«إيدا» التلاقي بين كآبة بيرجمان وهدوء كوريسماكى
سينما خالصة وشهادة ميلاد حقيقية لصانعه “باول باولكوفسكى”
«سينماتوغراف» ـ أمجد جمال
– شَعرِها خَلاّب ولكنها تُخَبئه.
– مَن هى؟
– “إيدا”.
هكذا دار الحوار بين الخالة “فاندا” وأحد الغرباء الذين اعتادت أن تمررهم بفراشها فى ليالى النشوة العابرة التى تنتقم فيها من بؤس القدر وغياب عدالة الآلهة بإستخلاص أكبر قدر من المُتع الحياتية. كانت فى يوم من الأيام مؤمنة بقضية ما وتشارك فى المقاومة ضد الغزو النازى المخبول لبلدها ودفاعاً عن بنى نحلتها من اليهود. كانت تؤمن بالإله والوطن وأصبحت لا تؤمن بشىء بعد أن قُتل طفلها أثناء فوضى الحرب، قُتل لأنه أسمر البشرة ومختون العضو الذكرى (علامات يهودية)، هكذا أخبرها قاتله معتقداً أنه قد حماه من مصير عذاب المحارق الجماعية.
القتل على الهوية، هذا الفعل العبثى المجنون مازال يطارد خيال وفكر الخالة بعد مرور كل تلك السنين، فهى تجيب عشيقها العابر أعلاه بأنها تتحدث عن “إيدا” ولم تقل “آنّا” الذى هو اسم إبنة شقيقتها الرسمى بعد ضمها للمسيحية وهى رضيعة وتأهيلها لتكون راهبة. وكأن إجابة الخالة بمسمى الفتاة اليهودى “إيدا” كانت بمثابة صرخة يحتج فيها عقلها الباطن على سخرية وعبث فكرة الهوية وعواقبها التى ذاقت الخالة مرارها، وهى نفس السخرية التى يوحى بها إختيار عنوان الفيلم .. “إيدا” .. اليهودية التى تنشأ كراهبة كاثوليكية!
“إيدا” من الأعمال الفنية التى تتطرق بدرجة ما لفكرة أن هوية الإنسان هى إنسانيته، وأن باقى العوامل هى صدف بيولوجية وجغرافية وإجتماعية فرضت عليه، ولكنه يحاسب عنها، يُحاسب على ما لم يختره، ويتعصّب لما لا ينتمى إليه حقاً، إنها قمة الفوضى وأساس المهزلة الحضارية.
ولكن ما يتميّز به هذا العمل فى طرحه لتلك الفكرة الفرعية عن كل ما تم تقديمه سابقاً ليس فقط براعة المفارقة التى يقوم عليها بناء القصة، بل أيضاً تسلسل السرد الذى يجعلنا نواقع الحالة بعيون “إيدا”، أى بمنظور خوفها وسذاجتها وتشتتها وحيرتها فى الرحلة التى تخوضها لمعرفة الحقيقة وسط عالم مادى حداثى مُبهر ومُرعب لم تألفه المسكينة ولكنها فى غاية الشوق إلى ذلك.
فحين تخبرها مسئولة الدير بأنهم لطالما راسلوا خالتها عبر سنين نشأتها ولكن الخالة لم ترد، تسارع إيدا الى إختلاق العذر للخالة “لعل الرسائل لم تصلها”، هى لا تسطيع الصبر حتى الفكاك من ذلك السجن المقدس الذى سلب عمرها عقدين من السنين، كما أنها فى غاية شوقها لمعرفة الحقيقة.
والحقيقة فى هذا الفيلم لم تكن فقط أصول وتاريخ عائلة “إيدا”، بل هى حقيقة الوجود نفسه، وتاريخ كل شىء، الحقيقة هنا هى المعنى من الحياة نفسها، وعن إذا ما كان الأمر يستحق كل هذا العناء. إن شوق الأخيرة لمعرفة الحقيقة وإن دلّ على شىء فهو يدل على براءتها، تظن الحقيقة مصدراً للراحة وليست الخطوة الأولى فى رحلة التعاسة والمعاناة، تظن الحقيقة ببساطة وبدائية ما تم تلقينه إياها فى ذلك الدير الذى نشأت به ولا تعرف في الحياة غيره.
ولن نستطيع الاستطراد فى هذا الحديث دون الإشارة للشكل الفيلمى واللغة البصرية التى يتحدث بها الفيلم، والتى كان أبرز مفرداتها هو موقع الإنسان داخل الكادر، فالشخصيات فى الغالب لا تتصدر الشاشة أو تتوسطها بالشكل التقليدى، بل تتخذ زوايا ومنحنيات فى طلتها، سواء إلى جانب النصف الأيسر أو النصف الأيمن أو الربع السفلى من الكادر.
ويتحقق ما سبق بوضوح فى لقطات مثل التى تجمع إيدا وعازف الساكسفون بإحدى شرفات الفندق، حيث لا تظهر الشاشة منهما شيئا سوى فى الربع السفلى منها. ويتحقق أيضاً فى المشهد الذى تسند إيدا ظهرها فيه لأحد الأعمدة داخل الحانة وهى تتأمل تدريبات الفرقة الموسيقية فى الجزء الأيمن من الشاشة، وأيضاً بمشهد قبل النهاية تحبو فيها الراهبات الأربع داخل الدير صانعات بأجسادهن علامات الصليب غير آخذين من الكادر سوى ربعه الأيمن.
