وتتجدد الحكاية، سينما العندليب والسندريلا .. الحقيقة الغائبة

«سينماتوغراف» ـ انتصار دردير

فيلم واحد فقط جمع بين العندليب والسندريلا هو «البنات والصيف»..

لكن حكايات كثيرة ووقائع مثيرة ربطت بينهما، من إعجاب ثم حب وزواج سرى اعترفت به السندريلا، لكن جاءت وفاتها فى حادث غامض عام 2001 فى لندن قيد باعتباره حادث انتحار ليجمع بينهما من جديد، حيث جاءت نهاية كل منهما فى عاصمة الضباب ووافق يوم وفاتها «21 يونيو» ذكرى ميلاده.

عبد الحليم حافظ الذى ملأ الدنيا غناءاً وحباً وشجناً بحنجرته الذهبية، وبكته الملايين فى وداعه، والسندريلا سعاد حسنى التى لم يجد الزمان بمثلها موهبة وحضور طاغ والتى لايزال حادث رحيلها يشكل لغزاً كبيراً.

العندليب والسندريلا حكاية تتجدد كل وقت وهذه المرة من خلال كتاب جديد عن دار الشروق «العندليب والسندريلا .. الحقيقة الغائبة» للناقد والصحفى أشرف غريب الذى صدر مؤخراً لا يكتفى فيه بالبحث عن حقيقة علاقتهما بل يتناول أيضاً من خلاله مسيرة كل منهما السينمائية وكيف كان الجو مهيئاً تماماً لاستقبال موهبتهما وكيف كان للجمهور الكلمة الأخيرة فى علاقتهما.

فى خمسة فصول يتناول المؤلف رحلتهما من البداية إلى النهاية ففى الفصل الأول يتناول رحلة العندليب تحت عنوان هو والجماهير من معبود من؟، والفصل الثانى يتناول فيه بداية السندريلا منذ اكتشافها وحاجة السينما لنجمة بمواصفات خاصة تحت عنوان الجمهور والكاميرا والأضواء الثلاثة يحبونها، والفصل الثالث يتناول قصة لقائهما وقد اختار له عنوان نبتدى منين الحكاية، بينما يأتى الفصل الرابع تحت عنوان حكاية حب، أما الفصل الخامس فيتناول مشاهد نهاية قصة الحب وهو بعنوان الحب الذى كان، بينما جاء الفصل السادس والأخير تحت عنوان لعبة الحب والزواج، وفى النهاية يقدم الناقد أشرف غريب فيلموجرافيا لأفلام العندليب والسندريلا وألبوم صور لكل منهما، يكشف الكتاب من خلال شهود عاصروا قصة زواجهما السرى وكيف كان الجمهور ثالثهما، فالنجاح الذى حققه كل منهما وحب الجمهور وتعلقه بهما كان أقوى من حبهما فى النهاية.

الناقد والصحفى أشرف غريب مؤلف الكتاب

يقول المؤلف فى مقدمة كتابه : حينما يكون نجاح الفنان من ذلك النوع الاستثنائى،  ونجوميته من تلك الحالات المتفجرة يصبح الجمهور طرفاً فاعلاً فى معادلة حفاظه على هذه المكانة الخاصة بصورة ربما تكون ضاغطة عليه فى معظم الأحيان، أو على أقل تقدير محركة له،  ففى اللحظة التى يدرك فيها الفنان أن نجاحه الاستثنائى هذا هو صنيعة جمهور لا يقبل منه إلا ما يحبه ويرضاه، يصبح أسيراً فى دائرة هذا الجمهور مهما اتسعت، وعبداً لرغباته مهما بدا الأمر على أنه هو معبود هذه الجماهير.

