“أصبحت الحياة لاتحتمل بالنسبة لي، سامحوني”، كانت هذه هي آخر عبارة خطتها بيدها المطربة العالمية داليدا قبل أن تقرر انهاء حياتها بتناول جرعة زائدة من الحبوب المنومة في ذلك اليوم البعيد الذي وافق 3 مايو 1987، والذي استيقظ فيه محبوها في سائر أنحاء العالم علي خبر انتحارها.
وكما كان هذا المشهد الختامي في حياتها، كان أيضا آخر مشاهد فيلم “داليدا” الذي بدأ عرضه مؤخرا في عدد من الدول العربية بعد أن عرض في سينمات فرنسا أوائل هذا العام، واختاره مهرجان أسوان لأفلام المرأة ليكون فيلم ختام دورته الأولي.
ورغم النهاية المآساوية التي انتهت بها حياة المطربة التي تغنت بكل لغات العالم، وحققت نجاحا غير مسبوقا وبيع مايزيد عن 130 مليون اسطوانة لأغنياتها، وتعمد سيناريو الفيلم للتركيز عن كثير من المواقف المؤلمة في حياتها الا أن الفيلم جاء برغم ذلك يضج بالحياة والحب، وقد استحوذت أغنياتها وحفلاتها واستقبال الجمهور لها وحفاوته بها علي مشاهد عديدة ما أضفي عليه حيوية وبهجة.
الفيلم الذي كتبته وأخرجته ليزا أزوبلوس، الفرنسية من أصول مغربية يعد أحد أفلام السيرة الذاتية حيث يتناول حياة يولاند أو داليدا منذ مولدها بالقاهرة في يناير 1933 وكيف تعلقت بوالدها الذي كان يدللها ويبث الثقة فيها بقوله: أنت أجمل فتاة في العالم، في الوقت الذي كانت زميلاتها في المدرسة يسخرن من نظارتها السميكة إلى أن جاء اليوم الذي نزعت فيه نظارتها وكان بمثابة ميلاد جديد لها.
تجد أفلام السيرة الذاتية صدي كبير لدي الجمهور وطالما أتحفتنا هوليوود من وقت لآخر بأفلام لشخصيات شهيرة، سياسية وفنية، هاهو فيلم داليدا الذي يروي قصة حياة المطربة المصرية المولد، تم بانتاج فرنسي إيطالي مغربي مشترك بميزانية لم تتجاوز 15 مليون يورو، وقد جري تصويره بين فرنسا وايطاليا إلى جانب المغرب، ورغم السنوات التي عاشتها داليدا في مصر منذ مولدها وطفولتها في حي شبرا بالقاهرة لوالدين من أصل ايطالي بعد هجرة جديها من إحدي الجزر الايطالية إلى مصر، حيث عاشت طفولتها وشبابها، وبدأت تتحسس طريقها الفني بعدما فازت بلقب ملكة جمال مصر عام 1951، ثم تقديم المخرج نيازي مصطفي لها في فيلم “سيجارة وكأس” عام 1955 وعودتها بعد ذلك إلى القاهرة لتصوير أغنياتها (كلمة حلوة وكلمتين، سلمي ياسلامة، وأحسن ناس)، ثم مشاركتها في فيلم “اليوم السادس” 1986 للمخرج يوسف شاهين عن قصة اندريه شديد، وتصويرها لمشاهده في القاهرة كل ذلك لم يشفع لتصوير بعض مشاهده في مواقعه مصر، وعلي الأرجح فقد تم تصوير هذه المشاهد في المغرب.
يتعرض الفيلم لعذابات داليدا في الحب، وبحثها الدائم عنه ثم أزماتها المتتالية مع أزواجها ونهاية حياتهم المآساوية بانتحار كل منهم لأسباب مختلفة، وتطلعها برغم نجاحها المدوي وشهرتها الواسعة لكي تصبح أما، كان هذا أمرا مهما لها كامرأة لذا تقول لزوجها الأول “لوسين” في أحد مشاهد الفيلم “أريد أن أعد عشاءا لك وأنجب أطفالا”، لكن هذا الحلم تبدد حينما أخبرها الطبيب بفقد قدرتها علي الإنجاب لتدخل بعدها في دائرة من الاكتئاب، ومن زوج لآخر يؤكد الفيلم أنهم كانوا أحد أسباب أزماتها النفسية المتفاقمة، فأحدهما كان مهووسا وغيورا لذا حسمت أمرها وهي تردد “هذا الحب سيقتلني اذا استمر” فتقرر وضع نهاية له بالانفصال عنه، ينتقدها ويصفها بالنجمة المسنة وتضطر لدفع كفالة كبيرة لاخراجه من السجن.
وبينما تنتقل داليدا من نجاح إلى نجاح، ويدوي تصفيق الجمهور ويستقبلها بالورود والهتافات في حفلاتها ويزداد الهوس بصوتها وأغنياتها وحضورها علي المسرح، تنساب دموعها وتتزايد احباطاتها في كواليس حياتها.
نجاح أفلام السيرة الذاتية عموما يعتمد بشكل كبير علي مصداقيه السيناريو في تحقيقه لشخصية البطل ليس فقط بتطابق الملامح والشكل الخارجي، بل أيضا أن يملك المقدرة علي الأداء، والنفاذ إلى أعماق الشخصية، وفي هذا الفيلم تحديدا برعت المخرجة في اختيار الايطالية “سفيفا الفيتي” لتجسد شخصية داليدا من بين 200 ممثلة التقتهم في رحلة بحثها عن البطلة والتي رشحت لها في البداية الممثلة الفرنسية نادية فارس، وبرغم أن سفيفا عارضة أزياء بالأساس، الا أنها نجحت بشكل كبير في تجسيد شخصية داليدا التي توحدت معها معبرة ببراعة في لحظات ضعفها وقوتها، ومشاهد توهجها علي المسرح، وتعبيرها دراميا وكأنها من تؤدي الأغنيات.
ليست هذه هي المرة الأولي التي تقدم فيها حياة داليدا علي الشاشة، فقد سبق وقدمت في فيلم تليفزيوني انتاج فرنسي ايطالي من جزئين، وجسدت شخصيتها الممثلة سابرينا فيريللي، لاشك أن حياة داليدا تحمل عناصر الاغراء الدرامي، لكن الفيلم نجح في استدرار دموع المتفرجين تضامنا مع موهبة كبيرة عاشت تحلم بالحب والنجاح، وحققت أكثر مما كانت تصبو اليه كمطربة بينما ظلت تبحث عن الحب والسلام النفسي وبدا ذلك حلما بعيدا.