«وداعاً جوليا» صنع تاريخاً للسودان في «كان السينمائي 2023»، فهو أول فيلم سوداني يتم اختياره رسمياً (داخل مسابقة «نظرة ما» والتي تعرض فقط العمل الأول والثاني للمخرجين)، وفاز بجائزة «الحرية» ليكلل ما حققه من نجاح نقدي وجماهيري في المهرجان الأهم عالميًا.
يأتي هذا الفيلم ضمن أعمال سودانية مميزة شاركت خلال السنوات الأخيرة في مهرجانات كبرى وحصلت على جوائز، مثل «الحديث عن الأشجار» لصهيب قسم الباري في مهرجان برلين ونال جائزة أفضل فيلم وثائقي وجائزة الجمهور في قسم البانوراما، و«ستموت في العشرين» لأمجد أبو العلا في مهرجان فينيسيا والذي حاز جائزة أفضل عمل أول، لتحشد تلك الأفلام لمزيد من الدعم للسينما في السودان، وهي دولة مليئة بالقصص التي يجب إخبارها عن ماضيها وحاضرها.
«وداعاً جوليا» جعل القضايا السودانية تنبض بالحياة، ليتعرف عليها الجمهور من جميع أنحاء العالم، توازن خلاله مخرجه محمد كردفاني بأسلوب كلاسيكي سهل الوصول إليه واستيعابه، يدعو إلى النظر في الإنسان بعيداً أي تصنيف، حيث يرسم لوحة متشابكة العلاقات والمشاعر للسودانيين، ويكشف من خلال الصورة الأحاسيس التي أدت إلى انفصال الجنوب عن الشمال، ليصبح البلد بلدين والشعب شعبين، متبنياً دعوة للتصالح من خلال شخصيات مثيرة للاهتمام تثقلها المآزق المعقدة في الحياة.
يروي الفيلم الروائي الأول لمحمد كردفاني، (بعد فيلميه القصير نيركوك، والوثائقي جولة في جمهورية الحب)، المصائر المتشابكة لامرأتين سودانيتين، ومن خلالهما يقدم لنا ما يحدث في السودان من صراعات وانقسامات.
تدور أحداث «وداعًا جوليا» في الخرطوم عام 2005 قبيل انفصال الجنوب، حيث تتسبب «منى، الممثلة المسرحية والمغنية إيمان يوسف»، تلك المرأة الشمالية التي تعيش مع زوجها «أكرم، الممثل المخضرم نزار جمعة»، في اصطدام سيارتها بطفل عن طريق الخطأ، يتبعها أبوه «سانتينو» على دراجة نارية ويطلب منها التوقف، وعندما تصل إلى منزلها، ويراه زوجها فيظنه ينوي السوء بامرأته، فيحمل سلاحه الذي اشتراه للدفاع عن النفس من الجنوبيين، الذين يشير إليهم عرضاً بأنهم متوحشون، ويرديه قتيلاً، وبمساعدة آخرين يتم إخفاء جثته.
تشعر منى بالذنب وتقرر العثور على عائلة «سانتينو» للتكفير عما حدث، تبحث عن أرملته، «جوليا، تلعب دورها عارضة الأزياء الشهيرة وملكة جمال جنوب السودان السابقة سيران رياك»، وتقدم لها وظيفة كخادمة تعيش في المنزل، وتعرض منى أيضًا دفع رسوم لابن جوليا الذي نجا من الحادث، داني (الذي لعبه لويس دانيال دينج أولاً، ثم ستيفانوس جيمس بيتر) للذهاب إلى المدرسة، صحيح لا تستطيع منى الاعتراف لجوليا بالجريمة التي ارتُكبت، لكنها تساعدها فقط بما تملكه من مال، وعندما تبدأ أكاذيبها في التفكك، تتشاجر هي وزوجها أكرم بشكل أكثر حدة حول وجهات نظرهما المختلفة عن العنصرية والتمييز، وهو ما يعكس الأزمة السياسية الدائرة في البلاد شمالاً وجنوباً.
ورغم الود المتنامي بين منى وجوليا، يظل الفرق واضحاً بين الاثنتين، حيث يتعاملان بصداقة واضحة تجعل منى تأتمن جوليا على أسرارها، ومن بينها رغبتها في العودة للغناء الذي رزقت بموهبة كبيرة فيه، بعد رفض زوجها لعملها الفني، وفي الوقت نفسه لا تتوقف جوليا أبداً عن البحث عن «سانتينو» الذي اختفى.
تمر الأعوام، وتنقلنا الأحداث إلى عام 2010، قبيل الاستفتاء على انفصال السودان. نجد داني قد كبر ليصبح صبياً يساعد أكرم في مصنعه للمنتجات الخشبية إلى جانب الدراسة في المدرسة، وتواصل جوليا دراستها إلى جانب مساعدتها لمنى في المنزل. وتندمج جوليا مع المجتمع وتتعرف على الكثير من الجنوبيين الذين يفضلون الانفصال عن الشمال، وأن يكون لهم بلدهم الخاص في الجنوب، لكن جوليا ذاتها تفضل أن يبقى البلد واحداً يضم الشماليين والجنوبيين.
يوازن إخراج كردفاني بين أوضاع الفيلم الدرامية المتعددة، مع ظلال من الإثارة والشعور بالسياسة الخاصة به، وينتقل بهدوء وسلاسه من مشهد إلى آخر، حتى يصل إلى مواجهة جوليا لمنى وعلمها بحقيقة أنها هي التي صدمت ابنها بسيارتها وأن زوجها هو الذي قتل سانتينو.
تتشابك مشاهد «وداعاً جوليا» معًا من خلال الشبكة الدقيقة لمشاعر وأفعال منى المتناقضة، والتي تتأرجح بين الكذب وحسن النية، ويربط كردفاني المشاهدين بمنى من خلال الاستخدام السخي للصور المقربة، لتكشف عن عمق أسفها الشديد وعزمها على التكفير عما تسببت فيه، وتعاملت «إيمان يوسف» مع متطلبات مجموعة مشاعر شخصيتها المتناقضة داخل العمل بثقة واقتدار.
يحاول الفيلم مواجهة الانفصال والتمييز الذي يواجهه سكان جنوب السودان، ويتجول كردفاني لكسر تلك الواجهة المثالية قرب النهاية، والتي لا تُرسم بالشكل المتوقع، حيث لا يوجد مغفرة قسرية أو تجنب للغضب، لكن ما يحدث يجعلك تتمنى قضاء وقتًا أطول مع (جوليا وابنها داني)؛ ربما تكون لحظات الهدوء بين الأم والابن قد عززت الإحساس بهم كأفراد لديهم رغباتهم ودوافعهم الخاصة للعيش في الحياة.
هذه الأحداث، المستوحاة من نشأة كردفاني، تصارع العنصرية والتوترات العرقية، وما يعنيه بناء هوية سودانية وطنية في مواجهة كل ذلك، وفي مقابلاته ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي، أشار المخرج إلى طفولته – على وجه التحديد، نشأته مع أشخاص من المنطقة الجنوبية في السودان كعاملات منازل داخل منزله – كمصدر إلهام. ويتضح هذا في الطريقة التي يتعامل بها مع العلاقات المتغيرة بين منى وجوليا والطفل داني والزوج أكرم، والتي تزيد من الوهج الرومانسي والإنساني ضمن مشاهد الفيلم.
يحاول فيلم «وداعاً جوليا» توجيه أسئلة إنسانية مهمة عن التعصب والعنصرية والذنب والمغفرة والتسامح، وكيف يقفز الفرد فوق أنانية مصالحه الصغيرة ليهتم أكثر بمصير بلده ومن يعيشون معه على أرضه، خطاب ينكأ جراح وطن لا يزال يعاني، لكنه يحاول النهوض من حالة سبات سينمائي استمرت سنوات طويلة، وهو أحوج ما يكون لأفلام تطرح قضاياه وتناقش وضعه القائم وتحلم بمستقبله.