في مدينة تورينو، يصحو الطفل «ماسيمو» على ضجيج ووجود أشخاص يتحركون في ممرات المسكن، أشرق صباح يوم 31 ديسمبر 1969، ليجد هذه الحركة الغريبة ويرى والده في حالة ذهول، يسرع «ماسيمو» ويسأل ماذا حدث لأمه؟ لكن لا أحد يرد على هذا السؤال، لا إجابة واضحة، حيث يقال له أنها في المستشفى ثم يقوده والده إلى الكنيسة وهناك يلتقي الكاهن ليقنع الطفل أن أمه الآن في السماء ويجب أن يصلي من أجلها، يرفض «ماسيمو» كلام الكاهن ويقذف في وجهه بباقة الورد ويصر على رفض القول بأنها ذهبت إلى الجنة وتركته هنا وحده.
في عام 1990 يصبح «ماسيمو» صحفيا، وينجح في عمله ولكن يظل موت أمه وأسئلة كثيرة عن ذلك الصباح المشؤوم حاضرة في ذهنه وحياته الشخصية.
تتكشف لنا أسرار نفسية مريرة وألم داخلي مزعج وذكريات مدهشة وتم تمرير كل هذا بذكاء لتعكس مشاعر حسية مرهفة، يستلهم ماركو بيلوتشيو فيلمه من قصة حقيقية نشرت في كتاب للصحفي «ماسيمو» من صحيفة لا ستامبا.
«أحلام سعيدة» هو فيلم يستند أولا إلى البساطة والشفافية حول مأساة شهدها الطفل «ماسيمو» وكان يبلغ من العمر 9 سنوات، حيث كانت علاقته قوية مع والدته، وكانت بالنسبة له أمه وصديقته وكل شيء في حياته ليأتي آخر صباح من عام 1969 في تورينو ولا يجدها.
المشهد الأول يؤكد على العلاقة الحميمية عبر رقصة الأم وطفلها، تظهر قوة هذه العلاقة وسعادة الطفل لذلك يكون خبر وفاة الأم وفي ظروف غامضة غير مقبول ومرفوض تماما على الأقل بالنسبة للطفل، الكبار يخفون الحقيقة ويتدرجون في قولها حيث يقولون أولا أنها في المستشفى، ثم يخلقون كذبة جديدة بقولهم ذهبت إلى السماء، «ماسيمو» لا يتقبل هذه الحكايات، ويشكك فيها أي في الجنة ولا يتصور أن تكون أمه سعيدة بدونه، ويطرح عشرات الأسئلة يعجز الكاهن أن يقنعنا ويرد على الطفل المتمرد والعنيد، وهذا الطفل يحتوي على ما نحبه في بيلوشيو كسينمائي يحمل روحا جميلة ومتمردة ولا يتحرج من التشكيك بمعتقدات دينية مقدسة وقديمة حول ما بعد الموت وحقيقة وجود الجنة.
تظل ابتسامة الأم وتلك الذكريات ترافق «ماسيمو» في طفولته ثم شبابه وخصوصا تلك السهرات التلفزيونية التي تبث سلسلة بيلبيجور وأغاني جولييت غريكو، وقد ركز المخرج على صور ولقطات ظلت تحضر بشكل مستمر في الفيلم وتتواجد مع «ماسيمو» في سن المراهقة، ونهاية عام 90، فالسرد هنا يحوم بالدرجة الأولى حول شكوك ومخاوف البطل، هذا التسلسل يقودنا إلى الحقيقة التي يبحث عنها «ماسيمو» والتي تؤدي به إلى أزمة قلق وشعوره أنه يموت وفعلا يتصل بالمستشفى ويتحدث إلى الطبيبة التي تعطيه تعليمات لتنظيم التنفس وتتحول هذه الطبيبة عندما يلتقي بها إلى صديقة وحبيبة، لا يُخفي ماركو بيلوشيو جحوده وشكوكه في وجود الله، لكنه يتلذذ بعرض القليل من الخيالات الدينية ويجعل طفلا صغيرا يشكك في صحتها، «أحلام سعيدة» فيه رغبة للتحرر حيث يميل ويقترب من (بيلبيجور) أي الخيال الشعبي ويعطيه سحرا خاصا أكثر من معتقدات الإيمان المسيحي.
«أحلام سعيدة» فيه الكثير من المواجع والحفر في أعماق الطفولة واللاوعي الفردي والجماعي، هذه المعالجة الحرة أشبه بتصوير الشمس السوداء لأكثر الكتب مبيعا في إيطاليا، الظلمة هنا تطاردنا لننزلق إلى هذا الخيال الطفولي وهذه الأشباح يستدعيها المخرج عن وعي تام ويوظفها لتعكس دلالات لا محدودة في فيلم موضوعه حساس وله جذور أسطورية وله تعقيداته القديمة ومنها خرافية ودينية فالعلاقة بين الأم والابن ليست بالموضوع السهل لذلك كان للمكون المرئي مهمة حيوية نشطها هذا المونتاج ليقوي التأثيرات البصرية ويتلاعب بخيوط السرد وخلط الأزمنة أحيانا.
المخرج الإيطالي ماركو بيلوتشيو، معروف بغضبه من السينما الإيطالية وتمرده على النظريات والأساليب السينمائية الجامدة والمستهلكة منذ بداياته السينمائية المبكرة في الستينات مع فيلم «قبضات في الجيب» ولا يزال في كل تجربة جديدة يُطعمها بتمرده وأفكاره، وهنا في هذا الفيلم تموت الأم في ظروف غامضة ويظل طريقه موتها سرا، بيلوتشيو يطيل عمر الطفولة ولا يتخلى عنها، يظل «ماسيمو» طفلا عندما يتذكر أمه وعندما يجد حب امرأة يحاول الخروج من جلباب الطفولة لذلك يجد الشجاعة لمواجهة الحقيقة مهما تكون قاسية، وفعلا يكتشف أن أمه ماتت منتحرة ورمت بنفسها من المسكن الموجود في الطابق الخامس ويعلم أنها كانت تعاني من أمراض نفسية، وفي المشهد الأخير نرى الحبيبة بجانبه وتطلب منه أن يدع أمه ترحل وترقد بسلام ولعلها تريده كرجل وحبيب وليس كطفل وهي تريد أن تكون حبيبة ولا تريد أن تأخذ دور الأم.
يتمحور الفيلم أيضا بين رقصتين، واحدة مع الأم والثانية مع الحبيبة، ويكون منزل الحبيبة كأنه خارج العالم، ذلك المكان الذي يضطر للسير والوقوع وفجأة يكتشفه، كما لو كان في منطقة اللاوعي، وهنا يجد «ماسيمو» بداية طريق الحرية.
تعايش «ماسيمو» مع الصور الكئيبة الموروثة من الماضي لفترة طويلة من حياته، ثم يأتي الحب والذي لا يمكنه الحياة مع صورة الموت وتلك الضبابية المرعبة، لذلك بطريقة أو بأخرى يسعى المخرج للبحث عن مخرج مقنع لشخصيته، بيلوشيو يزج ببطله في أمواج مظلمة حتى نظن أنه سيغرقه في الجنون ثم ينقذه ويعيد تأهيله كي يتحرر، لعل هذه النقطة مهمة ومن البصمات الجمالية المهمة في سينما الرائع ماركو بيلوتشيو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سينمائي وناقد يمني مقيم في فرنسا