خاص ـ «سينماتوغراف»
عندما تتأمل التجربة الفنية للراحل فريد شوقي، ستكتشف أن هوسه بالفن قاده إلى دروب عدة، فقد مارس كتابة القصة والسيناريو وقام بالتمثيل في مئات الأفلام، كما أن حظوظه في المسرح ليست قليلة، فكيف نقيم تجربة هذا الفنان المدهش بمناسبة مرور 26 سنة على رحيله؟، فقد ولد في 30 يوليو من سنة 1920 وغاب عنا في 27 يوليو من عام 1998.
ابن ثورة 1919
لا يمكن فهم ظاهرة فريد شوقي – وجيله كله – دون الالتفات إلى الدور العظيم الذي لعبته ثورة 1919 في تغيير وجه الحياة في مصر، هذه الثورة التي انتشلت الشعب من مستنقع القرون الوسطى المتخلف فكريا وثقافيا، وقذفت به في نهر الحياة العصرية الحديثة، وأظنك تعلم أن فنون المسرح والسينما والموسيقى والغناء بدأت في الازدهار والتألق في الأعوام العشرة التي أعقبت هذه الثورة الفريدة في تاريخنا، فسيد درويش ويوسف وهبي والريحاني وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وروز اليوسف وفاطمة رشدي ومحمد كريم كلهم عززوا حضورهم الفني في هذا العقد المدهش، ومعهم طه حسين وتوفيق الحكيم وشوقي وحافظ والشيخ علي عبد الرازق وأحمد لطفي السيد ومحمود مختار ومحمود سعيد وغيرهم شاركوا في إضاءة أنوار مصر بدءًا من مطلع العشرينيات، فكتبوا ومثلوا وغنوا وأخرجوا ورسموا ونحتوا باعثين روحا جديدا في وجدان المصريين.
ابن البلد
من حسن الطالع أن فريد شوقي ترك لنا الكثير من اللقاءات التلفزيونية والحوارات الصحفية التي تكشف عن نشأته ونشاطاته وعلاقاته في مطلع حياته، وهكذا علمنا أنه مولود في 30 يوليو من سنة 1920 بحي الحلمية الجديدة، وأنه تربى في السيدة زينب الحي الشعبي الشهير، وأنه شاهد الريحاني ويوسف وهبي على خشبة المسرح في صباه، ولعل النشأة في هذا الحي الشعبي أكسبته صفات أولاد البلد التي تتمثل في الشهامة والمروءة وخفة الظل، وهو ما انعكس على أدائه لكثير من الشخصيات الدرامية. (أفتح هذا القوس لأذكرك بأنه تجرأ ووقف على المسرح ليتقمص شخصية نجيب الريحاني نفسه التي قدمها في بعض المسرحيات مثل الدلوعة عام 1966). الأمر الذي يكشف حجم موهبته حتى في أداء الأدوار الكوميدية المغلفة بنزعة إنسانية كما كان يفعل أستاذه.
المعمار العملاق
أوتي فريد شوقي بنيانا عملاقا يتسم بالشموخ والقوة، فهو طويل بشكل لافت.. (وصفه أحد الجالسين في المقهى في فيلم جعلوني مجرما بأنه «شحط»/ أي ضخم جدا). كما أن ملامح وجهه اتسمت بالجدية دون جهامة، وخلت من الوسامة الشائعة في زمنه، فالجبين منبسط، والوجنتان بارزتان، والشفاه غليظة دون نفور، والباروكة التي يضعها فوق شعره منذ عام 1952 ليست ناعمة مثل شعر أنور وجدي أو كمال الشناوي الذي يتهدل في أول لفتة مفاجئة، فتزيد من وسامة البطل وجاذبيته.
هذه الملامح المتميزة أهلته لأن يلعب أدوار «الفتوة».. ابن البلد.. الصنايعي.. بائع ألبان.. سائق شاحنة.. جندي مقاتل.. تاجر مخدرات.. أي أن ملامحه أبعدته عن أدوار صاحب المهنة المرموقة والعاشق المتيم الغارق حتى النخاع في هوى محبوبته كما كان يفعل أبناء جيله مثل عماد حمدي وكمال الشناوي وشكري سرحان وعمر الشريف وأحمد مظهر، ما يعني أنه اختط لنفسه مسافة عن البطل الشائع في ذلك الزمان، ولعل لقب (وحش الشاشة) الذي منحه له جمهور البسطاء يؤكد صحة ما نقول، فرواد السينما في الخمسينيات كانوا من أولاد البلد الذي يحلمون برؤية (بطل) يخلصهم من الشر الرابض في المجتمع.
فريد شوقي وعبد الناصر
من مفارقات القدر أن أول ظهور لفريد شوقي على الشاشة لعب دور ضابط مباحث، وذلك في فيلم (ملاك الرحمة/ 1946) ليوسف وهبي، ثم راح يتقمص شخصية الشرير في أكثر من خمسة وعشرين فيلما حتى عام 1952، وكلها أدوار نمطية لا تكشف حجم موهبته، فهو قابع في كباريه أو بار يتجرع الخمر، ويسطو على أموال الراقصات، ويدبر المكائد للبطلة أو البطل، ويرفع حاجبه الأيسر منذرا ومتوعدا، ثم يقسم – كذبا – بشرف أمه.
حتى اقتنع به صلاح أبو سيف ومنحه البطولة المطلقة في (الأسطى حسن) الذي عرض للمرة الأولى في 23 يونيو من عام 1952، ثم توالت بطولاته بعد ذلك حتى يمكن القول إنه أحد أهم علامات حقبة الخمسينيات، وقد ترافق صعوده السينمائي مع صعود جمال عبد الناصر في عالم السياسة، ففريد شوقي في الأفلام يقهر الشر ويقاومه، وعبد الناصر في الواقع يحارب الظلم ويقاوم الاستعمار، وكأنهما صنوان. واحد في الحلم – أي على الشاشة – والآخر في الواقع، وهكذا نال نجمنا لقب (وحش الشاشة) عن جدارة.
محطات في أدائه
رغم غزارة الأعمال السينمائية التي شارك فيها فريد شوقي، إلا أنه لم يكن يتمتع بمهارات فذة في التمثيل مثل زكي رستم أو حسين رياض أو محمود المليجي أو حتى يحيى شاهين ومحمود مرسي، إذ ظل يتأرجح طوال الوقت بين الأداء المقبول، والأدء الجيد، ولم يذق طعم الأداء المدهش إلا مع صلاح أبوسيف الذي تمكن من تفجير طاقات التمثيل لديه.
البداية كانت مع (الأسطى حسن)، ثم (الفتوة/ 1957) الذي وصل فيه فريد شوقي إلى ذرى غير مسبوقة ولا ملحوقة في فنون الأداء، وجاء فيلم (بداية ونهاية/ 1960) ليؤكد أن صلاح أبوسيف هو المخرج الوحيد الذي أطلق موهبة فريد من أسر النمطية والتكرار.
عشرات الأفلام التي قام ببطولتها ملك الترسو بعد ذلك، لكنه لم يكن بالكفاءة المرجوة إلا في سنة 1977 عندما تألق فريد مرة أخرى مع صلاح أبوسيف في (السقا مات).