 وليس هناك من شك فى أن نجاح أى من عبد الحليم حافظ وسعاد حسنى هو من ذلك النوع الاستثنائى الذى ربما لم يعرفه غيرهما على هذا النحو فى تاريخ الفن العربى، ونجوميتهما من تلك الحالات المتفجرة التى جعلتهما من بين الخمسة الكبار فى مسيرة السينما العربية الذين يمكن تسميتهم بـ (نجوم الشباك) وفق المصطلح الهوليوودى المعروف،  فباستثناء عثرة البدايات الأولى لعبد الحليم حافظ كمطرب فإن الجمهور قد أحاطه بكل أمارات الحب والإعجاب منذ ولوجه السينمائى الأول سنة 1955 بطلاً لفيلمى “لحن الوفاء” و”أيامنا الحلوة” بينما منح الجمهور سعاد حسنى صك التفرد والشهرة فور إطلالتها السينمائية الأولى عام 1959 بطلة لفيلم “حسن ونعيمة” ومن ثم كانت اللحظة التى دانت لهما فيها دولة النجومية – كل على حدة – وتذوق خلالها الاثنان حلاوة النجاح والشهرة هى ذاتها اللحظة التى سلم فيها كل منهما مقاليد حياته الفنية بل والشخصية إلى هذا الجمهور صانع تلك المكانة المتفردة.

 ولعله من مدهشات القدر وعجائبه أن تجمع بين النجمين قصة حب قوية يمكن وصف تفاصيلها بالإثارة والغموض، فلا أحد تقريباً يعرف الآن على وجه اليقين ملابسات بداياتها وكيف صارت، ومن هم شهودها الفعليون لا المدعون .. الشىء الوحيد الذى ندركه جميعا أنها انتهت بالفشل من دون أن نعرف المتسبب المباشر فى عدم وضع النهاية السعيدة لتلك القصة خاصة فى ظل التسريبات التى سعى من خلالها كل طرف إلى تحميل الآخر مسئولية هذه النهاية غير الشاعرية، لكننى استطيع القول بعد كل ما توفر لدى من معلومات ووثائق أن العندليب والسندريللا لم يتمكنا من الوصول إلى النهاية السعيدة فى قصة حبهما لأن الجمهور كان ثالثهما.. نعم دخل الجمهور قبلهما مخدعهما وتلصصت عيونه وآذانه على دقائق مشاعرهما،  فبات رقيباً دائماً على تصرفاتهما،  ومسيطراً فعلياً على عقليهما،  ومسئولاً خفياً عن كل قراراتهما المصيرية فى هذا الملف الشائك – أو فى غيره – بحيث يمكن القول دون أى تجن أو مبالغة  بأنه هو من أفسد عليهما حبهما الكبير.

  وهذا الكتاب “العندليب والسيندريلا.. الحقيقة الغائبة” يبحث أولا فى جذور العلاقة بين كل منهما – على حدة – وبين الجمهور تأثيراً وتأثراً، سلباً وإيجاباً، صعوداً وهبوطاً،  ثم كيف كان ذلك الجمهور ثالثهما فى علاقتهما الخاصة تلامساً وتقاطعاً، تنافراً وتجاذباً، تفاهماً وتناقضاً، وما هى ظروف وملابسات هذه العلاقة منذ بدايتها وحتى رحيل طرفيها، الأول فى العاصمة البريطانية لندن فى الثلاثين من مارس عام 1977 , والثانية – ويا للدهشة – فى لندن أيضاً عام 2001، بل والأكثر دهشة أن رحيلها المأساوى كان فى ذكرى ميلاد العندليب (الحادى والعشرون من يونيو) ثم حقيقة زواجهما سواء كان رسمياً أو عرفياً، والرد على كل ما أثير فى هذا الصدد، وكيف أصبحت سعاد حسنى ميداناً للحرب بين عبد الحليم حافظ وصلاح نصر رجل المخابرات القوى فى زمن الرئيس عبد الناصر؟، ومن ثم الكشف عن معلومات جديدة تزيل كثيراً من اللبس الذى أحاط بهذه القصة مع الاستدلال بشهادات كل أبطال المشهد أحياءً وأمواتاً وصولاً إلى الحقيقة الغائبة فى هذه العلاقة المثيرة التى لم تتوقف الألسن عن الخوض فيها حتى اليوم. هذا الملف حتى وإن بدا شخصياً فى ظاهره، فهو يعكس فى واقع الحال طبيعة الحياة العامة فى مصر خلال فترة الستينيات تحديداً، وكيف تداخلت السياسة مع الفن، وتعارضت المصالح مع المشاعر، فأصبح للحب حسابات أخرى تتحكم فى مصيره على النحو الذى حدث مع عبد الحليم حافظ وسعاد حسنى .

