«ألعاب الأربعاء النارية» .. مراوغات ذكية وقوة سردية لأصغر فرهادي
ـ حميد عقبي
ألعاب الأربعاء النارية، Wednesday Fireworks (بالفارسية: چهارشنبه آتش بازی) هو الفيلم الروائي الثالث للإيراني أصغر فرهادي عام 2006، ويبدو أنه لم ينل حظه من الدراسة والنقد رغم أنه كان الانطلاقة المضيئة للمخرج الذي توج بالأوسكار وفازت معظم أفلامه بجوائز دولية كثيرة مع ترحيب جمهور الفن السابع لها حول العالم.
ملخص حكاية هذا الفيلم، تدور أحداثه يوم الأربعاء الأخير قبل بدء الانقلاب الشمسي الربيعي في رأس السنة الفارسية الجديدة، حيث يُطلق الناس الكثير من الألعاب النارية متبعين عادات وتقاليد زرادشتية قديمة. الفتاة الشابة روحي (ترانة عليدووستي)، التي تقضي يومها الأول في وظيفة جديدة لخدمة بأحد البيوت، تجد نفسها خلال هذا اليوم المميز وسط نوع مختلف من الألعاب النارية الخطرة التي تنعكس على نزاعات عائلية حادة بين الزوجة والزوج (هدية طهراني، حميد فرخنيشاد).
تفاصيل هذا العمل، تجعلنا في حالة قلق دائم حيث لا يتوقف الضجيج وأصوات طقطقة الألعاب النارية، وطلقات البنادق في الهواء وحتى الكثير من هوس الشوارع ومشاحنات البيوت، وكأن الفيلم يصور مدينة تعيش حرباً مستعرة أو حرب شوارع، تكتشف «روحي» خلال خدمتها لعدة ساعات مناخات محترقة تعيشها عائلة برجوازية، فالزوجة تشتبه أن زوجها يخونها مع جارتها التي جعلت من شقتها صالون تجميل، هذه الزوجة تتصرف وكأنها مصابة بجنون الشك والغيرة وربما العظمة، وتضطر «روحي» للكذب للدفاع عن الزوج وحماية طفلهما.
منذ بداياته، يحفر أصغر فرهادي في العلاقات الزوجية ويستكشف ما قد تتعرض له من هزات عنيفة، وقد يشعر البعض أن هذا الفيلم أكثر أفلامه فوضوية بعض الشيء حيث يسير في اتجاهات متعددة ومتشعبة، وربما يتوقع البعض أيضاً أن الأحداث تدور حول الشابة المخطوبة روحي والتي ستزف لعريسها بعد أيام قليلة، ولكن فرهادي يزج بهذه الفتاة التي تبدو فرحة بقرب زفافها، في فوضى مقلقة لتتحول كشاهد عيان على الحياة الزوجية التي تتشوق لدخولها.
لا يمكننا الوثوق صراحة بحسن نية الشخصيات في الفيلم والتعلق بها، فتلك الجارة أي المرأة المستقلة نكاد نتعاطف معها بسبب ما تتعرض له من مضايقات لأنها مطلقة ومستقلة ولكننا نستكشف أنها فعلاً على علاقة بهذا الرجل المتزوج، صحيح أنها تخبره في آخر لقاء بضرورة أن تنتهي هذه العلاقة، لأنها قائمة فقط على اللذة وليس المشاعر، ولكن يستمر تشبث الرجل بها رغم أنه سيغادر مع زوجته وابنه لقضاء عطلة عائلية في دبي، كذلك كدنا نصدق الرجل وهو يحلف لزوجته بأنه طاهر ولا يخونها، ربما هو يفلسف لنفسه هذه العلاقة بأنها لذة لا ضرر منها.
سيناريو «عيد النار» حسب ترجمة العنوان بالفرنسية، يتميز بالقوة السردية وبعض المرواغات الذكية، حيث لا يخبرنا بنوايا الشخصيات أو يعريها منذ البداية، وربما استفاد فرهادي منه ليجيد هذه الألعاب أكثر في فيلمه «عن إيلي» وبعد ذلك في فيلم «انفصال»، و يتشارك هذا الأخير بموضوعات مشابة مع «ألعاب الأربعاء النارية» حيث تم تعيين الفتاة للاعتناء بشقة الزوجين وحتى الطفل، وثم فهو يغرقها في قلب الأزمات الزوجية، ولا يتردد المخرج في التلاعب بالمشاهد ليقوده إلى مسارات خاطئة ويجعله يكتشف الحقائق في النهاية. ولكن أيضاً نلاحظ الاهتمام وطرح الأسئلة عن مكانة المرأة في هذا المجتمع الذي تعصف به متغيرات أخلاقية واجتماعية، ويحاول فرهادي أن يدافع عن المرأة ويعطيها أحقية التعبير عن ذاتها دون محاكمتها وفق المقياس الديني أو الشرعي المعمول به في النظام الإيراني.
أصغر فرهادي، كمخرج شجاع نجده هنا يرفع الستار عن المجتمع الإيراني، ويتناول قضية الزنا وهي من القضايا الشائكة بالغة الخطورة في المجتمعات الشرقية بأكملها. ولكنه يذهب في الفيلم إلى أبعد من ذلك ويشعل الكثير من الأسئلة والفضائح القاتلة، وبساطة القصة لا تعيب الفيلم خصوصاً في حال وجود العمق وتوخي الوقوع بالمباشرة والخطابة الفارغة، ونجد في الكثير من اللقطات ثمة شيء يمكننا أن نستشفه وراء السطور وتتفجر الدلالات دون بهرجه، فقد يشاهده البعض ويتسلى أو يُركز على مسار الحكاية دون أن يتذوق ما تحملة اللقطات من معاني قوية وهي أهم من الحكاية.
