لا يزال المخرج الشهير ألفريد هيتشكوك مثيرا للجدل الذي لم يتوقف منذ أصبح صانعا لأفلام الرعب التي اعتبرها الكثيرون تشكل نسيجا متحدا مع شخصيته كبشر في إطار مشروعه الفني كمبدع في عالم لم ، ولن يتوقف فيه الإبداع، ولن ينسحب منه المبدعون، حتى لو أصبح سارقا للقبلات كما حدث لمخرج الرعب قبل عقود من الزمان.
وإذا كان الرجل ومشروعه نسيجا واحدا، فإن الفصل بينهما يعد أمرا غير قابل ليكون لأية تطبيقات عملية، إذ علينا أن ندرك أن هيتشكوك الذي أصبح من أعظم صانعي الأفلام في تاريخ السينما لم يسع إلى أن يكون صانع افلام رعب، ولم يحلم يوما أن يكون مخرجا سينمائيا ، بل كان في قمة الرضا وهو يمارس عمله كاتبا للسيناريوهات قبل أن تدخل به الصدفة إلى عالم الإخراج السينمائي الذي أوصله إلى قمة المجد بين أقرانه في ذاك الزمان ومن التحقوا بصناعة السينما بعد ذلك بأعوام وأجيال.
ومن الإنصاف أن نقول أن هيتشكوك الذي احتل صدارة المشهد السينمائي كأول وأهم صانع لأفلام الرعب كانت تحركه دوافعه الإبداعية التي ضاعفت من قوتها وزخمها قدراته الإخراجية وابتكاراته الفنية التي مهدت لنشأة مدرسة جديدة في الإخراج والمونتاج والسيناريو استفادت منها كل الصناعات السينمائية في العالم كله.
وهنا ندخل إلى ساحة الإبداع في دروب رحلة هيتشكوك ، ذلك الإبداع الذي دفعه دفعا وبكل عزيمة وهمة إلى أن يكسر قيود الرقابة المفروضة على الإنتاج السينمائي في أمريكا كي يوصل لمشاهديه بعض المضامين الإنسانية التي كان البعض يرون أنه يفتقد مشاعرها بعد أن جرفه تيار الأفلام المرعبة وأخذته أمواج القتل والجريمة إلى غابات جفاف المشاعر وحدة الطباع .
فهل يمكن مثلا أن يصدق أحد أن اشهر وأطول قبلة في عالم السينما كانت فكرة هذا الرجل ومن صنعه وبكل مهارة وذكاء؟
لقد احتاج المبدع هيشكوك لاستخدام أسلوب المناورة وببراعة تامة لينفذ من صرامة الرقيب وبالتالي يحقق نصرا على الرقابة يتجاوز فيه تلك الثواني الثلاث المسموح بها لتصوير قبلة في ذلك العهد (1946) ليصل بها إلى ستين ضعفا ، أي ثلاث دقائق كاملة ، وهو مايمثل معجزة في عصر الصرامة الرقابية حينذاك.
وقد فعلها هيتشكوك في فيلم نوتوريوس (فضيحة) عقب عام واحد على نهاية الحرب العالمية الثانية وكأنه أراد بذلك يسخر بطريقته الفريدة من صناعة الموت التي شاعت في العالم ويصنع في المقابل قبلة يمكن اعتبارها حسب القوانين الرقابية في تلك المرحلة قبلة لا نهائية.
كان هيتشكوك يدرك أن قبلة تستغرق نحو 180 ثانية لا يمكنها أن تكون حقيقية وكاملة اذا لم تصنع سحرا في ذاتها، ولم يكن ذلك ليكتمل قبل أن يرسم لها جغرافية ، بدأت من الشرفة على ساحل البحر في ريو دي جانيرو، لقد ، أراد للجمهور أن لا يدع لأحد الممثلين أن يستحوذ على الآخر لنفسه، بل أراد ان يشعر الجمهور حرارة تلك القبلة.وكأنه كان يريد القول : أريد للمشاهد أن يشعر أنه يقبّل بيرجمان إذا كان رجلا، وللمرأة أن تقبّل جرانت( انجريد برجمان وكاري جرانت بطلا الفيلم).
ولكي تكتمل الشراكة جعل الممثلين والجمهور يشتركون في إثم مناورة صرامة الرقيب كلهم، ويفوزون عليه ستين مرّة بدءاً من الشرفة حيث أخذا يتلاثمان بنعومة دخولا إلى الصالون وهما يكادان أن يكونا متعانقين ومتعلقين ببعضهما، قبّلا بعضهما قبلات متقطعة، تهامسا، كان يبدو وكأنه يتنفّس الهواء الخارج من فمها وكانت تفعل المثل، أخذ سماعة الهاتف، تكلّم ثم تلاثما، ولم ينقطعا طوال الوقت عن خلق مناخ لقبلة لا نهائية، سحبها إلى الباب الخارجي للشقة، وسحبته إلى شفتيها، قبّلها وهو يهمّ بالخروج، قبّلته وهو يخرج ويغلق الباب خلفه.
ما الذي دفع هيتشكوك لتنفيذ هذه القبلة التي جعلته سارقا للقبلات على الشاشة الفضية؟ … إنها بالطبع روح المبدع الذي تفيض دائما بنزعة التمرد على القيود وعلى المعوقات ، والباحثة دائما عن كسر المألوف والخروج إلى فضاءات ترتفع فيها سقوف الحرية ، فلا تحجب النور ، ولا تحجز أشعة الشمس عن الدخول … ومن هنا يمكن فهم حلات الضجر الذي يقود للتمرد على ما تفرضه الرقابة من قيود … وما أكثر المبدعين الذين ساروا على نهج هيتشكوك ولا يزالون .. لتبقى للإبداع حرية بغير حدود.