بلاتوهات

«نوارة» أول فيلم في ثلاثية الثورة المصرية

 

انتصار دردير

 انتصار دردير

يقول البعض أن السينما ملهاة للشعوب ويعتبرونها مجرد تسليه، في حين يؤكد الغالبية بأنها فن ينعكس فيه طبيعة العصر أو هي لون من ألوان الدعوة تعيد للإنسان نفسه ومشاعره، ويراها العقلاء «ضمير» وتحت هذه الكلمة ألف خط  ينذر برسائل تنبأ أحيانا بالخطر أو تحذر مما هو قادم، كما تخاطب الميول الإنسانية لمعايشة الواقع أو الخيال، أما أصحاب «البيزنس» فيعلمون أنها صناعة تدر الملايين، ومن أجل ذلك يوظفون لها كل شيء وأي شيء لاستراجع ما أنفقوه، حتى ولو على حساب المشاهد نفسه، لا يهمهم قيم طالما السطحية تكسب، ولا يعنيهم سوى ثمن تذاكر بضاعة هابطة تعرضها الشاشات تحت لافتة «الجمهور عايز كده»، وبين ما أصبحنا عليه وما يجب أن يكون، دخلت الأفلام المصرية منذ سنوات في نفق مظلم، واليوم يأتينا ضوء شمعه تنير الطريق للمقبل، فيلم «نوارة» الذي يعرض حاليا في صالات السينما، هو ببساطة دعوة لمزيد من النور، بدلا من الاستسلام وأن نظل «نلعن الظلام»، ويمثل حدا فاصلا بين سينما ضحكت على مشاهديها، وقدمت لهم النماذج الفاسدة، وأغرقتهم فى طوفان الإسفاف، وأخرى تحترم عقل المتفرج وتطرح قضاياه بوعى وتمتعه أيضا.

نواره 4

يأتى «نوارة» كبريق وهج يؤكد أنه لايصح الا الصحيح، بعد أن فقد الفيلم المصرى جمهوره الأصيل تحت وطأة ظروف مجتمعية واقتصادية، وغياب أو ندرة العمل الذى يخاطب فكره ويلامس وجدانه، فهرب قطاع منه إلى الأفلام الأمريكية باحثا عن الإبهار بإمكانات تكنولوجية، وذهبت فئة كبيرة وراء سينما الإفيهات والهايفه، بعد أن سقطت فريسة لمنتجين «السبوبة» وتجار سيطروا بأفلام «الهلس» على أكبر تاريخ وصناعة وسوق في العالم العربي.

والخطورة ليست في واقع الحال فقط الذي نعرفه ونعيشه ونتوجع ونعاني منه، وانما النظر إليه بعين واحدة، وإغماض الأخرى مثلا تجاه حملة رفعت شعار «ادعم السينما العربية»، بدأت من الإمارات وتبنتها شركة انتاجية في مهرجان دبي السينمائي، ومهرجان برلين، وهي تدعو المشاهد لدعم السينما العربية مؤكدة أن «كل تذكرة تقطعها أنت تدعم بها انتاج فيلم جديد»، ونحن عاجزين تماما عن أن ندعو لدعم السينما المصرية الحقيقية، وننتظر استثمارات أو شراكات خارجية تفرض علينا ما سنقدمه، ضاربين عرض الحائط بما فرضه السوق السعودي في مرحلة الثمانينات  من أفلام المقاولات والأعمال السريعة المعلبه المحدد سلفا أبطالها ونجومها ومضمونها وأهدافها.

 ولذلك انحاز إلي دعم فيلم «نواره» لأنه يستحق وهو مصري مائة في المائة، ويجب أن نسانده جميعا، لأنه يعبر عن الناس الغلابة الشريحة العظمي من هذا الشعب، ويسلط الضوء على التناقض الصارخ فى مجتمعنا، فنحن أمام أبطال من لحم ودم، تعلقوا بالثورة وكانت تعنى لهم شيئا من الانصاف، تعني أن تجد «نوارة» شقة صغيرة تأويها مع زوجها الذى عقدت قرانها عليه وتعطل زواجهما بسبب السكن، وأن تجد جدتها ما تحتاجه حيث تقول في جملة شديدة التعبير عن واقع العشوائيات وما فيها من سوء خدمات: «أنا خايفة أموت وملاقيش شوية ميه تغسلوني»، فنوارة مثل ملايين المصريين الذين يرضون بأقل القليل، وصدقوا في فترة ما حلم أن ثروة مبارك ورجاله المنهوبة سوف يتم توزيعها بالعدل على كل مواطن، ولكنها تتعرض في النهاية إلى دفع الثمن، والسقوط ضحية مثل كثير من ضحايا الثورة.

سحر السينما

(لا زالت السينما وستبقى تحتفظ بسحرها ومقدرتها على نقل الشخص إلي أجواء مختلفة، فالفترة التي تطفأ فيها الأنوار تصنع علاقة خاصة بين المشاهد والشاشة، فيعيش مع الأفلام حالة يرصد فيها عالمه أو عالم آخر).  

نوارة 5

داخل قاعة سينما مكتملة عن بكرةِ أبيهِا في مهرجان دبي السينمائي، جلسنا منتبهين، مشدودين طوال فترة العرض الأول لفيلم «نوارة»، لم يرمش لنا جفن، لم ننظر فى ساعتنا – هناك مقولة لمخرج سينمائى عالمى «إذا نظرت إلى ساعتك خلال عرض الفيلم فهذا معناه أنه فيلما فاشلا» – كنا نريده أن يستمر وتنتصر الثورة لأبطالها المطحونين، و بالفعل خلق «نوارة» حالة من الفرحة تسللت بين الوفد المصرى والجالية المقيمة هناك، وتوالت كلمات النجوم والجمهور، ليلى علوى وصفته بأنه فيلم تكاملت له عناصر النجاح، الهام شاهين قالت أنه من أفضل الأفلام المصرية، جمهور عادى رأى فيه عودة للسينما المصرية بعد غياب، وتوقعوا فوز بطلته «منة شلبى» بجائزة أفضل ممثلة، وقد كان.

مشاهد وأحداث

(لايزال الوقت مبكرا لتقديم أفلام عن ثورة المصريين فى 25 يناير 2011، ولاتزال هناك أحداثا لم تتكشف وملفات لم تغلق، وحكايات لم تروى، وشهود لم يتحدثوا، لأن الفن ليس صحيفة ترصد الأحداث أولا بأول، ولكن بالتأكيد ستفرز الثورة أدبها وأفلامها فى وقت لاحق ليس ببعيد).

يقترب فيلم «نوارة» من الثورة، ويبتعد عنها فى آن واحد، ولا ينقل مشاهدها وأحداثها فلا صورة من الميدان، ولا مشهد من قلب المعركة، هو يرصد فقط انعكاساتها على الناس، يطرح أحلامهم التى اصطدمت بواقع مرير، ولم تستطع هالة خليل كمؤلفة ومخرجة أن تتجاهل الثورة كموضوع لأفلامها رغم قناعتها أنه لازال الوقت مبكرا، خاصة وقد تداخلت وتقاطعت أحداث الثورة مع تفاصيل الحياة اليومية فى مصر سلبا وايجابا.

نواره

ومع مشهد النهاية الذى تتهم فيه البطلة البريئة الخادمة نوارة بسرقة مبلغ مالى من فيلا مخدومتها، كانت قد طلبته منها لعلاج والد زوجها، بعد هروب مخدومها الوزير السابق ورجل الأعمال الثرى وأسرته الى لندن خوفا من ملاحقات الأجهزة الأمنية وجهاز الكسب غير المشروع، تصل الشرطة للتحفظ على فيلا الثرى، وتخرج نوارة للمواجهه، فيشك الضابط فيما تحمله من متعلقاتها، يخضعها للتفتيش، ويكتشف المبلغ الذى تحمله، يتهمها بالسرقة، ويسوقونها فى سيارة الترحيلات، لتصبح البريئة متهمة، بينما الذين سرقوا البلد وأثروا هربوا، ليدفع الفقراء الثمن قبل الثورة وبعدها، ورغم النهاية المحبطة يتعالى تصفيق الجمهور إلى نهاية واقعية وصادقة تتفق تماما مع مجريات الأحداث وشواهدها، فكيف يمكن تصور نهاية وردية فى واقع ظالم وشديد الاحباط، وقد جاء الفيلم يفيض صدقا وشجنا وهو يتعرض لشخصيات مهزومة لكنها تقاوم بكل ثقة وتتطلع الى كل بارقة أمل حتى لو كان كاذبا.

تساؤلات ومفاجأة

(النهاية التى بدت مفتوحة أثارت كثيرا من التساؤلات، هناك من رأى أنها تحتمل جزءا ثانيا، لنعرف مصير هذه الشخصيات وهل تصبح انتصارات وهزائم الشخصيات مؤقتة، فتنقلب الآيةُ وترد المظالم والحقوق ويعاد تصحيح الأوضاع).

المفاجآة كشفت عنها المخرجة المبدعة هالة خليل، وكان سرا لم يعرفه حتى فريق الفيلم، لكنها باحت لي به، مؤكدة أن «نوارة» هو الفيلم الأول من ثلاثيتها عن الثورة، وأن هناك فيلمين آخرين ترصد فيهما سنوات الثورة بكل ما أحدثته من زلزال ما ترتب عليها، ووضعت هالة خطة مدتها عشر سنوات للخروج بهذه الثلاثية، الفكرة جاءتها حينما وجدت نفسها مشحونة بالثورة ووجدت فيها منعطفات كثيرة، هناك تفاصيل عديدة لم تكشف، ووقائع لا تزال ملتبسة، وكما تقول: حلم نوارة هو حلمنا كلنا، لقد رفعتنا الثورة الى سابع سما، ثم قذفت بنا الى سابع أرض، وكان من الصعب جدا والمبكر أيضا أن أقدم فيلما يعبر عنها، وكان الحل فى ثلاثية.

نواره 7

كانت هالة خليل من أوائل الذين ذهبوا الى ميدان التحرير مع اندلاع الثورة المصرية، وكان هاجسها الأول البحث عن صيغة جديدة تعيد التوازن المفقود لتحقيق العدالة الاجتماعية، وظل هذا الهاجس يطاردها وهى تتابع أحوال وتقلبات الثورة، وحين شرعت فى كتابة ثالث أفلامها «نوارة» قفز هذا الهاجس ليحتل الصدارة فى عقلها، لقد تمنت أن تحقق الثورة العدالة التى حلمت بها.

فيلم «نوارة» هو الأول فى ثلاثية هالة خليل، أما الفيلم الثانى فسوف تتعرض فيه لفترة حكم الأخوان بكل ماألقته من ظلال كئيبة وسعى حثيث لتغيير هوية شعب ومتاجرة بالدين حتى قامت ثورة 30 يونية لتطيح بهم، وفى فيلمها الثالث ستتعرض لما بعد 30 يونية وكان قرارها بأن تقدمها على مدى عشر سنوات غير متتابعة، ففيلمها القادم لن يكون عن الثورة.

ولم تقع المخرجة تحت تأثير تجربة سينمائية محددة قادتها الى فكرة الثلاثية وهى فكرة أدبية بالدرجة الأولى، لكن ماحسم قرارها هو تعدد الرؤى للحدث الثورى والامتداد الزمنى الذى فرضته الثورة، فهى لا تريد أن تقع فى حكى خطابى لا سينمائى، والفيلم الثانى الذى قطعت شوطا فى كتابته ويتناول حقبة الأخوان والصراع على السلطة لن تمتد شخصيات فيلمها الأول اليه، بل سيكون عملا منفصلا، فيلما قائما بذاته، وبشخوصه وأحداثه، ويبقى مصير نوارة معلقا والنهاية مفتوحة.

لوحة فنّية

 (أهم ما يميز فيلم نوارة ماقدمه من صورة بانورامية للحارة الشعبية وما تعانيه البطلة وهي تحمل في يديها عبوتين من المياه تحاول جاهدة حملهما بذراعيها الصغيرتين الممددتين من جسد نحيف).

بعد 14 عامًا مضت على فيلم «أحلى الأوقات»، يمكن اعتبار «نوارة» دور العمر لمنة شلبي، بأدائها البسيط غير المفتعل، فقد صنعت منها المخرجة هالة خليل لوحة فنّية شديدة الإتقان والجمال، واستحقّت منة شلبي الإشادة بهذا الأداء المتميز، واقتنصت جائزة أفضل تمثيل للمرة الثانية من مهرجان تطوان بالمغرب، بخلاف تكريم مهرجان الأقصر للسينما الافريقية لها عند عرض الفيلم في حفل افتتاح دورته الأخيرة، فقد أثبتت منة شلبي بتأديتها لدور نوارة أنها ممثلة من طراز رفيع، حيث وجدنا أنفسنا معها وهي تحلم، وتكافح وتتشبث بالأمل ومعها أيضا وهي تضحك وتهوي وتتعرض لمرارة الهزيمة وألم الانكسار، ومن المؤكد في أي مهرجان يحط الفيلم رحاله سيحظى بإهتمام النقاد وستقتنص منة شلبي جائزة.

?????????????????????????????????????????????????????????

واقعنا السينمائي

(صار من السهل الآن اعتبار أي فيلم مهما كانت تفاهته ناجحا مادام قد حقق الملايين، بينما هناك أفلام لها قيمة كبيرة فاشلة، لأنها لم تصمد ولم تحقق الإيرادات المطلوبة).

للأسف عائدات شباك تذاكر فيلم «نوارة» حتى الآن لم تتجاوز المليون و600 ألف جنيه خلال ثلاثة أسابيع، ورغم أن مخرجته لا تنشغل بالإيرادات بقدر لهفتها لكى يصل الفيلم للناس الذين صنعته من أجلهم، وبقدر رغبتها فى أنصاف منتجه الذى يخوض تجربة الإنتاج لأول مرة، فى إطار الدفع للاهتمام بهذه السينما الجادة والجيدة، خاصة وأن الفيلم رفضته أغلب شركات الانتاج، وتحمس المنتج صفى الدين محمود له، ومن فرط حماسه لنوارة قرر أن يشجع الجمهور بطرح تذاكر مخفضة للطلبة فى بعض الحفلات، ورصدت عيون المخرجة المؤلفة رد فعل الجمهور فى كل مكان، تدخل الى الصالة المظلمة تجلس لتراقب كيف يستقبلون الفيلم سواء في مصر، أو فى المغرب حيث عرض مرتين هناك، وفى الأولى امتلأت القاعة بالجمهور المغربى، وفسرت ذلك بأن المغاربة يعشقون السينما المصرية ويقبلون على كل أفلامها، وفى العرض الثانى فوجئت بالبعض يعودون لمشاهدته للمرة الثانية، وهناك من جاءوا من مدن بعيدة بعد أن سمعوا عنه، قالوا لها «أنت تكلمت عن المسكوت عنه فى المغرب»، وهى أدركت أنها قدمت فيلما موجعا بحق، وشاهدت دموع الكثيرين وهم يبكون بحرقة خلال مشاهدتهم.

أخيرا وليس آخرا، هذا هو الواقع السينمائي الحالي يقودنا «بدون بوصلة» إلي المضي في اتجاه واحد لم يفرز شيئا يذكر خلال سنوات طويلة، فقط يعتمد على الإيراد العالي بعيدا عن الموضوعات الجيدة والسينما الجادة التي أطلقوا عليها أفلام المهرجانات ليحجبوا عنها الجمهور، فأي عالمية نتشدق بها وأي وجود نبحث عنه في ظل الأوضاع المقلوبة؟، لاشك أن كل تلك المؤشرات تحتاج إلي تحرك الجميع بلا استثناء لإنقاذ السينما المصرية من أسوأ مراحلها، انتهى ما أريد وستبقى التساؤلات في انتظار يد تمتد ببصيص نور للخروج من النفق الحالك الظلام. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى