كتاب الموقع

«خرج ولم يعد».. سينما بجد

 على مدى سنوات طوال، شاهدت العديد من الأفلام الجادة التي عبرت عن مدى ما يمكن أن تقدمه السينما من متعة حقيقية.

ومن بين هذه الأفلام التي أُطلق عليها تعريف «سينما بجد»، كما يظهر عنوان هذا المقال، يطل فيلم «خرج ولم يعد» للمبدع محمد خان، وهو الفيلم الذي حل في المرتبة السابعة والخمسين ضمن قائمة أفضل 100 فيلم مصري.

فرغم أن الفيلم من إنتاج عام 1984، أي مر على إنتاجه 32 عاما، إلا أنه يظل من أحب الأفلام  التي لا أمل مشاهدتها حتى لو كان ذلك يوميا.

فمنذ أول ظهور لمحمد خان، كمخرج للأفلام الروائية الطويلة في فيلم «ضربة شمس» عام 1978، بدا أنه مخرج مختلف وشارك من وقتها مع عدد من مخرجي جيله في تأسيس «السينما الواقعية الجديدة». وقدم بعد ذلك أفلاما صنفت كعلامات مميزة في تاريخ السينما المصرية مثل «طائر على الطريق»، «موعد على العشاء»، و«الحريف»، و«مشوار عمر» حتى وصل إلى فيلمنا المختار «خرج ولم يعد»، عن سيناريو مقتبس أعده عاصم توفيق.

 وفي هذا الفيلم، كما في جميع أفلامه، يطلق محمد خان كاميرته لترصد الواقع في الشارع بعيدا عن الاستوديو الذي يناصبه العداء.

ويحكي فيلم «خرج ولم يعد» عن عطية (يحيى الفخراني) الذي يعمل موظفًا بسيطًا في إحدى الهيئات الحكومية، والذي يقرر، بعد أن تهدده حماته بفسخ خطوبته من ابنتها لتأخره في توفير عش الزوجية، أن يأخذ إجازة من عمله، ويسافر إلى بلدته ليبيع إرثه من والده وهو عبارة عن ثلاثة فدادين من الأرض الزراعية، وهناك يقع في غرام خيرية (ليلى علوي) ابنة كمال بك (فريد شوقي) الذي اشترى منه الأرض، ومع الوقت يعشق هدوء الريف، وبساطته، وبعده عن صخب المدينة التي كان يعشقها يوما ولم يألف عيشة في مكان غيرها.

وشارك في بطولة الفيلم كل من عايدة عبد العزيز في دور زوجة كمال بك، وتوفيق الدقن في دور القائم على رعاية أرض عطية.

وقد كان الفيلم بوابة واسعة لانطلاق الفخراني كممثل لا يضارع، وكذلك أنبأ بموهبة غير محدود لليلى علوي، أثبتتها الأيام. وليس ذلك فقط بل ظهر جميع أبطال الفيلم في أجمل أدوارهم التي ستظل محفورة في ذاكرة السينما المصرية.

ومع تميز محمد خان في إدارة ممثليه وتوفيقه في اختيار اماكن التصوير المفتوحة بعيدا عن الاستوديوهات، فإن كل لقطة من لقطات القيلم تشعرك بأنك في في موقع الأحداث، بل ومشارك فيها لتصدق الجملة التي وضعها محمد خان في مقدمة الفيلم وهي «ربما تكون الشخصيات من الخيال، لكن ثق من أن الأماكن من الواقع».

ففي «خرج ولم يعد»، ساهمت الموسيقى التصويرية التي وضعها كمال بكير في وضع بصمة خاصة ومميزة للفيلم، ونجح طارق التلمساني كمدير للتصوير في التعبير عن المطلوب من المخرج لتكون النتيجة كما نراها، متعة حقيقة لبلاتوه مفتوح تمتد من خلاله الخضرة الفسيحة التي تطيل الأعمار عكس الخنقة التي كان يعاني منها البطل يحيى الفخراني في القاهرة بسبب الضيق والتلوث والضوضاء.

لقد أراد المخرج محمد خان، وقد نجح في ذلك، أن يقنعنا أننا في مواقع التصوير بما وفره لأعيننا من رحابة وأصوات كروان يغرد، لاسيما في المكان الذي أطلقت عليه البطلة ليلى علوي اسم «الجنة» داخل موقع مزرعة الموز.

كما نجح في إخراج أفضل ما لدى نجومه من أداء. فتلك «خوخة» الجميلة التي تتنازل عن جمالها وترتدي الملابس الرثة وتظهر دون مكياج وتقوم بنفسها بـ«تحميم الحمار». وما أروع ما قالته لها أمها عايدة عبدالعزيز «حمار ايه يا بت اللي انت مهتمية بيه وسايبة الحمار اللي قاعد في البيت» في إشارة إلى عطية «يحيى الفخراني» التي كانت الأم قد قررت أن يكون زوجا لابنتها لتبدأ في الخلاص منها ومن أخواتها الخمس اللاتي اعتبرتهن «هما ثقيلا».

أما المبدع يحيى الفخراني فقد ظهر طوال الفيلم مرتديا طقمين من الملابس متوسطة المستوى التي تعبر بصدق عن معاناة موظف الحكومة. كما ظهر بيته المتوقع انهياره في اي لحظة آيلا للسقوط ليسقط بالفعل في وقت لاحق.

في الوقت ذاته، ظهر المشوار الذي قطعه الفخراني على قدميه من بيته ليخرج إلى العالم الواسع طويلا ومارا بأزقة ضيقة ليؤكد الرسالة التي أرد المخرج إيصالها لنا وهي الضيق والازدحام الخانق الذي يحيط ببطل الفيلم.

أما العظيم فريد شوقي فقد كان في قمته معبرا بالحركة والكلام وحتى بالملابس عن ما يريده دوره، وظهر ناضجا ممسكا بأدواته.

ورحم الله تلك الأفلام التي كان النجوم فيها طوعى للمخرج يلتزمون بأوامره ويتركون أنفسهم له ليحركهم ويلبسهم كيفما شاء، فهو الصوت الوحيد المسموع في موقع التصوير، لا أن تفرض النجمة شروطها وآراءها وتحدد ماذا تلبس وكيف يكون مكياجها حتى أننا رأينا نجمة ترتدي أفخم الأزياء وينسدل شعرها على كتفيها رغم أنها تعيش في مكان قفر بعيدا عن العمران في صورة تجافي الواقع وتنسف الجدية.

إن «خرج ولم يعد» سينما بجد، حرص محمد خان على أن يقدمها دائما لتكون متنفسا بين الحين والآخر لمحبي السينما لمشاهدة أعمال ذات قيمة لا يملون مشاهدتها. فتحية له وهو يشارف على الخامسة والسبعين ومازالت أعماله شابة متفتحة تشير إلى أن هناك من يحب السينما ويخلص لها رغم الصعوبات التي تحيط به في وقت طغى فيه الغث والرخيص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى