القاهرة ـ «سينماتوغراف»
يعيش المخرج السينمائي الفلسطيني رشيد مشهراوي بين رام الله وباريس وعندما اجتاح فيروس كورونا العالم في 2020 أصبح حبيس المدينة الأوروبية لعدة أشهر صنع خلالها فيلما وثائقيا يفيض بالإنسانية والذكريات الحزينة عن وطنه.
ينطلق (يوميات شارع جبريئيل) من بداية فرض حظر التجول في باريس حيث كان مشهراوي يستعد لتصوير فيلمه الروائي التالي لكن الظروف الجديدة أبقته رهين شقته وحيدا فلم يجد سوى كاميرا هاتفه المحمول التي استغلها في توثيق ورصد القلق والملل ثم التكيف مع الأمر الواقع.
وعلى مدى 62 دقيقة، يقدم مشهراوي للمشاهد شركاءه في العزل وهم جيرانه في الشارع الذين ينتمون إلى ثقافات ودول مختلفة، فهناك الجار الذي جاء من المغرب للبحث عن عمل، وجار آخر من اليونان يعيش مع صديقته الإسبانية، وجار آخر من رومانيا، وجميعهم تطورت شخصياتهم وتغيرت حياتهم خلال أشهر قليلة.
وبمرور الوقت، تنتقل أحداث الفيلم من حيز ضيق في باحة المنزل التي يلتقي فيها السكان يوميا إلى فضاء أرحب يمتد من الشارع إلى الحي إلى شوارع باريس لاحقا عندما تخفف السلطات قيود العزل.
لكن يبقى الشجن هو الشعور المهيمن على الفيلم والمتدفق عبر سرد ذاتي، فالعزل المنزلي وقيود التنقل استدعت من ذاكرة مشهراوي ذكريات حظر التجول في فلسطين حتى وإن كانت المقارنة ظالمة وفق ما وصفها في جملة ساخرة “حظر تجول باريس خمس نجوم مقارنة بحظر التجول في فلسطين“.
لاحقا، يبدأ تطبيق نظام للتجول بالشوارع والذي يستلزم تقديم طلب للسلطات المحلية مصحوبا بتوضيح سبب الخروج وهو أيضا ما يستدعي من ذاكرة مشهراوي معاناة أخرى للفلسطينيين مع تصاريح المرور عبر الحواجز الأمنية ونقاط التفتيش.
أما فرض استخدام الكمامات فربطه مشهراوي أيضا بالكوفية الفلسطينية التي يستخدمها أبناء بلده في أمرين، الأول للوقاية من قنابل الغاز المسيل للدموع والثاني لإخفاء هويتهم من الجيش الإسرائيلي تجنبا للاعتقال لاحقا.
ولأن وقت العزل كان طويلا استغله مشهراوي أيضا في الكتابة بجانب التصوير والتوثيق ما أحاله في كثير من الأحيان إلى أفلامه السابقة التي دمج لقطات منها في (يوميات شارع جبريئيل) فأضاف إلى الفيلم بعدا زمانيا آخر.
والفيلم رغم خصوصيته الشديدة لصاحبه وتقديمه مجموعة محدودة من الأشخاص المتباعدين اجتماعيا ومتقاربين مكانيا في ذات البناية يلمس حالة إنسانية فريدة تتجسد في الجارة بوليت (95 عاما) التي كانت تحرص يوميا رغم الحظر على المشي لبضع خطوات من البناية إلى متجر البقالة المقابل وفق نصيحة الطبيب الذي أخبرها أنها لو توقفت عن الحركة ستموت لكنها تسقط في النهاية داخل شقتها وتنقل إلى المستشفى حيث تنتهي حياتها وتُدفن دون جنازة أو مراسم عزاء بسبب الوباء.
وفي مناقشة مع المخرج رشيد مشهراوي بعد العرض العالمي الأول للفيلم، بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي قال، إنه لم يملك سيناريو محددا في البداية لأنه لم يكن يعلم القادم لكنه سار وراء الأحداث وبالتالي صنع الفيلم نفسه بنفسه.
وقال، “الفيلم ليس عن مخرج سينمائي فلسطيني انحبس في باريس وقت الفيروس وبدأت ذاكرته في استدعاء كل ما يتعلق بوطنه، لكنْ أنا أيضا إنسان أعيش وسط كل هؤلاء البشر المختلفين داخل الحارة، نحب بعضنا ونتفاعل“.
وأضاف، “أهديت فيلمي إلى مدام بوليت، أهديته إلى امرأة فرنسية عمرها فوق 95 سنة ليس لها أهل ولا أصدقاء، وفي الفيلم تظهر زيارتي إلى قبرها حيث قرأت الفاتحة على ضريحها لأن هذا الفيلم إنساني بالدرجة الأولى“.وعن التصوير بكاميرا الهاتف المحمول قال مشهراوي، إنه من قام بالتصوير والإخراج والمونتاج وكان استخدام الهاتف المحمول اختياره لأن عندما بدأ الفيلم لم يكن يملك سوى هذه الكاميرا وعندما سمحت الظروف بكاميرا أخرى فضل هو مواصلة العمل بنفس الكاميرا.
وأضاف، إن الأمر شكل بعض الصعوبات لاحقا في مرحلة ما بعد الإنتاج حيث استدعى الأمر إجراء تصحيح للألوان وتصحيح للصوت لكن في النهاية هو يراه رسالة للعديد من الزملاء والأصدقاء بأن الفيلم لا تصنعه الميزانية أو الإمكانيات التكنولوجية لكن الفكرة والمصداقية.