Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
سينما أمريكيةسينمانامراجعات فيلميةنقد

الفتاة الراحلة .. فينشر يفعلها مجدداً

خليط مدهش بين النضج والجنون
“الفتاة الراحلة” .. فينشر يفعلها مجدداً
“سينماتوغراف” ـ  أمجد جمال
 
النجاح المدوّى الذى حققه بفيلم “نادى القتال” والمأخوذ عن رواية بنفس الإسم، جعله يظل خاضعاً لسحر الأدبيات بخيالها وواقعها لمدة تزيد عن عقد ونصف من مسيرته الإخراجية. بقى المخرج الأميريكى “ديفيد فينشر” خلال تلك الفترة أكثر تحمساً للكتب ذات الموضوع الجدلى مثل “الشبكة الإجتماعية” و”زودياك” ، أو الكلاسيكيات ذات الفكرة الخاطفة مثل “الحالة العجيبة لبينجامين بوتن” عن القصة القصيرة لفيتزجيرالد، أو الروايات الأكثر مبيعاً مثل “الفتاة ذات وشم التنين”. وينتمى أيضاً فيلمه الأحدث “الفتاة الراحلة ـ Gone Girl” لتلك الفئة الأخيرة من الأدبيات، وقد قامت كاتبة الرواية “جيليان فلين” نفسها بتحويلها إلى سيناريو سينمائى.
 
عندما سُئل صناع الفيلم عن السبب الذى يجعل قراء الرواية يتحمسون لمشاهدة الفيلم وهم على علم بما فيه من مفاجآت أو ألعاب درامية، أجابوا بأن الأمر يتخطى مفهوم المفاجآت، بإمكانك أن تصدق ما قالوه وتستكمل قراءة هذا المقال أو أن تؤجله حتى تشاهد الفيلم إن لم تكن تريد حرق المفاجآت والأحداث. حيث تأخذنا فلين فى روايتها التى صدرت عام 2012 فى رحلة من الغموض سعياً لحل لغز إختفاء “إيمى” الزوجة الطيبة، التى قامت بدورها الممثلة “روزمند بايك”، فى ذكرى زواجها الخامسة من “نيك”، الذى أدى دوره النجم “بين أفليك”، وهو الزوج المريب الذى لا يظهر تأثره بفقدان زوجته ويثير حوله شكوكاً من الشرطة ووسائل الإعلام بأن يكون متورطاً فى قتل زوجته وإخفاء جثتها، تتعقد الأمور أكثر عندما نعلم أنه كان يخونها مع إحدى طالباته فى الجامعة التى يقوم بالتدريس بها، وأنه لم يخبر الشرطة أن “إيمى” كانت حاملاً منه قبل إختفائها، وتتوالى الأحداث والمفاجئات.
 
 
كانت فلين مخلصة لنصها الأصلى لمدى بعيد، خاصة فيما يتعلق بقوام القصة وأحداثها الرئيسية، وكانت موفقة فى إختزالها للتفاصيل التى أهملتها لأسباب تكثيفية وبصرية جعلت الإيقاع يتخذ سرعة نموذجية. يستثنى من براعة هذا التكثيف تسطيحها لملامح شخصية “نيك” وتاريخها، فهى على سبيل المثال عرّفتنا بذكاء عن ملمح مهم من شخصية “إيمى” فى مشهد لقائها الأول بنيك فى الحفلة، عندما ردت على سؤاله بطرح ثلاثة إختيارات، وهى طريقة الألعاب التى تطغى على سلوكها وأسلوبها فى الحوار وتعبر عن طبيعة مهنتها السابقة كمصممة اختبارات سيكولوجية فى إحدى المجلات، بينما كان هناك أيضاً ملمح طريف فى شخصية نيك بالرواية وهو أنه يقتبس جمل من الأفلام السينمائية ليستخدمها فى أحاديثه، وهى أيضاً سمة معبرة عن مهنته السابقة كناقد سينمائى، وقد أهملتها فلين فى نصها السينمائى. ولم تكن موفقة أيضاً فى توضيح ما هو حقيقى وما هو مختلق فى صراعات الزوجين قبل رحيل الفتاة، فأظن أن من لم يقرأ الرواية قد يصاب ببعض الإلتباس فى تحديد اذا كان “نيك” كان يضرب زوجته ويضاجعها ميكانيكياً من الدُبر فعلاً أم أن الأمر إقتصر على برود فى المعاملة فقط والبقية من خيال الزوجة، وإن كانت أغلب الأحداث من إختلاقها فسيأخذنا ذلك مع شخصيتها إلى جهة سايكوباتية بحتة، وهذا غير صحيح، فالعلاقة والشخصيات أكثر تعقيداً.
 
يذهب الكثيرون ممن شاهدوا الفيلم إلى إعتقاد أنه يقدم خطاب إدانة شرسة لمؤسسة الزواج، فى رأيى أنه أعمق من ذلك، فمؤسسة الزواج بهذا الفيلم لم تكن سوى وسيلة لفضح أقنعة الإنسان نفسه، وذلك الأخير هو ما يتم توجيه الإدانة له فى حقيقة الأمر. الغالبية العظمى من الناس تظهر أجمل ما لديها للطرف الآخر فى بداية كل علاقة، حتى لو إضطرت للتجمّل والإفتعال، تم التعبير عن ذلك فى أكثر من مشهد، أبرزها مشاهد الفوتومونتاج لهروب إيمى مع تعليق صوتى لها يفيد بأنها إصطنعت شخصية أكثر مرحاً ووجاهة عن شخصيتها الحقيقية كى يقع فى غرامها “نيك”، ونعرف بعدها أن “نيك” أيضاً فعل نفس الفعلة، ومع الوقت والتملك تظهر حقيقة الشخصيات الكامنة، وتتصادم مع الصورة الوردية المصطنعة ما يحدث التنافر، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذى يرفض التعايش مع الجانب المظلم من شخصيته وشخصيات من حوله.
 
ذلك الجانب المظلم يكمن فى أشكال عدة، بالنسبة لـ “نيك” يبدأ بسلوكه الفوضوى داخل المنزل مثلاً بإلقائه للمخلفات داخل صالة المنزل وممارسة الألعاب الالكترونية بشكل متواصل، ويصل لقمته بنزعة غرائزية حيوانية جعلته يقيم علاقة مع تلميذته، أما بالنسبة لـ”إيمى” فهو يبدأ بسلوكيات حالمة لدرجة تصل للسفه واللاعقلانية مثل أسلوب الألعاب والأحجية التى تمارسه دائماً، ويصل لذروته بحالة سايكوباتية تجعلها تدبّر المكائد لزوجها وتقتل صديقها السابق .. الفيلم يضعنا أمام معضلة أخلاقية معقدة، لا تستطيع أن تدين “إيمى” وحدها، ليس فقط للجوانب الخيّرة من شخصيتها كإخلاصها لزوجها وإعطائه المال ليقيم مشروع الحانة وخدمة أمه أثناء صراعها مع المرض، بل لأن “نيك” ليس أيضاً ملاكاً.
 
بإختصار ما يمكنك الخروج به من هذه المعضلة هو أن الإنسان كائن مثير للشفقة، سواء كان فاعلاً كأبطال الفيلم، أو مجرد متلقى ساذج يتم شحنه وتعبئته عبر ما يشاهده فى برامج التلفزيون والإعلام التى تتاجر بالإثارة حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة وعلى حساب حياة ومشاعر ضحايا تلك التغطيات .. بل ولعلنا نحن أيضاً مثيرون للشفقة حين توهمنا لوقت ما أن أيمى هى البراءة عندما تتجسد بفتاة ونيك هو الظلم فى صورة إنسان، إستجابة لتراكمات وترسيبات سينمائية تنميطية للخير والشر، وهذا ما يعطى للفيلم بُعداً عبثياً ساخراً يصل لدرجة من الكوميديا السوداء قبل النهاية بقليل.
 
 
أداء الممثلة “روزاموند بايك” هو من أقوى عناصر الفيلم، وستكون مفاجأة إذا لم تحصل على ترشيح لجائزة أوسكار أفضل ممثلة، أما “بين أفليك” وفضلاً عن كاريزمته المتصاعدة فى السنوات الأخيرة، فهو الممثل المشهور بأدائاته المتسمة بالبرود ما جعله الإختيار النموذجى من فينشر لأداء هذا الدور، حيث أن دور نيك لم يكن يتطلب سوى ممثل بارد وعبثى فى إنفعالاته، ولعل تلك اللقطة التى يضحك فيها رغماً عنه فى مشهد المؤتمر الصحفى هى خير دليل على صحة اختيار فينشر، فهذه الضحكة البلهاء والمحورية فى أحداث الفيلم لا يمكنك استخلاصها سوى من ممثل كـ “بين أفليك”!
 
لفينشر لمساته المميزة فى هذا الفيلم، أبرزها ما تم فى مشهد الجماع بين “إيمى” وصديقها السابق “ديسى”، أستطيع أن أجزم بأن هذا المشهد كان السبب الرئيسى فى تحمس فينشر لإخراج هذا النص، كما إنه مشهد لعبت فيه الموسيقى التصويرية لـ “ترينت رينزور” و”أتيكوس روس” دوراً رائعاً، يذكرنا بما فعلاه فى فيلمهم السابق “الفتاة ذات وشم التنين” وتحديداً فى مشهد إغتصاب البطلة البشع. حسناً .. ففينشر يحب مشاهد الجنس عندما يكون لها بُعداً دموياً، ورينزور الذى شاركه فى معظم أعماله يدرى جيداً كيف يعبر بموسيقاه عما يريده فينشر من صدمة للمتفرج.
 
يبدأ الفيلم وينتهى بلقطة مقربة من وجه إيمى وهى تستلقى فى فراش الزوجية بجوار نيك، ورغم أنها نفس اللقطة إلا أن هناك شىء تغيّر، لم تعد ملامح إيمى هى نفس ملامح الملاك الرقيق التى ظهرت بها فى لقطة البداية، هل تدخل الماكياج فى هذا الأمر؟ أم أن فينشر تعمد عدم إظهار ذلك الجانب المرعب من وجهها فى البداية عن طريق التلاعب بالعدسات وزوايا التصوير؟ .. أم أن الأمر يتعلق بنفسية المتفرج، الذى تلقى المنظر بوجهة نظر أخرى بعدما تلاشت أحكامه المسبقة وفهم أن الحقيقة ليست كما تبدو .. وأن لكل إنسان قناعه التجميلى الذى لن يلبث أن يبهت مع مرور الوقت؟ وهى القضية التى كان يتمحور حولها الفيلم .. وأياً كانت الإجابة فهناك شيئان مؤكدان: الشىء الأول أن فينشر وضعنا فى النهاية أمام لقطة مبدعة فى إيحائها وتعبيرها عن المأساوية التى تحاصر تلك العلاقة، وعن الرعب الأبدى الذى ينتظر “نيك” مع فتاته الراحلة .. والشىء الثانى أن هذا الفيلم هو أكثر أفلام فينشر جمعاً بين ذلك الخليط المدهش بين النضج والجنون منذ “نادى القتال”. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى