اسطنبول ـ «سينماتوغراف»: يوسف شيخو
ذات يوم كان ثمة فيلم للمخرج التركي عاطف يلماز يجب البدء في تصويره؛ وتخلف بطله عن الحضور في موعده الأول للتصوير، وهو ما أثار غضب يلماز في وقتها، حيث التفت إلى مساعده قائلاً: «سأؤدب هذا الممثل الذي يعتقد نفسه شيئاً.. ستقوم أنت بدور بالبطولة». اعتقد الجميع أنه يمزح. لكنه كان جاداً، وعهد إلى مساعده بدور البطولة. وكانت المفاجأة أن الجمهور أحب الفيلم، لتنهال على الممثل الشاب رسائل الاعجاب والعروض. كان يلماز غوني هو ذاك الشاب، المتخرج حديثاً من كلية الحقوق والاقتصاد، ولم يكن، في حينها، معروفاً كمناضل (كردي – يساري)، وهي الأمور التي فتحت له أبواب السجون لاحقاً، بالرغم من وصوله إلى قمة النجومية في بلاده، وذاع سيطه في عواصم السينما العالمية.
يعد غوني واحداً من بين أكثر الأسماء الأدبية والفنية ملاحقة واعتقالاً من قبل السلطات الرسمية، حيث أمضى في السجن حوالي 11 عاماً، خلال فترات متفرقة. لكن لم يمنعه ذلك من متابعة عمله، إن كان في الكتابة القصصية والروائية، أو في النشاط السينمائي. ولعب أكثر من مئة دور خلال أقل من عقدين، وحقق طوال مساره كمخرج نحو ٢٢ فيلماً، (أخرج ثلاثة منها وهو في السجن)، نال معها نحو 17 جائزة، من بينها السعفة الذهبية من مهرجان «كان» السينمائي عن فيلمه «الطريق» (YOL). كذلك نشر مئات القصص القصيرة وله أربع روايات، من بينها «الأعناق المنحنية» أو «ماتوا ورؤوسهم منحنية»، التي حازت على جائزة «أورهان كمال» في العام 1970، وهي أرفع جائزة أدبية في تركيا. كما نشرت له رواية «صالبا»، التي رشّحت لقائمة الفوز بجائزة «نوبل» للأدب.
وجد غوني الشاب نفسه مناضلاَ في صفوف «الجناح الأكثر تطرفاً في الحزب الشيوعي التركي». وفي حينها ازداد ارتباطه بالكاتب المعروف يشار كمال، وهو من غلاة المناضلين اليساريين. وهنا تفيد الاشارة إلى أن غوني لم يكن راضياً عن معظم الأفلام التي كان يمثل فيها، معتبراً اياها «تستلب الشعب أكثر وأكثر وتعطيه وعياً مزيفاً»، فيما كان يخوض نضالاً سياسياً عنيفاً في بلد يحظر فيه أي انتماء يساري، كما بدأت هويته الكردية تبرز إلى العلن، من دون أن يتمكن من التعبير عنها بشكل مباشر في أي من أدواره العديدة.
أصبح غوني خلال فترة قياسية واحداً من السينمائيين الأكثر حضوراً في السينما الأوروبية، وذلك بفضل أفلام تقول الحكاية إنه أدار إخراج الأفضل من بينها وهو في السجن، حيث كان مساعده زكي اوكتان أو صديقه شريف غوران، ينفذان الخطوات الإخراجية التي يرسمها هو لسيناريوات كتبها بنفسه وهو قابع في زنزانته. إذ كان اوكتان وغوران يعدان الممثلين ومواقع التصوير، وهو في الداخل يحدد الحركات والعلاقات والحوارات وموقع الكاميرا. وتكررت هذه التجربة مرات عدة. إذ أدار فيلمي «الأمل» و «القطيع» من السجن، كما أخرج فيلمه «الطريق» من سجن (توب تاشه)، بالتعاون مع شريف غوران. وكانت جميع أفلامه تحقق نجاحات في شباك التذاكر. في حين كتب رواية «ماتوا ورؤوسهم انحنى» عن الفلاحين الفقراء في جنوب تركيا، وهو في السجن. واللافت أن أصدقاء غوني كانوا يهربون أفلامه إلى خارج البلاد لتعرض في المهرجانات وتثير ضجة من حول مخرجها الذي تحول إلى “أسطورة حية”، وصار واحداً من السينمائيين المرموقين في العالم.
