس الحرب وجعلت الجيوش العربية خاصة في مصر قد أصيبت بالنكبة لسبب آخر هو ما سمي سياسيا بالأسلحة الفاسدة، وعليه فقد تم تجريد قرابة خمسة عشر فيلما مصريا من الظروف الحياتية القاسية التي عاشها الجنود من أجل التأكيد علي فكرة واحدة ان هؤلاء المتحاربين كانوا يقاتلون بأسلحة فاسدة، ولم نر قط أي إشارة إلي أن المقاتل المصري كان صائما في قيظ أغسطس، وهذه الأفلام جميعها تم إنتاجها بعد قيام ثورة يوليو أي عكس ما حاول فيلم الإيمان أن يرويه. ومثلما تحمست الأقلام لسنوات طويلة بالحديث عن الأسلحة الفاسدة في الواقع فان الكثيرين كتبوا أن الأمر كان مبالغا فيه، وانه كان تبريرا لحدوث الهزيمة الأولي والكبري علي أيدي القوات الإسرائيلية وهو أمر تكرر في حياتنا فيما بعد.
الأسلحة الفاسدة
علينا أن نري أحداث فيلم «أرض الأبطال» لنيازي مصطفي المعروض في 27 إبريل عام 1953 بشكل مختلف وهو أول فيلم فيه إشارة عن قضية الأسلحة الفاسدة.. والغريب اننا رغم وجودنا أمام فيلم يدور في منطقة حارة للغاية وأن الجنود المشاركين صائمون فان السيناريو الذي كتبه نيازي مصطفي لم تكن به إشارة قط إلي المناخ والوقت اللذين تدور فيهما الأحداث.
يعني هذا أنه تم إسقاط شهر رمضان تماما من هذا العدد من الأفلام عن القضية الفلسطينية ابتداء من فيلم «فتاة من فلسطين» الذي عرض في أول نوفمبر 1948 وهو فيلم حربي غنائي وطني تحمست لإنتاجه عائلة محمود ذوالفقار فإلي جانب الإخراج والإنتاج والتوزيع والتمثيل فان عزيزة أمير «زوجة المخرج» هي التي كتبت القصة والسيناريو ولم تشارك في التمثيل بل اسندت دور الفتاة الفلسطينية إلي المطربة اللبنانية سعاد محمد.
ضمناً إذا رأينا الفيلم مجددا وهو الفيلم الذي تم ترميمه منذ سنوات قليلة لعرضه في افتتاح مهرجان الأفلام الروائية ولا نعرف أين هو الآن فاننا يجب ان نغلف الرؤية بالمعلومات التي توصلنا إليها، فالشاب المصري الطياري عادل كان صائما حين سقطت طائرته في قرية فلسطينية وتعثر عليه الفتاة الفلسطينية سلمي مصابا في قدمه فتستضيفه ضمن مجموعة من الفدائيين المصريين الصائمين الذين يفضلون الموت علي الاحتلال الصهيوني وتحول سلمي منزلها إلي مخزن للأسلحة ووسط هذه الأجواء الحارة تتوالي أيام وليالي رمضان، وتتعرض القرية للتفتيش في وقت تتنامي فيه قصة الحب التي تتوج بعرس فلسطيني شعبي، ويعود الطيار المصري لاستكمال رسالته في الدفاع عن فلسطين.
تم إنتاج الفيلم إبان المعارك العربية الإسرائيلية في صيف 1948 البالغ الحرارة وأثناء حلول شهر رمضان علي الأمة الإسلامية وقد اكتست هذه الأفلام بأجواء الهزيمة الكئيبة وليست هناك إشارة إلي قسوة الحرب أو الجو في فيلم «فتاة من فلسطين» ولا إلي علاقة الناس بشهر رمضان أما الفيلم التالي لهذا التاريخ فهو «نادية» الذي عرض بعد أشهر قليلة من عرض «فتاة من فلسطين» عرض في 7 فبراير عام 1949، ألف قصته وكتب له الحوار يوسف جوهر الذي كتب الحوار للفيلم السابق ومن الواضح ان عائلة محمود ذو الفقار تكرر تبنيها السينمائي لقضية فلسطين، لكن موضوعنا ان أحداث الفيلم تدور أيضا إبان شهر رمضان للعام الهجري 1371 حول فتاة تهب حياتها لتربية أخويها فيتخرج أخوها في الكلية الحربية كضابط طيار ويموت شهيدا في رمضان في العام المذكور، وذلك دون أي إشارة من الفيلم إلي أننا في شهر رمضان والجدير بالذكر أن حرب فلسطين حسب هذا الفيلم ليست قصيرة المدة مثل حرب أكتوبر فقد بدأت المواجهة فور إعلان إسرائيل كدولة واستمرت المعارك لعدة أسابيع.
