أفلام «جان لوك غودار».. سينما مضادّة للسائد
باريس ـ «سينماتوغراف»
لم يكن جان لوك غودار الذي رحل اليوم الثلاثاء، قد بلغ الثلاثين من عمره عندما خرج فيلمه الأوّل، “منقطع النفَس”، إلى صالات السينما في فرنسا، عام 1960. مُنع عرض الفيلم لمَن هم دون الثامنة عشرة، باعتبار أن تصرّفات بطله الطائش، ميشيل بواكار (جان بول بيلموندو)، الذي يبدأ الشريط بسرقة حافلة وقتْل شرطيّ، قد تترك أثراً سلبياً على المراهقين من مشاهديه.
لكنّ المنع لن يحول دون نجاح الفيلم في الصالات، حيث حصد أكثر من مليونَيْ مشاهدة في فرنسا، كما حظي بإشادة عدد من أبرز نقّاد الفن السابع في ذلك الوقت، ليتحوّل غودار، ومعه بيلموندو، إلى شخصيتين تلاحقهما الأضواء وطلبات الصحافيين لإجراء المقابلات. أضواءٌ سترافقهما طيلة مسيرتهما، وكأن “منقطع الأنفاس” ولادة مشتركة لهما، رغم أن كلّاً منهما كان قد وضع أعمالاً قبله: غودار عبر فيلمه المشترك مع فرنسوا تروفو “تاريخٌ للماء” (1958)، وبيلموندو عبر العديد من الأعمال التي أدى فيه البطولة أو أدواراً رئيسية منذ مطلع الخمسينيات.
رحَل غودار (1930 ــ 2022) في منزله ببلدة رول السويسرية، تاركاً وراءه نحو سبعين فيلماً، بين إخراج فرديّ أو مشترك، وضعها خلال ستّة عقود من العمل، كثيرٌ منها يُعَدّ اليوم من كلاسيكيات السينما وتُحفها، مثل “أن تعيشي حياتك” (1962)، و”الازدراء” (1963)، و”بييرو المجنون” (1965)، و”أنقذْ ما استطعت إنقاذه: الحياة” (1980).
ولا يختلف نقّاد السينما ومؤرّخوها على استثنائية تجربة المخرج الفرنسي ــ السويسري، إن كان في نصوصه (وهو الذي كتب أغلب سيناريوهات أفلامه أو شارك في كتابتها) التي أخرجت الحبكة السينمائية من سذاجتها شكلاً ومضموناً، أو في الجرأة التي ميّزت إخراجها ومونتاجه، أو حتى في مواضيعه، التي قد تبدو، للوهلة الأولى،مفرطة في عاديتها، وغير قادرة على الإمساك بالمشاهدين لساعتين كاملتين، كما قد تفعل أفلام الإثارة.
ورغم أن تيّار “الموجة الجديدة” في السينما قد ظهر في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، لدى عدد من المخرجين الفرنسيين الذين أنجزوا أفلاماً قبل غودار، إلّا أن صاحب “شغف” (1982) هو من ثبّت صورة هذا التيار في أذهان المتابعين والنقّاد، ليتحوّل مع الوقت إلى أبرز رموزه وأكثرهم شهرة وإثارة للجدل في أوروبا وخارجها، إلى جانب فرنسوا تروفو، وكلود شابرول، وأنييس فيردا، وإريك رومير، وجاك ريفيت، وجاك دمي، وألان رينيه.
ومن أبرز صفات هذا التيار، التي ساعدت أفلام غودار في التعبير عنها وإظهارها للجمهور الواسع، تلك الرغبة في الخروج من السينما التقليدية، في الشكل كما في المضمون، والذهاب نحو أعمال لا تلهث وراء إنتاجات ضخمة، ومعدّات من الطراز الأول، ولا وراء أبطال وسيمين وخارقين، بل تعمل بأدوات بسيطة نسبياً، وتنشغل بأشخاص عاديين، ثائرين في الغالب على التقاليد، ومشغولين بالمجتمع والآخر، مع تركيز على الأسئلة الوجودية والأساسية في الحياة.
كلّ هذ العناصر جاءت، لدى غودار، ضمن تجريب بصريّ مستمرّ، إن كان في حركة الكاميرا وطريقة تصوير الشخصيات، أو حتى المونتاج، الذي يغيّر من طبيعته بحسب الحالة: فقد نكون أمام مشهد طويل، حدّ الملل، عندما نعيش ازدحاماً مرورياً ــ وهو خيارٌ يجعلنا نعيش ملل الشخصية وعدم صبرها خلال الازدحام ــ، أو قد نلهث وراء تقطيعات المونتاج المتسارعة وهي تُلاحق حواراً متصاعداً أو تقلّباً في مزاج إحدى الشخصيات.
وضع المخرج الراحل ما يُعادل فيلماً واحداً خلال كلّ عام من مسيرته، وصولاً إلى عام 2018 الذي شهد خروج فيلمه الأخير “كتاب الصورة” إلى الصالات، وتوّج فيه مسيرة من التجريب والبحث عن وسائل تعبيرية مختلفة (الفيلم أشبه بمقالة فكرية بصرية من كونه فيلماً سردياً). وخلال هذا المشوار، ظلّ غودار متمرداُ على السائد، ورافضاً هيمنة السينما التجارية.