العندليب والجمهور من معبود من؟

يؤكد الناقد أشرف غريب فى كتابه أن السينما لم تكن حلماً من أحلام عبد الحليم حافظ بل أن كبار المنتجين والمخرجين كانوا لايرون أنه يصلح كممثل سينمائي.

يقول المؤلف: ربما لم تكن السينما حلماً من أحلام الفتى الأسمر عبدالحليم على إسماعيل شبانة فى سنوات ما قبل الشهرة.. كان يحلم بأن يتخرج فى معهد الموسيقى ويصبح مدرساً براتب يضمن له حياة كريمة عوضاً عن سنين الشقاء والعذاب، ربما.. كان يتمنى أن يكون عازف أبوا ضمن أكبر الفرق الموسيقية وأكثرها استقراراً، يجوز.. كان يهوى الغناء، ويتوق شوقاً إلى تحقيق ذاته فى زمن عزت فيه الفرص،  مؤكد.. لكن الشئ الذى لم يراوده أو يدر بباله أن يصبح ذات يوم ممثلاً سينمائياً له حضوره الطاغى على الشاشة الفضية الساحرة.

على الشاشة صوتاً فقط

ومن منطلق هذا كله لم يسع حليم إلى العمل بالسينما، فلم يطرق أبواب أى من المنتجين، ولم يبحث عن فرصة ولو بالصدفة مثلما حدث معه فى عالم الغناء، بل إن إرهاصاته الأولى فى عالم السينما كانت من باب الغناء حينما ظهر صوته فقط فى الفيلم المدبلج “علاء الدين والمصباح السحرى” الذى قام بدبلجته المخرج أحمد كامل مرسى سنة 1951، وهو من إخراج ألفريد ريم، وأيضاً فى فيلم “بعد الوداع” من بطولة فاتن حمامة وعماد حمدى وإخراج أحمد ضياء الدين سنة 1953، كذلك غنى فى العام نفسه فى فيلم “بائعة الخبز” بطولة أمينة رزق وزكى رستم وإخراج حسن الإمام، ثم فى فيلم “فجر” سنة 1955 من بطولة ماجدة وجمال فارس ومن إخراج عاطف سالم، فهل كان عبدالحليم بهذه الخطوة يتحسس طريقه نحو هذا العالم الغريب، أو يتسلل رويداً رويداً إلى شاشة السينما التى ستصبح لاحقاً بساط الريح الذى حلق به العندليب فى سماء النجومية والشهرة والحظوة الجماهيرية، أم أن السينمائيين أنفسهم هم الذين كانوا يختبرون مدى ملائمة هذا الشاب الوافد من عالم الغناء للدخول إلى ذلك الفضاء الرحب اللامحدود؟، ويذكر عبد الحليم نفسه فى مذكراته التى نشرتها مجلة الكواكب سنة 1957 أن المنتجة المعروفة مارى كوينى استمعت إليه وهو يغنى سنة 1953 فقالت : “يغنى نعم، إنما يمثل لا.. ما هذا الجسد النحيل الذى يمكن أن يقبله الجمهور؟ إنه لا يصلح إطلاقا للسينما”.

لحن الوفاء

  الشئ المؤكد إذن أن السينمائيين أنفسهم لم يكونوا متحمسين لظهور عبدالحليم على الشاشة بدليل أنه احتاج أكثر من ثلاث سنوات قضاها فقط فى عالم الغناء قبل أن يطالع الجمهور صورته كبطل لفيلميه الأولين “لحن الوفاء” من إخراج إبراهيم عمارة و “أيامنا الحلوة” من إخراج حلمى حليم فى مارس 1955، بل إن مخرجاً كبيراً مثل عاطف سالم نقل عنه أثناء تجهيز فيلم “فجر” أنه قال أيضا إن حليم لا يصلح للسينما حينما أثيرت مناقشة حول فكرة ظهور حليم – صوتا وصورة- فى أغنية الفيلم مكتفياً بالاستفادة بصوته فقط تماماً مثلما كان رأيه بعد ذلك فى المطربة فايزة أحمد حينما طلب منه الموسيقار محمد عبدالوهاب الحكم عليها سينمائياً.. فلماذا إذن توجس السينمائيون من الدفع بعبدالحليم إلى شاشتهم، أو على الأقل ترددوا فى ذلك لمدة ثلاث سنوات كاملة؟

فى السنوات الثلاث الأولى (1952 – 1954) التى شهدت صعود عبدالحليم كمطرب رغم كل العقبات التى واجهته قدمت السينما المصرية 189 فيلماً بمتوسط 63 فيلماً فى العام، وهى من أغزر سنوات الإنتاج فى تاريخ السينما المصرية، بفضل آثار الحرب الكورية التى أدت إلى رواج تجارة القطن فى مصر، ومن ثم ضخ أموال إضافية فى سوق العمل السينمائى، وكان ثلثا هذه الأفلام إما كوميدية مباشرة أو غنائية خالصة أو تجمع بين الاثنين معا فى قالب الكوميديا الموسيقية الذى شكل تياراً كاسحاً ليس فقط فى السينما المصرية، وإنما أيضاً على مستوى السينما العالمية وتكفى الاشارة إلى أن ممثلة مثل زينات صدقى شاركت عام 1954 وحده فى أربعة وعشرين فيلماً، وفى العام نفسه قدم إسماعيل ياسين ثمانية عشر فيلماً فى إشارة واضحة إلى سيطرة نجوم الكوميديا على خريطة العمل السينمائى، وحتى الفيلم الغنائى والاستعراضى الذى قاسم الفيلم الكوميدى سطوته كان السينمائيون يفضلون له البطولة النسائية، وهذا يفسر لماذا قامت شادية – مثلاً- ببطولة خمسة وثلاثين فيلماً فى السنوات الثلاث المذكورة.

بقيت الميلودراما إذن التى استأثرت بالجانب المتبقى من إنتاج السينما المصرية فى هذه السنوات الثلاث، وهنا أستطيع أن أؤكد أنه حتى ظهور عبدالحليم على الشاشة لم تكن السينما المصرية تقبل أو تستسيغ أن يكون بطل الميلودراما رجلاً وإلا فماذا تفعل فاتن حمامة ومريم فخر الدين وشادية وماجدة؟، كانت البطولة فيها لفتاة بائسة ظلمها القدر واستعصت عليها الأيام على طريقة فاتن حمامة ومريم فخر الدين وماجدة، أما البطل الرجل فكان دائماً المنقذ أو المخلص لتلك الفتاة من مآسيها ومصادفاتها القدرية، ومن ثم لم تستطع السينما المصرية تقبل أن يتبادل الطرفان دوريهما، ويصبح البطل الرجل فى الموقف الأضعف حتى يستدر عطف الجمهور، لذلك كانت السينما المصرية بحاجة إلى بعض الوقت كى تعيد تأهيل خيالها لتقبل أن يكون البطل الميلودرامى رجلاً، أما السينما الرومانسية التى كانت الأقرب إلى طبيعة عبدالحليم وتكوينه الجسدي، فلم تكن هى الأخرى قد حققت بعد نضجها الفنى على يد المخرج عز الدين ذوالفقار تحديداً بداية بفيلم “إنى راحلة” سنة 1955 عام ظهور عبدالحليم على الشاشة.