تجاهل المناسبة
وأغرب ما في هذه التواريخ والحروب ان حرب فلسطين 1948 قد عولجت في الكثير من الأفلام، لكن كل الكتاب لم يقوموا بالإشارة إلي أننا في شهر رمضان بالمرة مما يعني ان السينمائي المصري قد تجاهل المناسبة الدينية من ناحية وأيضا حلول هذه المناسبة مع ارتفاع درجة الحرارة أي أن المحاربين العرب خاصة المصريين كانوا يواجهون ظروفا إنسانية صعبة الصيام، الصحراء، الأسلحة الفاسدة، وعدم التدريب وقد انتهي كل هذا بنكبة لايزال العرب يدفعون نتائجها حتي الآن.
لذا يجب مشاهدة هذه الكم من الأفلام برؤية مختلفة باعتبارها أعمالاً ناقصة ذات قصدية محددة ومن هذه الأفلام «أرض الأبطال» لنيازي مصطفي السابق الإشارة إليه الذي اهتم بموضوع الأسلحة الفاسدة وأغلب أحداث هذا الفيلم تدور في صيف 1948، فهناك شاب يتطوع في الجيش المصري، ويسافر إلي مدينة غزة وهناك يقع في غرام فتاة فلسطينية يتحابان ويتفقان علي الزواج، وليست هناك إشارة إلي أن الأحداث أو بعضها تمر بشهر رمضان من عام 1371، لكن الضابط يصاب في الحرب إصابة تكون سببا في أن يفقد البصر ويعرف أن أباه هو من قام بتوريد الأسلحة الفاسدة وتدور مواجهة بين الأب وابنه وتنتهي الأحداث بانتحار الأب. نيازي مصطفي كاتب الفيلم ومخرجه كان يعرف جيدا مثلما كان أحمد بدرخان يعرف أن الجنود المصريين في صيف 1948 حاربوا وهم صائمون في شهر رمضان وهذا هو الفارق بين مخرج وآخر، بل هو الفارق بين المخرج نفسه بين عهد وآخر حيث ان الضباط الأحرار الذين شاركوا في حرب 1948 في فيلم «الله معنا» لبدرخان أيضا لم تكن هناك إشارة فيما بينهم إلي أنهم صائمون أثناء حرب الأسلحة الفاسدة وبدا بدرخان كأنه ينقلب علي نفسه فالحدث الرئيسي في فيلم «الإيمان» كما أشرنا أن المصريين كانوا صائمين في هذه الحرب، أما عندما تم تسييس الحدث فقد تم التركيز علي موضوع السلاح الفاسد أكثر من القدوم علي الحرب بقلوب مؤمنة، ومسلمون صائمون يدفعون أرواحهم للشهادة في الحرب.
وتكرر الأمر نفسه في أفلام أخري علي مدي أكثر من ستين عاما، منها «رد قلبي» الذي رأينا في أحداثه الضباط الأحرار أيضا يقاتلون الصهاينة في الصيف القائظ لهذا العام وتجدد الأمر في فيلم دارت أحداثه بأكملها في هذا الصيف الساخن دون أي إشارة إلي أن ما نراه من أحداث تدور برجال ونساء يعيشون في شهر رمضان 1371 وهذا الفيلم هو «طريق الأبطال» إخراج محمود إسماعيل 1961 وهو فيلم مختلف في صياغته في مسيرة المخرج الذي افترض أغرب افتراض في الحروب العربية الإسرائيلية، حيث ان النصر في رأيه كان مكتوبا للقوات العربية المتحاربة، حين تأهب الضابط الكاتب لرفع راية النصر وسط القوات المنتصرة إلا أن جنديا صهيونيا مصابا قام بإطلاق النيران نحو الضابط المصري، فصرعه هكذا كتب النصر للصهاينة وهي معالجة ساذجة والغريب أيضا أن السيناريو الذي كتبه المخرج عن هذه الحرب لم يشر إلي أن هذه الحرب دارت بين طرفين، أحدهما دفع بجنود صائمين تدفعهم عقيدتهم وإيمانهم، أما الصهاينة فلم يأبهوا بمسألة ان تدور الأحداث في شهر الصوم.