حين استدعي غوني إلى الخدمة العسكري في العام 1968، وخدم في «سرية الجزاء»، لم يمنح رتبة ضابط، بالرغم من حصوله على الشهادة الثانويّة التي كانت تخوّله لتلك الرتبة (اتم دراسة الثانوية في ثانوية البنين بولاية أضنة العام 1956). وذلك بسبب وجود أحكام بالسجن بحقه. ذاك السجن الذي سيساق إليه مرتين أخريين؛ ففي آذار العام 1972 سيسجن بتهمة «التحريض ومساعدة الفوضوييّن»، ويحكم بسجنه سبعة أعوام من الأشغال الشاقة. ولكن سيطلق سراحه في عام 1974 لصدور عفو عام. ولم يمض على إطلاق سراحه سوى مائة وعشرين يوماً، حتى سجن للمرة الثالثة في أيلول 1974، بعد تلفيق تهمة قتل قاضي يميني خلال عملية سطو مسلح، وحكم بالسجن لمدة تسعة عشر عاماً. ورغم أنّ القاتل الحقيقيّ اعترف بجريمته، مع «عشرات الشهود، إلا أنّ المحكمة أصرّت على تلفيق التهمة لغوني»، ويقال إن ذلك جرى «بضغوط من شخصيّات لها وزنها الماليّ والإعلاميّ والقومي في البلاد».
في عام 1981، هرب من السجن خلال «إجازة مراقبة»، ومن تركيا إلى اليونان، ثم استقر في فرنسا. وفي حينها، جردته الحكومة التركية من الجنسية، وحكمت عليه المحاكم التركية بأكثر من 22 سنة سجن بتهم سياسية. ويقول يلماز غوني إنه هرب من السجن بتسهيل من السلطات التي أرادت أن يفر من البلاد إلى المنفى، في فرنسا، حيث خطف سعفة «كان» عن «الطريق» في العام 1982، ومن ثم أنجز فيلمه الأخير «الجدار ـ Duvar» في العام 1983، الذي يتحدث عن واقع السجون التركية عبر خلاله عن المواقع المزري هناك عبر تصوير أعمال شغب جرت في أحد السجون.
توفي يلماز غوني في أيلول 1984، ودفن جثمانه في مقبرة «بير لاشيز» بباريس. ولعلّ من المفيد ايراد المقارنة التي يجريها البعض بين غوني، ومعاصره السينمائي والشاعر الايطالي بيير باولو بازوليني، من حيث أوجه التشابه في السيرة الذاتية. حيث ناضلا كناشطين يساريين في ظل سلطات عسكرية فاشية. كما عانا من ذاك الموقف الأيديولوجي العام ضدهما، غوني في اعتباره كرديا، وبازوليني في كونه مثلياً. اعتمد الفنانان أسلوب الواقعية الايطالية وركزا على الفئات المضطهدة والفقيرة في الأرياف. وتوفيا في سن مبكرة (غوني 47 عاماً – بازوليني 53 عاماً)، وهما في أوج الشهرة.
المراجع:
– ابراهيم العريس، السينما والتاريخ العالم، سلسلة الفن السابع، وزارة الثقافة السورية 2008.
– نيويورك تايمز، وفاة المخرج السينمائي التركي يلماز غوني، 1984.
– بينديتون دافيد، يلماز غوني: من «ملك قبيح» لشاعر يائس، أرشيف جامعة هارفرد.
– عارف حمزة، العرب اللندنية، «الكردي يلماز غوني..الفن وحده رسولا لقضايا الشعوب»، 2014.
– سليمان الشّيخ، القدس العربي، «يشار كمال.. عزيز نيسين.. يلماز غوني: الأدب التركي الحديث بين الرواية والمسرحية والسينما»، 2015.