أصغر فرهادي في «البائع».. رهافة الحكي والفيلم الأحق بالسعفة

هدى ابراهيم

«كان» ـ هدى ابراهيم

«البائع»، الفيلم ما قبل الأخير في السباق الى السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي في دورته الـ 69، والذي كان آخر فيلم يتم الاعلان عن مشاركته في المسابقة، بعد المؤتمر الصحفي التقليدي للمهرجان، وسيكون آخر فيلم يعرض في هذه الدورة وسيقدم عرضه الاحتفالي بحضور نجوم العمل وسائر النجوم مساء اليوم.

وكشفت مصادر مقربة من الإنتاج الفرنسي لهذا الفيلم «مومنتو» ان اختياره للمهرجان جاء اثر ضغوطات مارسها المنتج، بهدف تقديم آخر انجازات مخرج نال كل الجوائز ولم يبق له الا السعفة الذهبية لمهرجان كان لقطفها.

 وسبق لأصغر فرهادي الحصول على جوائز الأسد الذهبي في البندقية، الدب الذهبي في برلين، عن «انفصال» الذي حصل اكثر من 70 جائزة رفيعة بينها الأوسكار والسيزار والغولدن غلوب.

هناك اذن، ما يدعو للتفاؤل في هذا المعطى بحد ذاته، اذ درجت لجان التحكيم في السنوات الاخيرة، معظم الوقت، على منح السعفة لفيلم عرض في اليومين الأخيرين من المهرجان.

لكن قد لا يكون الأمر كذلك، خاصة، اذا عدنا لمقولة الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس التي اعتبرت في مقالة لها عن المهرجان في السبعينات، ان الامر في لجان التحكيم الادبية والسينمائية عبارة عن «عمليات تنازلات».

واوردت دوراس حرفيا في نص استعادته «المجلة الادبية» بخصوص لجنة التحكيم في مهرجان كان: «ليس الفيلم الجديد، الخاص، هو الذي يحصل على اغلبية الاصوات (في لجنة التحكيم)، وانما هو  ما اسميه الفيلم الثالث، هذا الفيلم الذي لا يحبه احد ولا يكرهه احد لكن الذي يقبل به الكل. ما اريد قوله ان هذه الكوميديا تتكرر كل مرة، في جائزة الغونكور وفي جائزة فيمينا».

ويعتبر البعض انه حان الوقت لكي تحصل ايران على سعفة ثانية من مهرجان كان السينمائي، ويبدو فرهادي السينمائي الإيراني الاكثر نجاحا وحيوية في السنوات الاخيرة، والاكثر تقدما وحداثة في جيله ويبرز خاصة في ظل تراجع اعمال محسن مخملباف وغياب كياروستامي بسبب المرض واحتكار مهرجان برلين لأعمال جعفر بنهي.

في كل الأحوال فإن فيلم «البائع» الذي اقتبس عنوانه عن مسرحية للكاتب المسرحي آرثر ميلر والذي أراد فرهادي من خلاله تقديم تحية للمسرح الذي درسه وسجل فيه بداياته الفنية، يقدم مستوى عال من الرقي والحرفة في صناعة العمل السينمائي كما يأتي خاصا ومختلفا في قوته ورشاقته ورهافته في حكاية القصة، التي لا تغيب عنها المعاني الانسانية والتي تتيح ايضا مستويات قراءة متعددة.

منذ اللحظة الاولى يأسر فرهادي مشاهده ويأخذه الى امكنة لا يتوقعها ويدخل معه الى المسرح ليلحق بعماد ورنا، هذين الزوجين الشابين، في حياتهما أو الناشطين في المجال المسرحي. يقوم بأدائهما «تهاني علي دوستي، شهاب حسيني» اللذين عملا مع المخرج الايراني في السابق.

مرة جديدة يدخل فرهادي الى قلب الأسرة الايرانية في المكان المديني، يعالج مشاكلها، واقعها، ايمانها وشكها، وتقلبات مزاجها. وينتمي الشابان الزوجان الى الطبقة الوسطى في المجتمع الايراني، وهما من المثقفين.

يحدث ان يقلب تهديد انهيار البناء الذي يعيشان فيه بسقوط المبنى حيث بيتهما، بسبب الفساد المستشري في طهران، ما يدفعهم للبحث عن سكن آخر، في مكان آخر يأتي لهم بالمفاجآت.

الملفت في الفيلم، هو هذه اللغة البسيطة دائما لدى فرهادي، لكن المشغولة ببراعة حكّاء من الطراز الرفيع، يرسم بالصورة والكلمة، علامات منمنة فارسية قديمة، مشغولة بأناقة وتظل جذابة مهما كانت صورتها بسيطة

بل ان في اعمال فرهادي جاذبية مغناطيسية، تجعل المشاهد يدخل الى قلب الفيلم ويخوض بنفسه نوعا من تحقيق بوليسي من بداية الفيلم الى نهايته، ولعل هذا ما يجعل من اعماله السينمائية تجارب آسرة.

من منظور الأسرة، يعود فرهادي لمناقشة أفكار وقيم مثل الخطأ والصواب، الثواب والعقاب، البراءة والاتهام، الاثم والطهارة، التسامح والعفو أو الانتقام. كل هذه القضايا يثيرها الفيلم بعد حادثة تتعرض لها المرأة. وفي حين تبدو المرأة الضحية أقرب الى الصفح يبدو الرجل مائلا اكثر للانتقام والثأر.

ويكون من شأن الحادث أن يسلط الضوء على ابعاد في شخصية كل من الزوجين كانت مجهولة منهما، خصوصا لجهة التركيبة النفسية، ما يربك العلاقة بينهما ويضعها تحت تهديد الانتهاء.

وقوفهما أمام الأزمة يكشف عن جوانب في شخصياتهم، كانا يجهلانها، حين كانا يعيشان حياة من دون مشاكل، والفيلم يوسع حدود المتاح في ايران، حيث يستمع الزوجان للموسيقى على العشاء، أو تكشف المرأة عن شعرها قبل النوم..

مرة جديدة، يعالج فرهادي موضوعا يحاول تصوير تعدد وتعقيدات المشاعر الانسانية وبالتالي العلاقات، وهي ليست دائما بيضاء أو سوداء. حين ينوي عماد الزوج الانتقام من الرجل الذي حاول اغتصاب زوجته، يسجنه في البيت ويقفل عليه، لكن مع بوادر الأزمة القلبية التي يعاني منها، يركض مثل المجنون لجلب الدواء له.

كل هذه المشاعر، تبدو نائمة، حتى يأتي ما يستفزها ويحركها، والمخرج يترك الامور معلقة، نحن لا نعرف في نهاية الفيلم ان كان البائع المتجول قد مات، أم بقي على قيد الحياة، وبناء عليه لا نعرف ان كان الزوجان استمرا في العلاقة أو انتهيا الى الطلاق، كل ذلك يتركه الفيلم معلقا، لكن الموت الحقيقي للبائع كان سيكون امام عائلته لو اكتشفت محاولته ان يغتصب رنا، وهو ما كان زوجها عماد ينوي القيام به.

ويرتبط الفيلم كثيرا بالمكان، العاصمة طهران، التي تتحول بشكل عشوائي سريع الى درجة تدفع عماد للقول: «لو كان بمقدوري هدم هذه المدينة تماما واعادة بنائها كنت فعلت». المدينة التي تصبح مرادفة لحياة سكانها الذين يعيشون ضمن هذه الفوضى.

واذا كان البيت في أعمال فرهادي التي تتناول شأن العائلة يلعب دورا محوريا، فان المدينة هنا، في تحولاتها المستمرة والمتسارعة تلعب هذا الدور ايضا، وتحولاتها هذه كانت السبب في كل ما جرى: في ولادة حكاية الفيلم.

كل شيء قديم في طهران تتم إزالته، المباني والحدائق العامة لتتحول المدينة الى غابة فوضوية من ابراج الباطون، تأخذ معها الروح والقيم التي كانت تسكن المكان، ليبدو الكل مصابا بفقدان البوصلة.

سيناريو الفيلم يتوالى، محكما، بضربات المعلم الصغيرة والكثير من اللا متوقع: «المسرح  لعب دورا مهما في حياتي وانا بدأت تطوير القصة انطلاقا من حياة شخصيات المسرحية، عن كيف يعيش الممثل حياته وما هي الصعوبات التي تعترضه» يكشف فرهادي.

وبعد اليست الحياة بحد ذاتها مسرحا دائما للامعقول!

«البائع» لاصغر فرهادي من الأفلام الجديرة بانتزاع السعفة الذهبية هذا العام، معه عاد المخرج للألق الذي عرفه مع فيلمه ما قبل السابق «انفصال» والذي تلاه فيلم «الماضي» الذي بدا اقل أفلام المخرج جودة واكثرها افتعالا. هنا عودة للسينما المسترسلة التلقائية، الى درجة ننسى معها السينما.

الفيلم يملك تاريخا للخروج الى الصالات في فرنسا وسيخرج في الثامن من تشرين الثاني، نوفمبر المقبل. هذا الفيلم يأتي بعد شريط «الماضي» الذي قدم قبل عامين في مهرجان كان السينمائي، ونال عنه جائزة الاخراج، وحكى قصة فرنسية تماما، لكنه بدا اضعف أفلامه، والمثير في الأمر أن فرهادي صرح بأن فيلمه الذي صوره في ايران انجزه بانتظار تمام انتاج فيلم كتب السيناريو له قبل «البائع» وسيصوره قريبا في اسبانيا.

https://www.youtube.com/watch?v=_VcfinMasfw

Exit mobile version