فرهادي لا يسعى إلى التأثيرات العاطفية في نفس المشاهد ولا يصنع مونودراما بكائية ولا صرخات ولا حتى حوارات تتميز بالشعرية والجزالة، ولكن البلاغة التي يتقنها والشعرية التي يتففن فيها خلق عالمين أي عالم ظاهري يمكن أن يراه الجميع وقد لا يفهمه الكل، وعالم سفلي لا يدركه إلا المتذوق والواعي لما تعنيه السينما، فهي هنا تحاور الذائقة والفكر والنفس لذلك لا ينبغي أن نتفاجأ برؤية ألسنة اللهب في كل مكان وسماع المفرقعات النارية وطلقات الرصاص طوال الفيلم، لأننا في فيلم أصغر فرهادي الذي يمتلك مقياساً حرارياً لما يحدث من حمى غضب في هذا المجتمع، والتي يؤججها أغلب الشباب الذين يعبثون بالنار، وكأن هذا العبث يمنحهم ولو مسكناً مؤقتاً لليلة أو للحظات، وهم هنا يهربون من واقعهم ومصير مستقبلهم المجهول.
يعتمد أصغر فرهادي على مجموعة من التفاصيل الصغيرة والتي يطلقها بسلاسة وكأن لا شيء خطير سيحدث ويرتب ثم يطلق مؤامراته المتتالية، ويبقي المتفرج في حالة من عدم التصديق بين مشاعر الشخصيات المرتبكة، داخل عمل يبتعد عن الصور النمطية المعتادة عن إيران وحياة الإيرانيين. نحن هنا بمجتمع إنساني وليس جمهورية فاضلة ونرى الأزواج يختلفون ويتعاركون ويضرب بعضهم البعض ثم قد يتصالحون وقد توبِّخ النساء أزواجهن، وكذلك العكس صحيح، أي أن الحياة معقدة مثل أي مكان آخر في الكون، وهنا أيضاً يعيش بشر يخونون ويكذبون وينافقون وبعضهم قد يعرف أخطاءه ويحاول اصلاحها أو حتى الهروب منها وبعضهم يحاول أن يجد مبرراً .
بالتأكيد لسنا مع فيلم خارق، ولا أعتقد أن مهمة الناقد صرف التوصيفات المجانية والتصفيق المبالغ فيه، ولكن من المؤكد أن فرهادي طور مواهبه الإبداعية السينمائية مع كل تجربة يخوضها، وتظل قضية تناول الزواج ومزالقه وتعقيداته من المواضيع المهمة التي ظل يشتغل عليها، وهو يخرج بنا من البيت إلى الشارع ومن نظام الأسرة وما تتعرض له من هزات إلى المجتمع وما يحيق به من خلل وزلازل، روحي مجرد عاملة نظافة وتكون شاهد عيان وتنخدع كما ينخدع المشاهد وتكتشف الحقيقة متأخرة جداً.
في المشهد الأول تكون الفتاة روحي مع خطيبها، تركب خلفه على الدراجة النارية، يسقطان بسبب خلل بالدراجة ويكون بسبب دخول جزء من الشادر بسلسلة الدراجة ولكنهما يحولان السقوط إلى مزحة ولعبة وضحك ولو لبعض اللحظات بمكان خالي ومعزول عن الناس، توجد نوع من البراءة في عين كل واحد منهما وتصرفات طفولية، نجد أيضاً أن الخياطة تُحضر فستان فرح روحي بكيس الزبالة وتجرب الفتاة الفستان في حمام بائس بمكتب العمل والمرآة بائسة جداً، وكأن المخرج يرمي بشذرات تحذيرية إلى الفتاة فهي مع خطيبها بينهما الحب الطفولي وهاهو الفستان الأبيض يأتي في كيس زبالة ولا تجد مكان لتجريبه إلا بهذا الحمام المزري، دلالات يلقيها فرهادي بعفوية ولكن مع تقدم الأحداث نفهم مقصدها.
يتفنن فرهادي باستغلال الأشياء الصغيرة والأفعال البسيطة غلق أو فتح الأبواب تُحدث ضجيجاً هنا وهناك، ونزول وصعود وركض وأسئلة صغيرة، ومن كل هذا يبني دراما وترجيديا ومأساة عميقة لمعاناة الفرد والمجتمع.
يستحق الفيلم أكثر من مشاهدة وتأمل في لغته السينمائية، لأن فرهادي يختار ممثليه وممثلاته ببراعة وهذا من أهم عوامل نجاح تجاربه، فهو صاحب مذاق خاص ومنهجيه في تفكيك الحقائق الموضوعية من خلال وجهات نظر ذاتية، وقد نختلف مع بعض وجهات نظر شخصياته وحتى رؤية كاميرته، لكن بدون شك اختلفت سينماه من عمل إلى آخر، لأنه استفاد كثيراً من الكتابات النقدية عنها بمختلف اللغات خصوصاً تجاربه الأولى.