كتاب الموقع

«أنا سام».. الطفولة هي الملجأ الآمن ضد بطش الزمن

قلت يوما لتلاميذي: «إننا في حاجة ماسة إلى السينما كحاجتنا إلى الماء والهواء والطعام كي نبقى على قيد الحياة. السينما هي الحياة، فانظروا إلى حجم البؤس الذي يحيق بنا بدونها في هذه المدينة».

كانت مجموعة من عناوين الأفلام تمر أمام ناظري. كانت وجوه أبطالها وممثليها تبتسم لي وتلوح لي بأكفها. لكن، كان هناك عنوان ووجه واسم متفرد يقتحم علي عالمي في تلك اللحظة. كان قد نجح في استدرار دموعي مرارا رغما عني، ورغم محاولاتي المستميتة لتقمص دور الرجل القوي الذي لا يضعف بالبكاء، ورغم أني شاهدت أفلاما لا تحصى.

فيلم «أنا سام» الذي قام بدور البطولة فيه الممثل القدير والعملاق «شون بين» جعلني أقف على حقيقة الفجيعة التي تطحننا بين تلافيفها، وجعلني أندم كثيرا على تمسكي بتلك الرغبة التي تملكتني وتملكت غيري – يقينا- ساعة كنت طفلا أنظر إلى العالم من حولي، وإلى الأشياء، دهشا وحائرا، في أن أكبر بسرعة وأتجاوز مرحلة الدهشة والحيرة تلك.

«سام» شخص معاق لا يبصر قلبه غير اللون الأبيض، توقف نمو ذكائه عند سن السابعة. يزاول عمله كنادل يلبي طلبات الناس بابتسامة طفولية، ويوزع كلماته المرحبة، ويحلم بأن يصبح مسؤولا عن إعداد القهوة. طموح بسيط يشبه طموح طفل في الحصول على لعبة تسيطر على مناماته. «سيحصل» دون إرادة منه على ابنة جراء علاقة عابرة مع امرأة كانت تبحث ذات ليلة باردة عن بيت يؤويها. تحمل منه دون أن يقدم الفيلم تفاصيل ذلك، وتترك له الطفلة بعد ولادتها و«تذوب» في الزحام بعدما أمرته بأن يوقف حافلة. هربت وتركته يتخبط في مكانه كما ستتركه الحافلة ولم تنتظره. طفل يعاني في تربية طفلة، كما كنا نعاني ونحن أطفال نعاين حجم الهروب الذي تمارسه الأشياء من حولنا. كان كل شيء «يعطينا ظهره» ويهرب منا. حتى الأحلام كانت تهرب بل تتفتت وهي تصطدم بجدران الواقع الصلبة.

كان «سام» يناضل ضد الهروب الأكبر للأحلام عندما صارت الطفلة حلمه الأكبر. تكبر ويصل عمرها السادسة وتدخل المدرسة. وعندما تصل السن السابعة يتم حرمانه منها بذريعة أنها أصبحت في مرحلة تماثل مرحلة ذكائه. مجرد طفل لا يمكنه العناية بطفلة في مثل سنه ذهنيا. يجد الطفلان نفسيهما في خضم معركة لانتزاع حقهما في العيش معا. طفلان يكبر أحدهما بشكل طبيعي (الطفلة لوسي) فيما الآخر (سام) لا يكبر، ولا تتطور شخصيته في الفيلم. بل إن الابنة ستتجاوز أباها ذكاء وتعلما.

كنت أردد طيلة الفيلم مع سام: «أنا سام». أنا سام أيها العالم ومن حقي أن أحيا طفلا كما أريد. لا أريد أن أكبر ما دمت أحمل أحلاما صغيرة جدا لا تضر أحدا. أرفض أن أكبر كما رفض «سام» وهو يتشبث بطفلته وتتشبث به. يتشبث بأصدقائه من ذوي الاحتياجات الخاصة. يتشبث بحلمه في أن يرتقي ليصبح مسؤولا عن إعداد القهوة في المقهى الذي يشتغل فيه. أرفض لغط «الكبار» وهم يتآمرون للفتك بالحياة والطفولة كما رفضه «سام» وهو يعلن تذمره مما يروج داخل المحكمة أثناء مناقشة قضيته، وهو يفغر فاه ببلاهة أمام الكلام الكبير الذي يسمعه من «الكبار الأوغاد» الذين يريدون فصل «لوسي» عنه بقوة القانون والمنطق. أرفض ذلك أيها العالم لأن الطفل الذي بداخلي لا يريد شيئا من عالمكم غير موطئ حب وبياض. خذوا كل شيء واتركوا طفولتي ترتع في الجزء العشبي الصغير على هامش عالمكم الملوث.

استوحى «سام» اسم طفلته «لوسي» من إحدى أغاني «البيتلز» التي يحفظها كما يحفظ مع أصدقائه عناوين وأحداث الأفلام وأسماء أبطالها. طفل يتعلق بالسينما والموسيقى كطوقي نجاة في عالم يتخبط في البشاعة. جعلني أبكي وأنا أعاين حجم الدمار الذي يكتنفنا دون موسيقى ولا سينما.

علمني «سام» أن الأطفال يستطيعون أن يكونوا آباء حقيقيين. الكبار لا ينجحون في ذلك لأنهم يغادرون طفولتهم فتهترأ مشاعرهم ويصبحون آلات صماء. أما هو فاستمر طفلا ونجح في جعل ابنته سعيدة مقبلة على الحياة وتعرف الحب الحقيقي. علمني أن الطفولة هي الملجأ الآمن ضد بطش العواصف والزمن. علمني أن المثابرة تسعف في تحقيق الطموحات عندما أصبح مسؤولا عن إعداد القهوة كما كان يشتهي.

بكيت لأنني لم أعد ذلك الطفل الذي يجيد النضال من أجل حقه في اللعب وفي الحلم مهما بلغ في صغره وفي بساطته. «سام» ناضل بكل عنفوان طفولته كي يعيد لوسي إلى أحضانه. ناضل كي يبقى طفلا، فانتصر طفلا واستمر طفلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى