الوكالات ـ «سينماتوغراف»
في كلّ دورة تقريباً، يُسجل السينمائيون العرب حضورهم في مهرجان الفيلم في لوكارنو من خلال أعمال روائية أو وثائقية تحاكي قضايا فردية أو تتناول اهتمامات شعوبهم وأوضاع أوطانهم وتظهر أيضاً مقدراتهم الفنية والإبداعية. هذا العام حمل لواء هذه المشاركة شريط روائي لبناني بعنوان “يارا” للمخرج العراقي الفرنسي عباس فاضل، وهو الفيلم العربي الوحيد في المسابقة الدّوليّة لأهم تظاهرة سينمائية سويسرية.
عُرض فيلم “يارا” في إحدى أكبر صالات العرض التابعة لمهرجان لوكارنو حيث حظي بمتابعة جمهور عريض اكتظت به القاعة الفسيحة. وكان مُلفتا التحاق عدد لا بأس به من المشاهدين والصحفيين بالمخرج وبفريق عمله الصغير إلى الفضاء المجاور المخصّص لعقد جلسات الحوار لطرح بعض الأسئلة والاستفسارات عن خلفيّة الفيلم وعن بعض الأفكار الغامضة والمهمّة فيه وعن الممثّلين وكيفية اختيارهم وطريقة العمل معهم والتعامل مع خصوصيّة الموقع الذي جرى فيه التّصوير.
تألّف طاقم العمل في فيلم “يارا” بالأساس من أربعة أشخاص وهم عباس فاضل الذي لعب دور المخرج والمنتج والمصوّر السينمائيّ وكاتب السيناريو والمسؤول عن الصّوت والتّحرير، والفنّانة التّشكيليّة نور بلوق التي لعبت دور المنتجة المنفّذة، والممثلة ميشيل وهبه (يارا) والممثل إلياس فريفير (إلياس)، وهو الشّاب الذي يزور صدفة بيت يارا الجبليّ حيث تعيش مع جدّتها، لتبدأ قصّة الحب بينهما، التي تدور حولها أحداث هذا الفيلم.
مع ذلك، لم يقتصر طاقم التّمثيل في هذا العمل السّينمائي على ميشيل وإلياس بل شهد مشاركة بعض السّكان الأصليين لوادي قنوبين أو قاديشا في الشّمال اللبنانيّ حيث تمّ التّصوير، ممّا أضفى عليه نوعاً من الأصالة ولمسة فنّيّة خاصة ميّزته حسب رأي البعض عن الأفلام الأخرى المعروضة في إطار هذه المسابقة.
منذ زمن طويل، أراد المخرج العراقي عباس فاضل بكلّ بساطة تصوير فيلم يتحدّث عن فتاة تعيش في الرّيف. وفي البداية، سعى إلى القيام بذلك في فيلم “يارا” في إحدى القرى الرّيفيّة في فرنسا، ولكن سرعان ما تبيّن له أن أرياف البلد الذي يُقيم فيه منذ عشرات السنين إمّا مهجورة أو مسكونة من أناس جاؤوا من المدينة واستوطنوا فيها، ما حال دون إخراج فيلم يتطابق مع تصوّراته في فرنسا، لكن -ولحسن الحظ-اقترحت عليه صديقته نور بلوق، التي أصبحت فيما بعدُ المنتجة المنفّذة للفيلم، أن يقوم بتصويره في وادي قاديشا.
هكذا تمّ اختيار موقع التّصوير وهو ما ساعد على توفير إطار أوضح لحبكة الفيلم، الذي سيكون عملا مختلفاً عمّا قام فاضل بإخراجه منذ بداياته إلى اليوم من أفلام لاقت نجاحاً كبيراً في أنحاء متفرقة من العالم، وعالجت أوضاعا وقضايا ذات صلة بوطنه الأم العراق في أوقات الأزمات وفترات الحروب. ففي عمله الجديد، شكّل جمال ذلك الوادي اللبناني وطبيعته الخلّابة مع أصوات حيواناته الأليفة وتغاريد طيوره صباح مساء، العناصر الهامّة، من الفيلم عملاً فنّيّاً جميلاً يتناسب مع فكرة المخرج الأوّليّة ويتساوق مع الإبداع الفني للمنتجة المنفذة نور بلوق.
“يارا” من الأعمال الفنيّة التي تركّز على الجمال المتمثل بالمناظر الطبيعيّة في المناطق الجبليّة والألوان الهادئة والجذّابة وهمسات الليل وصدى الأصوات وجمال الحياة الرّيفيّة البسيطة. الجمال المتمثّل أيضاً في العاشقيْن يارا وإلياس وفي قصّة حبّهما وقبل كل شيء في الجّدة المُسنّة وحركاتها وتعابير وجهها وابتسامتها التي تشدّ المشاهد وتدفعه للتّساؤل عمّا يدور في ذهنها حقا: هل هي بالفعل موجودة في الحاضر معي وتقف أمامي؟ أم أنّها في عالم مُوازٍ يجمع بين الماضي والمستقبل ويترك لك الحاضر لتتخيّله؟
إلى جانب هذه التجلّيات الجمالية، يُعالج الفيلم بعض الحقائق المُرّة، مثل موت وهجرة معظم سكّان هذا الوادي وبقاء يارا وجدّتها وعائلة أخرى فيه فقط، وما يترتّب على ذلك من حزن يدعو المشاهد إلى التّفكير بشعور الوحدة والألم الناجم عن تحوّل مثل هذه الأماكن الرّائعة إلى خرابات ومواطن للأشباح والذّكريات والصور فقط.
إلّا أنّ الفيلم يُسارع إلى تبديد هذه الحيرة، حيث ينجح المخرج في تحقيق قدر من التوازن بين مشاعر الحزن والحب والأمل، متجنّبا استخدام أدوات الدراما والتراجيديا المُتعارف عليها في الحبكة السينمائية، مع الحرص على إضفاء قدر كبير من التّوازن والهدوء المُعبّر عن طبيعة الحياة الرّيفيّة الجبليّة، ما يعكس -حسبما يبدو -وجهة نظر متفائلة وبراغماتيّة تؤمن باستمرار الحياة قبل اللّقاء والحب، وبعد الفراق والحزن.
في كلّ مرّة يقوم بها بتصوير فيلم من أفلامه في البلدان العربيّة، يسعى عباس فاضل للبحث عن ممثّلين محليين من أجل ضمان أمانة نقل الوقائع في حال تعلّق الأمر بأشياء لا علاقة لها بإبداع أو اختراع فنيّ جديد أو بلوحة فنيّة يجب أن تحمل بحدّ ذاتها معنى يختلف أو يتناقض مع الواقع. فعند قيامه بالبحث عن ممثّلين للمشاركة في “يارا”، كانت مهمّته صعبة بعض الشّيء حيث كان عليه العثور على فنّانين يتقنون اللهجة المتداولة في موقع التّصوير، فقام باختبار أكثر من 150 ممثل وممثّلة إلى أن وقع اختياره على ميشيل التي تُجيد الحديث بهذه اللّهجة وكذلك إلياس.
لم يعمل المخرج العراقي -الفرنسي على كتابة سيناريو واعتماده من أجل إخراج شريطه الجديد، بل كان يكتب المشاهد الواحد تلو الآخر بشكل مباشر وبحسب تطوّر قصّة الفيلم خلال سير عملية التّصوير. وعلى الرّغم من المشاهد المكتوبة، اعتمد فاضل هذه المرة على الارتجال في التصوير وفي الحوارات على حد السواء، حيث منح الممثّلين حريّة كبيرة في التّصرّف وبدورهم “قاموا بعمل ممتاز”، كما قال فاضل في سياق إجابته على الأسئلة التي وُجّهت إليه من طرف الصحافيين والجمهور قبل وبعد العرض الأوّل في لوكارنو.
في هذا السّياق، أكدت كل الأطراف المشاركة في هذا الإنتاج الفنيّ على أجواء الصّداقة والمودّة التي عمّت مراحل وفترة تصوير الفيلم وعن راحة كلّ الأطراف بالعمل سويّاً وسعادة الجميع بالنّجاح الذي حققه الفيلم إلى الآن، فهم يرون فيه عملاً جماعيّاً لا يعود الفضل في نجاحه إلى جهود الممثّلين الحرفيّين والمخرج والمنتجة فحسب وإنّما إلى الدّور الكبير الذي لعبته الشّخصيّات الأخرى كالجدة، التي كانت بالفعل صاحبة وساكنة بيت يارا والتي بفضلها تسنّى إتمام العمل، إضافة إلى رجليْن وطفليْن من سكّان الوادي.
تبعا لذلك، لا يُمكن القول بأن المُنتج النّهائي كان عاديّاً بالمرة. فمن الناحية التقنية، غاب التقسيم التقليدي للأدوار، بل حصل مزجٌ بين التمثيل الحِرفيّ والتصرفات التلقائية والعاديّة لسكان المكان. ومن الناحية الفنية، شدّد المخرج على رفض المبالغة في مشاعر الحزن والألم وحرص على أن تكون مشاهد الفيلم متوازنة ومتناسبة مع هدوء الوادي، إلا أنه لم يُغفل إشكالية تركه من طرف سكانه سواء بسبب الموت أو نتيجة النزوح إلى المدن. وبالتّالي، يُمكن القول إن “يارا” يُركز على فكرة أساسيّة بالنّسبة لعباس فاضل ألا وهي “المحافظة من خلال هذا الفيلم والعمل الفنّيّ على الوادي وجماله قبل فوات الأوان”.