رام الله ـ «سينماتوغراف»: يوسف الشايب
كان الحضور السينمائي الفرنسي في مهرجان أيام فلسطين السينمائية بدورتها الثامنة مُبهراً، عبر ثلاثية تتنوع في مواضيعها وطرائق تقديمها أطباقاً شهيّة للفكر وللحواس الخمس بما فيها اللمس على المستويين الجسدي والحسّي، حيث المهنية العالية التي تعكس تلك الحالة التراكمية لمخترعي السينما في العالم.
وعُرضت في المهرجان، الذي اختتم فعالياته في قصر رام الله الثقافي، مساء أمس، ثلاثة أفلام فرنسية، كان آخرها، قبل حفل الختام بيوم، تحت عنوان “في سلام” (Peaceful) للمخرجة إيمانويل بيركوت، وبطولة النجمة العالمية كاترين دينوف، والنجم بينوا ماغيمال، حول “ابن ينكر إصابته بمرض خطير، وأم تواجه ما لا يطاق، وبينهما طبيب وممرضة يحاولان جاهدين أن يقوما بعملهما، ويساعدا كلا منهما على تقبّل المرض كواقع.. أمامهم جميعاً سنة أو أربعة فصول للملمة أنفسهم واستيعاب معنى أن تكون ميتاً وأنت على قيد الحياة“.
أما الفيلم الذي سبق، وعرض كما سابقه في قصر رام الله الثقافي، وقبله بليلة، كان “انقسام” (The Divide) للمخرجة كاثرين كورسيني، ومن بطولة: فاليريا تيديشي، ومارينا فوا، وبيو مارماي، ويتمحور حول “راف وجوليا ودخولهما غرفة الطوارئ إثر إصابتهما بالاختناق خلال مشاركتهما في تظاهرات السترات الصفر بباريس، بحيث تلتقيان بيان في ذات الغرفة، وهو اللقاء الذي يغير كثيراً حدّ تحطيم ثوابتهما وتحيزاتهما في الحياة.. أما خارج غرفة الطوارئ، فتتسارع الأحداث ويرتفع منسوب التوتر، حتى تضطر إدارة المستشفى إلى إغلاق أبوابه، بينما يُجاهد العاملون للتعامل مع التطورات في ليلة طويلة للغاية“.
الفيلم الثالث حمل عنوان “الحرب الثالثة” (The Third War)، وهو إنتاج فرنسي للمخرج الإيطالي جيوفاني ألوي، وعرض في كل من القدس وبيت لحم، وهو عن سيناريو: دومينيك باومار، وبطولة: أنتوني باحون، وكريم ليكلو، وليلى يختي، وتدور أحداثه حول “ليو المُكلف بعملية مراقبة تتطلب منه التجول في شوارع باريس متيقظاً للمخاطر المحتملة.. خلال مهمته في تأمين حدود إحدى التظاهرات الكبيرة المناوئة للحكومة، فيجد نفسه وسط الجماهير الهائجة، وذلك في أعقاب أسابيع من التوتر والغضب في الشارع الباريسيّ، إثر هجمات “شارلي إبدو“.
في سلام
يجسد بينوا ماغيمال باقتدار قلّ نظيره، دور “بنجامين”، ذلك الممثل والمخرج المقتدر، وله من محبيه الطلاب الكثر، بحيث بات مدرسة للتمثيل بحد ذاته، قبل أن يتم تشخيص حالته المرضية بـ”سرطان البنكرياس” ما يُغضب والدته (كاترين دينوف)، مثيرة حفيظة الطبيب المختص “إدي” (غابرييل سارة، الذي يصر على رفضه تقديم أنصاف الحقائق لمرضاه، لكون ذلك قد لا يروق لأحبّتهم.
في هذه الأثناء، ومن أجل التعامل بطريقة تحايلية ما مع مرضه، فإن طريقة التنفيس التي يستخدمها بنيامين تجعله يطلب من طلابه تجسيد سيناريوهات عن الموت، تنتهي بـ”وداعاً”، وليس “إلى اللقاء”، وهي النتيجة الحتمية التي يدركها المشاهد منذ الوهلة الأولى لإعلامه بمرضه.
وهنا تكمن عبقرية النص والأداء كما الإخراج، فعلى الرغم من النهاية التي باتت حتمية، أو شبه حتمية، فإن الفيلم ينجح في تحويل تلك الحالة، وأعني الموت على قيد الحياة، إلى حالة جمعية، جعلتنا نخرج من القاعة بمشاعر صعبة حدّ الاكتئاب، لا تزال ترافقنا، وبدموع تركناها في القاعة.
ولم تغب ثيمة “الأبوّة”، وهي ثيمة طاغية في نسخة مهرجان أيام فلسطين السينمائية لهذا العام عن فيلم “في سلام”، كما حال فيلم “الأب” الصربيّ، و”لا مكان مميّز” الإيطالي.