ومن هذه الأفلام أيضا التي لم تأبه بالجو الحار ولا بشهر الصيام التي شهدتها السينما هناك «وداع في الفجر» لحسن الإمام 1956 و«من أحب» لماجدة 1965 ثم «الأقدار الدامية» لخيري بشارة، فهذا الفيلم مثلا لو أن مترجمه يعرف الأجواء الدينية والمناخية التي عاشها المصريون إبان صيف 1948 لتغيرت الأحداث كثيراً حيث إن هناك علاقة محرمة بين الأم حورية وبين الكابتن كمال وسرعان ما تعرف الابنة طبيعة العلاقة الممنوعة بين العشيقين، حيث إن «علية» تتحرش بكمال وتبلغ أخاها سعد بطبيعة العلاقة بين أمها وبين الكابتن كمال ويتمكن الاثنان من قتل العاشق، أي أنه دون ان يدري كاتب السيناريو علي محرز، ففي شهر الصوم في صيف 1948 تحت خيانة زوجية وارتكب اثنان من الإخوة جريمة قتل وكانت النتيجة ان الأم الخائنة ماتت منتحرة.
العاشر من رمضان
هذه هي المجموعة الأولي التي دارت أحداثها في حرب 1948 في فترة الصوم، أما المجموعة الثانية فإننا نطلق عليها مسمي «أفلام العاشر من رمضان» حيث انها معروفة في مكان زمني آخر بأفلام حرب أكتوبر حيث كان ذكاء أنور السادات كما أشرنا هو تسمية الانتصار بتاريخين الأول ميلادي والثاني هجري وطوال أربعين عاما تقريبا من السنوات الهجرية كان الاحتفال السنوي ثقافيا ورسميا يخص شهر أكتوبر فقط وعليه فقد تم محو بعض مما يخص الثقافة الدينية لهذه الحرب، فكلنا يذكر جيدا ان الجنوب والضباط المصريين في ذلك اليوم كانوا صائمين حتي قبل العمليات وكاتب هذه السطور شاهد علي بعض ماكان يحدث في جبهة القتال بالبحر الأحمر مثلا حيث دخلت مجموعات من الجنوب عن الوحدة قبل الحرب بخمسة أيام في وحدة الإشارة التي كنت مجندا بها، وقد ظلت المنطقة العسكرية في حالة صيام طوال الشهر أو بالضبط طوال العمليات العسكرية.
وعليه فمن المهم ان نتعامل مع كل الأفلام التي تم انتاجها عن حرب أكتوبر باعتبارها أيضا عن حرب العاشر من رمضان وهذه الأفلام يجب أن تتم مشاهدتها بتوقيت جديد حيث ان الكثير منها قد ألغي أهم توقيت عند المصريين، كما أن زهو المصريين في هذه الحرب انهم قاموا بعبور قناة السويس وهم صائمون وان قوة الصيام قد منحتهم قوة النصر، والملاحظ أن بعض هذه الأفلام قد فاخرت بصيام المصريين، وانهم كانوا من خلال هذا الصيام يمتلكون قوة روحانية ملحوظة دفعت بهم إلي النصر حدث هذا في الأفلام التي بدأ عرضها بمناسبة مرور السنة الأولي علي انتصار أكتوبر، كان شهر رمضان لايزال في المنتصف في عام 1974 هذه الأفلام هي: «الرصاصة لا تزال في جيبي» لحسام الدين مصطفي و«الوفاء العظيم» لحلمي رفلة اللذين عرضا في السادس من أكتوبر 1974 أي في السادس عشر من رمضان في ذلك العام، وتم عرض فيلم «بدور» لنادر جلال في 14 أكتوبر 1974 و«أبناء الصمت» لمحمد راضي في 16 نوفمبر 1974، ويعني ذلك ان السينما احتفلت بالحرب بشكل مكثف في العهد الأول للحرب وباعتبار أن هناك حوالي أحد عشر يوما هي الفارق السنوي بين السنة الهجرية والسنة الميلادية، فان أجواء رمضان ظلت تخيم علي الاحتفاليات طوال عامين متتالين ففي الخامس من أكتوبر عام 1975 عرض فيلم «حتي آخر العمر» لأشرف فهمي مما يعني ان الاحتفالية بدت مكثفة في العيد الأول لحرب العاشر من رمضان، وقد بدا الأمر هنا مبهجا، يستحق الاحتفال به علي أكثر من وجهة هجري وميلادي طالما أنه مطهو بطعم العنصر، بعد ثلاث مواجهات سابقة مع إسرائيل كانت الهزيمة هي الطعم الأشد مرارة للجنود المصريين من ناحية، وبدأ كأن الجيش العربي يتذوق النصر الحقيقي بعيدا عن زعم حول أسلحة فاسدة، أو عدوان خاطف.