البنات والصيف

  كذلك لم تكن السينما المصرية بحاجة فقط إلى بعض الوقت كى تعيد تأهيل خيالها لتقبل فكرة أن يكون البطل الميلودرامى رجلاً، أو كى تنضج التجربة الرومانسية عند عز الدين ذو الفقار ومعه هنرى بركات وحلمى حليم، بل كانت أيضاً بحاجة إلى مزيد من الوقت كى تؤتى التغيرات التى أحدثتها ثورة الثالث والعشرين من يوليو ثمارها، وتجد الشريحة المتعلمة من أبناء الطبقة المتوسطة مكاناً لها فى المجتمع،   ومن ثم على شاشة السينما حتى إذا ظهر طلبة الجامعة الثلاثة عمر الشريف وأحمد رمزى وعبدالحليم حافظ فى فيلم “أيامنا الحلوة” لحلمى حليم سنة 1955 لم يشعر الجمهور بأى غربة تجاه هذه الشخصيات الثلاث، ومن هنا عاد حليم ورمزى وكرراها بعد ذلك فى “أيام وليالي” سنة 1955 أيضاً من إخراج هنرى بركات، و “الوسادة الخالية” بمشاركة عبد المنعم إبراهيم سنة 1957 من إخراج صلاح أبو سيف، ثم أعادها حليم مع حسن يوسف فى “الخطايا” لحسن الإمام سنة 1962، وكذلك شلة الطلبة فى “أبى فوق الشجرة ” لحسين كمال سنة 1969، أيضاً اقتربت شخصيات عبدالحليم فى الأفلام الأخرى من شخصية الموظف أيا كانت تنويعاته، وهو ما لم يكن ممكناً على هذا النحو ما لم تكن التغيرات الاجتماعية التى أحدثتها ثورة يوليو قد فرضت وجودها، وفتحت المجال للدراما الأسرية على حساب الكوميديات الموسيقية الشعبية التى كانت سائدة على شاشة السينما منذ منتصف الأربعينيات وحتى منتصف الخمسينيات والتى لم تكن تناسب فى الواقع طبيعة عبدالحليم وتركيبته المزاجية حتى وإن بدا قريباً منها فى بدايات فيلم “شارع الحب” لعز الدين ذو الفقار سنة 1958 قبل أن يتحول سريعاً إلى شاب مكافح يبحث عن فرصة له فى عالم مشاهير الغناء.

  أعتقد أن عام 1955 (عام ظهور عبدالحليم حافظ فى السينما) أو مرحلة منتصف الخمسينيات بوجه عام كانت مرحلة انتقالية مهمة ساهم فى رسم ملامحها والتكريس لها وجود عبدالحليم نفسه، بل كان هذا العام -بالمصادفة ربما- أقرب إلى نقطة التسليم والتسلم فيما يتعلق بنجومية الشباك فى السينما المصرية، هذه النجومية التى تجعل صاحبها عنصر الجذب الأهم فى أى عمل سينمائى يشارك فيه دون النظر لأى عناصر أخرى مشاركة فى العمل، وهو ما ينطبق قبل عام 1955 على اسمين فقط حققا نجاحاً جماهيرياً لافتاً استحقا عليه لقب “نجم الشباك” وفق التعبير الهوليوودى، هذان الاسمان هما أنور وجدى وليلى مراد وتحديداً فى الفترة ما بين عامى 1945 و1955 عندما استطاعا أن يتجاوزا مطبات بداية الطريق ويستحوذا على حب الجماهير، لكن –وياللدهشة- جاء عام 1955 ليعلن نهاية هذين النجمين معا.. الأول بالرحيل المفاجئ وهو فى قمة العطاء، والأخرى بالتوقف عن التمثيل  الأكثر مفاجأة وهى فى ذروة الأضواء والشهرة، غير أن مرتبة نجومية الشباك لم تبق شاغرة بغياب أنور وليلى سنة 1955، فقد كانت السينما على موعد مع نجم شباك جديد هذه السنة، هذا النجم هو عبدالحليم حافظ الذى ظل محافظاً على هذه المكانة منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا رغم مرور أربعين عاماً على رحيله، فاسم عبد الحليم على أى فيلم كان كافياً وحده كى تندفع الجماهير نحو شباك التذاكر، كما أن أفلامه كانت تحقق أرقاماً قياسية فى أسابيع عرضها فى دور السينما، وفيلمه “أبى فوق الشجرة” الذى تم عرضه سنة 1969، هو صاحب المركز الثالث بين الأفلام المصرية الاأكثر بقاء فى دور العرض حيث استمر بسينما ديانا لمدة ثلاثة وثلاثين أسبوعا فى الفترة من 17/2/1969 وحتى 6/10/1969 حين ترك الفيلم مكانه لنجمة الشباك الأخرى التى أتت بعده سعاد حسنى وفيلمها “فتاة الاستعراض”.

أبى فوق الشجرة

غير أن “أبى فوق الشجرة” وإن كان الثالث من حيث عدد أسابيع بقائه فى دور العرض فهو الأول بل الوحيد الذى ظل الطلب الجماهيرى عليه على هذا النحو لمدة ثلاثين عاماً بعد انتهاء عرضه السينمائى الأول سنة 1969 محققا لجهته المنتجة (شركة صوت الفن) أرباحاً متجددة فاقت أى فيلم آخر فى تاريخ السينما المصرية، ولم يتوقف الطلب السينمائى عليه إلا بعد طرحه عبر أشرطة الفيديو وبيع حق عرضه لإحدى فضائيات الافلام.   

حياته فيلم سينمائى

يرى المؤلف أنه مما ضاعف من نجاح عبدالحليم سينمائياً اختياره الجيد لمضامين أفلامه، واللعب بذكاء على مشاعر الجماهير حتى أدرك هو وصانعو أفلامه أن فصولاً كثيرة من حياته تصلح مادة درامية لهذه الأفلام للدرجة التى دعت الأديب الكبير نجيب محفوظ للقول ذات مرة “إن حياة العندليب تحمل كل مقومات العمل الدرامى لبطل مأساوى بما تتضمنه من حيرة وقلق وألم بل إن حياته نفسها كانت بروفة دائمة ومتجددة للموت المنتظر”، ولم يكن نجيب محفوظ وحده صاحب هذا الرأى ، وإنما سبقه إليه الكاتب الراحل إحسان عبدالقدوس الذى اعترف فى مقدمة قصته “تائه بين السماء والأرض” التى كان من المفترض أن تكون آخر افلام عبدالحليم أنه استلهم من قصة حياة العندليب الراحل وأشار إلى أنه رغم محاولاته لإطلاق العنان لخياله فإنه بقدر ابتعاده عن الواقع اكتشف أنه شديد التأثر به.  

لعنة عبد الحليم

وأمام هذا الإلحاح الذكى فى الربط بين الدراما والواقع (الفيلم والعلم) لم يعد الجمهور قادراً أو حتى راغباً فى الفصل بين حياة عبدالحليم وبين ما يراه على الشاشة،  ووصل هذا الخلط الإرادى أو اللاإرادى من جانب الجماهير إلى ما يمكن أن نسميه “لعنة عبدالحليم حافظ ” فقد أخذ الجمهور موقفاً غير مرحب من كل الممثلين الذين أفسدوا سعادته فى أى فيلم يقوم ببطولته، وأذكر مثلاً أن الفنانة الراحلة زيزى البدراوى صرحت مراراً بأن مشوارها السينمائى كله قد تأثر بعد مشاركتها لعبدالحليم فى بطولة فيلم “البنات والصيف” لفطين عبدالوهاب عام 1960 لأنها لعبت فى الفيلم دور الفتاة التى تصد البطل فى حبه لها، وقالت إن الجمهور كرهها بالفعل وتساءل فى غضب من هى زيزى البدراوى هذه لكى ترفض حب عبدالحليم وتتسبب له فى كل هذا العذاب والألم؟، والشىء نفسه حدث للفنان يوسف شعبان الذى كان مارقاً كالسهم فى أفلام الستينيات فإذا بدوره فى “معبودة الجماهير” لحلمى رفله سنة 1967 يبطىء من هذه الانطلاقة وفق ما يؤكده الخط البيانى لمشواره الفنى لمجرد أن يوسف شعبان لعب دور غريم عبد الحليم فى حب شادية بطلة الفيلم، وهل ينسى أحدنا الصفعة الشهيرة التى تلقاها عبدالحليم من الفنان عماد حمدى فى فيلم “الخطايا”، وظلت لعناتها تطارده وهو ما عبر عنه عماد حمدى نفسه حين قال فى أحد حواراته سنة 1980:  “تخيلوا الناس مازالوا يسألوننى حتى اليوم : ليه ضربت عبدالحليم؟ حرام عليك ده ضعيف ومايستحملش قلم زى ده.. وتعبت من كثرة ما قلتلهم إن ده تمثيل وأننى أحب عبدالحليم مثلهم وأكثر وأننى لم اضربه هو، وإنما ضربت حسين ابنى فى الفيلم، ولكن ماذا اقول فى هذا العشق الغريب؟”

الخطايا

الأكثر من هذا أن فنانة مثل هند رستم نجحت فى الإفلات من هذه اللعنة حين اعتذرت للمخرج حسين كمال عن عدم القيام بدور “فردوس” الراقصة فى فيلم “أبى فوق الشجرة ”  وقالت له بالحرف الواحد: “أنا مش مجنونة علشان ألعب دور فيلين –شرير-أمام عبدالحليم، أنت عاوز الناس تكرهنى ولا إيه؟”

إلى هذا الحد كان التوحد بين عبدالحليم وجمهوره، وهو أحد أعراض نجومية الشباك الهوليوودية، وهو فى اعتقادى أيضاً احد أهم أسباب نجاحه هذا النجاح الراسخ والضارب بجذوره بقوة فى صميم الوجدان المصرى، والذى ضمن له تلك الاستمرارية اللافتة حتى بعد رحيله بكل هذه السنوات.

وبالفعل نجح العندليب بامتياز فى أن يستحوذ على حواس جمهوره وأحاسيسهم أيضاً بصورة لم يعرفها فنان غيره، فغنائياً كان موفقاً فى اللعب على وتر المشاعر بكل تنويعاتها إذ لم يترك حالة حب واحدة إلا وعبر عنها بأداء رصين وإحساس صادق أكسباه احترام الرجال وعشق النساء، كذلك كان ذكياً فى اختيار الكلمة التى لا تصدم آذان مستمعيه أو تستعصى على فهمهم، ومناقشاته الطويلة مع الشاعر نزار قبانى لتغيير بعض المفردات فى قصيدتيه “رسالة من تحت الماء” و “قارئة الفنجان” أبسط مثال على ذلك، ومن ثم لم يقدم طلاسم أو يتعال على جمهوره.. باختصار كان محترماً فى حبه وبسيطاً فى التعبير عنه، فشعر الناس بأن هذا الصوت هو لسان حالهم فى كل موقف يمرون به .

أما سينمائياً فكان حريصاً – كما هو واضح – على أن يكون فى معظم أفلامه البطل التراجيدى الذى يثير فى المتلقى عاطفتى الخوف والشفقة، وهو توجه فى غاية الذكاء جعله مثار اهتمام هذا المتلقى وكأنه أحد أفراد عائلته الصغيرة .

 ولأنه لم يكن مجرد فنان يلقى بأعماله إلى الجمهور، فقد تفنن فى توصيل أغنياته وأفلامه إلى الناس فى أبهى صورة وأكثرها إبهاراً بداية من الإعلان عن العمل الجديد، ثم متابعة التحضير له، واختيار توقيت ظهوره، وصولاً إلى ديكور المسرح الذى يقدم عليه أغنيته وحركته أثناء قيادة الأوركسترا فى “شو” مسرحى كان جديداً على جمهور نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، وكذلك اختياره لدار العرض التى تعرض فيلمه وأسلوب الدعاية أمامها، وعلى ذكر مظهره العام فقد كان حريصاً على لفت الانتباه من خلال استيراد أحدث صيحات الموضة ومجاراة آخر موجات الهوس الأوروبى، فلم يعرف المصريون – فى حينه – شعر الرأس الطويل والقمصان المزركشة وبنطلونات “الشارلستون” والإكسسوارات الضخمة إلا عن طريق عبد الحليم .. وهكذا بدا جلياً تحرك العندليب من استراتيجية راسخة مفادها عدم إفلات جمهوره من بين يديه أو عدم انصرافه عنه مهما كلفه ذلك من ضغوط، وما زال بعضنا يذكر إحدى حفلاته الأخيرة عندما حاول بعض الحاضرين استفزازه وإثارة غضبه بالصفير والتصفيق أثناء الغناء بينما كان هو ممتلكا لأعصابه إلى أقصى درجة رغم ما بدا عليه من ضيق حتى لا تهتز صورته، بل أنه لم يجد غضاضة فى أن يطلق هو الآخر “صفارة ” عالية استعاد بها هدوء الصالة، والأهم استعادة ولاء جمهوره له، لهذا كله كانت وفاته فى الثلاثين من مارس 1977 سببا فى صدمة الكثيرين وانتحار الكثيرات.

غلاف الكتاب
Exit mobile version