وفي الفيلم الفرنسي، يظهر، وبشكل مفاجئ، ودون أن يمثل نتوءاً أو انحرافاً ما، ابن للموسيقيّ المريض، أميركي أسترالي كان رفض الاعتراف فيه، في تهشيم بدا متعمداً لصورة “البطل” الذي يواجه المرض، كما الأفكار المتحجرة، إلا أنه ينتصر لقلبه في نهاية المطاف، وكأنه يُقرّر موته، بعد حصوله على الصفح المرتقب من الابن ذي الثقافة والفكر المختلفين، ولكنه ينتصر هو الآخر لمشاعره، في فيلم قدّمت فيه إيمانويل بيركوت تحفة سينمائية بسيطة دون هشاشة، حول جدلية الحياة والموت.. الموت على قيد الحياة، والحياة في تخوم الموت.
انقسام
وفي فيلمها الأحدث “انقسام” نجحت ماثرين كورسيني، في تقديم فيلم ثقيل ومهم يمكن تصنيفه باعتباره “ابن فرنسا الحديثة”، يتطرق لتحول تلك التعددية الثقافية والعرقية والاجتماعية من ميزة إلى نقمة تثير التوترات، فالوطن على ما يبدو لم يعد للجميع، وإن كانت السماء واحدة كما جواز السفر وألوان العلم والنشيد الوطني.
وتدور أحداث فيلم “الانقسام” في ليلة واحدة داخل مستشفى باريسي يعاني من نقص في كادره الطبّي، بعد قيام شرطة “مكافحة الشغب” في التفريق العنيف لاحتجاجات أصحاب “السترات الصفراء” في جانب من المدينة، بينما يمارس المحرّضون من اليمين الفرنسي المتطرف حريتهم الكاملة في مسيرة في الجانب الآخر من المدينة.
بذكاء كبير يتحوّل المستشفى المتهالك إلى نموذج مصغّر من فرنسا، بحيث تحمل غرفة طوارئه تلك النزاعات الفكرية والثقافية والاجتماعية وحتى العرقية من الشارع إليها، في حين يلعب بعض أفراد الكادر الطبي أدوراً أصغر لكنها حيوية وأساسية، كما في فيلم “في سلام”، لإكمال الصورة رفقة الثلاثي “راف” و”جوليا” و”بيان“.
الحرب الثالثة
في يوم سبقته أيام خلت فيها باريس من أي تعبيرات تعزز كونها “مدينة الحب والجمال”، خرج الثلاثي “ليو”، الشاب الذي أنهى تدريبه العسكري حديثاً، وهشام الذي أدى الخدمة العسكرية في مالي، وكولين المسؤولة الأكثر صرامة، والتي تظهر في أجواء رجولية، وتبدو على أهبة الاستعداد دوماً، في حال ملاحظة ما من شأنه أن يعكر صفو ما يمكن وصفه بـ”النظام العام”، على فضفاضيّة المصطلح.
“الوساوس” هي من تجمعهم، وهذا مبرر، خاصة عند الاصطدام بشيء ما “مريب” كحقيبة مرمية في مترو الأنفاق، أو جهاز ينبض إضاءة في شاحنة على قارعة الطريق، أو حتى برجل يحمل هاتفاً محمولاً قديماً، في حين تنشر الدوريات وهذه الإجراءات حالة من عدم الارتياح لدى العامة.
يختفي “ليو” فجأة في المدينة الصاخبة، ويبدأ في مغامراته كما اكتشافاته أيضاً، لكنه ليس فيلم مغامرات، فبعيداً عن التفاصيل، يمكن القول إن المخرج الإيطالي نجح في الغوص عميقاً للتعبير عن غرابة الكون التي تستعصي علينا، وينجح في نقل حالة عدم الارتياح في الشارع الباريسيّ وحتى للثلاثة المكلفين بالمراقبة إلى المتلقي، فهو يقدّم فلسفة فكرية وبصرية مثيرة للدهشة، مدعماً بأداء متميز، وبسيناريو مكثف ومتين، وتصوير أمسك بالجغرافيات الخارجية والداخلية للحكايات كلها.
وكان لافتاً ذلك الانتصار للجانب الإنساني، ليس فقط فيما يتعلق بتلك الصداقة الحميمة ما بين الجنود الثلاثة رغم المخاطر المحدقة بهم، بل في تفاصيل رحلة اختفاء “ليو” في مشهد مُصفّر يبرز كعلامة فارقة في الفيلم الذي لا يتحدث عن “الإرهاب” بالمفهوم الأوروبي أو الغربي السائد، بقدر ما يتدحرج للحديث عن مجتمع يبدو وكأنه في حالة حرب دائمة، تستقطب ضحاياها باستمرار.