وبالنظر إلي الأفلام التي تم انتاجها عن حرب رمضان 1371، ثم عن حرب رمضان 1395 ه نكتشف أن الأولي أفلام سياسية في المقام الأول، أي أننا عرفنا بعض الدهاليز السياسية التي أثرت علي الحرب، من مواقف الملك أو الوزراء الذين ساندوا تجار الأسلحة، ثم حدوث الهزيمة.
أما الأفلام التي صورت عن العاشر من رمضان فأغلبها له طابع عسكري أكثر من طابع سياسي، وقد بدا القرار السياسي بعيدا عن الحدث الدرامي وعشنا في هذه الأفلام مع رجال الجيش الذين أدوا الواجب علي خير ما يكون، وعبروا من الهزيمة النفسية، والعسكرية إلي النصر الاجتماعي والسياسي والعسكري.
كما أن هناك ملحوظة مهمة للغاية، وهي أن بعض النصوص الأصلية التي أخذت عنها هذه الأفلام كانت مكتوبة في المقام الأول تعبيرا عن مرارة النكسة، وما أصاب الجيش والناس، عقب الهزيمة التي لحقت بالمصريين في سيناء، وفي المطارات المتناثرة فوق الأرض المصرية، مثل رواية قصيرة كتبها احسان عبدالقدوس بعنوان «الرصاصة لاتزال في جيبي»، نشرها أولاً في صحيفة أخبار اليوم، ثم صدرت في مجموعة بعنوان «لا أستطيع أن أفكر وأنا ارقص» عام 1973، أي قبل حرب العاشر من رمضان بعدة أشهر.
وعندما عبر المصريون قناة السويس، بدت الرواية القصيرة كأنها تكمل جزءا مهما ناقصا في القصة، لأنه من المهم أن تكتمل أحداث الهزيمة بانتصار اجتماعي وسياسي وعسكري، ونحن نتوقف عند هذه النقطة، لأنه في الفيلم هناك مشهدان بالغا الأهمية في حياة الجندي محمد عبدالكريم، المتعلم الشاب، الفلاح الذي شارك في الحربين معا، كان عليه أن يعود إلي قريته، في المرة الأولي مكتسيا بالهزيمة، وفي الثانية رافعا راية النصر، فبعد الهزيمة يركب القطار، ويتعرض لسخرية بعض ركاب القطار بشكل مباشر، ويوجهون له الاهانات ضد ما لحق به من عار، فلا يملك القدرة علي الرد، أما في المرة الثانية، فإن ركاب القطار نفسه يتبادلون معه التهاني والمشاعر النبيلة، فهو رمز لما تحقق للوطن من هزيمة في المرة الأولي، ثم ما حققه مع زملائه من انتصار في شهر رمضان وهم صيام جميعا.
ولاشك أن هذا يعكس ظاهرة اجتماعية كانت تحدث بشكل مكثف للجنود والضباط بين عامي1964 و1967 أي بين زمن النكسة، وزمن عرض الفيلم. الحرب المفاجئة وقد توقفنا عند الجانب السياسي في هذه الأفلام لسبب مهم، وبارز وهو أن اندلاع الحرب بشكل مفاجئ، وذلك بعد فترة انتظار طويلة وحرب استنزاف مرهقة، وقلق اجتماعي واحساس عام بالاحباط، وقد ولّد نوعا من الرضا السياسي علي المستوي الشعبي واكسب ذلك القيادة السياسية شعبية كبيرة، وإن كان ذلك لم يتضح سينمائيا علي الأقل في المجموعة الأولي من الأفلام التي عرضت في العيد الأول لحرب العاشر من رمضان.
ففي كل هذه الأفلام لم تكن هناك اشارة إلي صانع قرار الحرب أنور السادات، ولم تظهر له صورة في أي من هذه الأفلام، وفي مقال نشره مجدي فهمي عن «الرصاصة لا تزال في جيبي.. تحدث الناقد عن حالة الجيشين التي أحس بها الناس قائلا: وفي القلب كان جرح وفي الجرح كان عمق والجراح العميقة تتطلب وقتا أقل كي تشفي، وتحتاج عناية حتي لا تسري العلة في الجسد كله، فالتسمم قد يكون نتيجة جرح صغير أهمل والجرح الذي يحتوي علي صديد لا يندمل لابد من تنظيفه وتطهيره أولا. هذه جراح الأجساد وأصعب منها جراح النفس، مدتها قد لا تكون عمرا بأكمله، من آثارها قد تكون أبدية وإن لم ترها عين، واقسي منها جرح الأوطان، جرح الوطن ينزف من كل قلب ويؤلم كل فرد الوطن الجريح لا يصرخ، وانما الصراع يكون في حناجر الشعب، صراخ جماعي محموم حتي لو لم يكن مسموعا. «وجرح الوطن جريمة، طعنة غادرة استقرت في ظهرها عام 1967 قالوا إنها نكسة وقالوا إنها هزيمة معركة وليست خسارة حرب، وقالوا.. وقالوا. ولكن مصر كانت جريحة لا تهم التسمية وانما المهم هو ذلك النزيف الذي اصاب قلب مصر ووجدان مصر وكل مصر». هذا قليل من فيض عبَّر الناقد من خلاله بفرحته حول فيلم عن حرب العاشر من رمضان، الفيلم بطله الرئيسي من قرية في الدلتا المصرية، والقرية في الكثير من الأفلام المصرية ترمز إلي صورة مصغرة من الوطن، متدينة متحابة ويمكن أن يكون بها مواطن طاغية من طراز عباس.
المدمرة إيلات
أبطال فيلم «أبناء الصمت» أيضا هم من أهل القرية المصرية، والفيلم كتبه مجيد طوبيا، وتبدأ أحداثه في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1967، حين أغرق المصريون المدمرة الإسرائيلية إيلات، وتستمر الأحداث إلي أيام الاستنزاف وما بعدها حتي العاشر من رمضان، وتحطيم خط بارليف، حيث تقوم مجموعة من الجنود في تحركات مع قائدهم يعطي القائد بعضهم إجازات مؤقتة مع بداية شهر الصوم، منهم مجدي الجندي الذي يعود إلي القاهرة للقاء خطيبته نبيلة الصحفية صاحبة المبادئ، التي تواجه رئيس التحرير الانتهازي، الذي لا يحس معاناة الشعب تنتهي إجازة مجدي، كما يعود صابر الصعيدي من إجازته، ويعرف ماهر أن زوجته حامل، تبدو القاهرة كأنها انفصلت تماما عما يدور للجنود والضباط في الجبهة، عندما تقوم الحرب، ويتم العبور يدفع مجدي حياته، وتكتب نبيلة موضوعا عن الشهداء. وتدور أحداث الفيلم بأكمله في الثكنات العسكرية وملاجئ الجنود والضباط وكان عليه أن يخرج بعض الوقت من هذه الأقبية، أو أجواء القتال من أجل إضفاء حس إنساني لابطاله، ولعله الفيلم الأول الذي يدور في هذه الأماكن، بشكل أكثر كثافة عن بقية أفلام حرب العاشر من رمضان، وسوف يتكرر الأمر بالصورة المقاربة في فيلم «العمر لحظة» عام 1978 للمخرج نفسه محمد راضي.
إذن فجميع الأفلام التي تناولت هذه الحرب منذ بدايتها تدور بالتالي أثناء شهر رمضان علما أن حرب رمضان قد بدت كأنها استنفدت أهدافها، فالحرب نفسها قصيرة المدة الزمنية علي خلاف ما حدث مثلا في الحرب العالمية الثانية التي استغرقت ست سنوات من شعوب متعددة الهوية في أوروبا، وآسيا وافريقيا والولايات المتحدة الأمريكية وقد كانت الحرب مثلا حدثا رئيسيا في فيلم «كتيبة الاعدام» لعاطف الطيب 1989، لكن كان شهر رمضان قد انصرم، فالفيلم تدور أحداثه بعد حدوث الثغرة، ويجمع رجال المقاومة الذين رفضوا الهجرة بعيدا عن مدينة السويس.