تلك اللقطات وغيرها أسهمت فى إيصال ايحاء مفاده أن الإنسان ليس مركزاً للكون، لتتصادم تلك الحقيقة العلمية مع موروثات البطلة الدينية ثم تتناغم مع معاناة وعدم جدوى رحلتها فى معرفة الحقيقة، إنه التعبير البصرى السينمائى فى أكثر حالاته نضجاً، ولكنه لم يكن التعبير الأوحد والأكثر وضوحاً، بل تجلّى الأمر وتأكّد بمشهد آخر وهو واحد من أكثر المشاهد قوةً وصدمةً وجمالاً فى تاريخ السينما، إنه مشهد إنتحار الخالة ملقية بجسدها من شرفة منزلها.
لنسترجع هذا المشهد من بدايته إذاً، فالخالة تقوم بفتح نوافذ الشرفة على مصراعيها، هذا يحدث على أنغام السيمفونية رقم 41 لموزارت المنبعثة من مسجل داخل المنزل والتى تُعد أطول سيمفونياته من حيث مدتها الزمنية، ثم تخرج الخالة من يسار الكادر المثبت تجاه النافذة لتحضر شيئاً وتختفى لثوانى، لكن الكادر والموسيقى يبقيان، ثم تعود الخالة إلى الكادر من حيث خرجت لتخرج منه مرة أخرى ولكن هذه المرة ناحية اليمين، ولا تتوقف الموسيقى أو يتغير الكادر بخروجها الثانى، ثم تعود الخالة مرة ثالثة للكادر متجهة مباشرة نحو الشرفة ملقية بجسدها للعدم، وتستمر الموسيقى لعدة ثوانى ويبقى الكادر بدونها، فموتها لم يؤثر فى شىء على الإطلاق.
الدلالة البصرية والصوتية لهذا المشهد تؤكد المعنى الذى حاول أسلوب التصوير إيصاله بأن الإنسان ليس مركزاً للكون، وأنه مجرد كائن هامشى فى واقع محايد فسيح لا يهتم لتوافهه، وأن الأول لا يملك سوى المضى فى رحلات العبث وتوارثها، وهذا تحديداً ما حدث فى اللقطة التالية عندما تعود إيدا لمنزل الخالة بعد موتها وأول ما تقوم به هو تشغيل جهاز الجرامافون لإستكمال ما تبقى من مقطوعة موزارت، أو بالأحرى إستكمال الرحلة الوعرة، خلفاً للخالة.
تتغير إيدا، تجذبها شهوات الحياة المادية، فتخلع ملابس الرهبنة وتحتسى الخمر وتضاجع عازف الساكسفون فى مشهد مربك، ولكن قبل تناول هذا المشهد يجب الوقوف عند أحد مشاهد هذا الجزء المتحرر من الفيلم، وأقصد هنا المشهد الذى تلتحم فيه إيدا بستارة النافذة وتدور بداخلها حول نفسها حتى تسقط، إنه واحد من أبرع المشاهد فى جماليته وتعبيره البصرى عن الحالة النفسية التى تمر بها البطلة.
لقد سبق مشهد المضاجعة مشهد راقص لا يوصف سوى بأنه خلاب، اعطته الإضاءة المتوسطة دفئا ساحرا وأعطاه جمال وأنوثة إيدا فى نسختها المتحررة جمالا مضاعفا خاصة بتعثر حركاتها الراقصة التى زادت من ملائكية الشخصية، فى لحظة كتلك يستفزك أسلوب الصورة الأبيض والأسود لأنك لا تستطيع أن ترى لون شعر إيدا الذى وصفته الخالة فى مشهد ببداية الفيلم بأنه أحمر مثل لون شعر أمها. لم يكن صناع الفيلم بحاجة للإعلان عن هذا اللون الجامح تحديداً اذا كان فيلمهم لن يعرضه، وكأن الأمر مقصوداً لتكريس مشاعر المعاناة والسوداوية والعدمية لدى المتفرج، فبطلة حمراء الرأس بفيلم أبيض وأسود، ليست مصادفة بالتأكيد.
لم يكن هذا الغرض الوحيد من أسلوب الأبيض والأسود، فنلاحظ أن بلاط الأرضية فى ساحة الرقص أيضاً كان “أبيض وأسود”، وفى نفس المشهد نرى الحائط يحجب الرؤية عن نصف الكادر بالميل، فنرى نصفا أسودا يعيق الصورة ونصفا آخر يعرض رقص إيدا مع الشاب، وكأن الأسود يمثّل خيارا فى الحياة والرقص يمثل خيارا معاكسا أقرب لحياة إيدا الأولى مع الرهبنة، وهو خيار عبثى أو عدمى لأنه يعيقنا عن رؤية الحياة فى المشهد، والسؤال هنا هو هل حقاً يعبر الخيار الأول (الرقص) عن خيار تفاؤلى ضد العبث؟
هذا ما يجيب عنه المشهد التالى للمضاجعة، المضاجعة التى تمت ببرود وعدم ارتياح من قبل إيدا، نلاحظ أيضاً أسلوب الإضاءة الخافت جدا بهذا المشهد وميله للسواد، لكن الأهم هو الحوار الذى دار بين إيدا والشاب عن خططهم فى المستقبل، “سنذهب فى رحلة”، “وماذا بعد؟”، “سنتزوج”، “وماذا بعد؟”، “سننجب أطفالا”، “وماذا بعد؟”، “مثلما يحدث فى الحياة”.
أداء الممثلة الشابة “أجاتا تجبوخوفسكا” فى هذا المشهد كان ممتازا، فتقلبّات جسدها ودرجة صوتها الهادئة الواثقة جاءت مُرعبة ومُحبطة ما يكفى لإعطاء رد فعلها كامل المصداقية فى المشهد التالى، وفضلاً عن أدائها فالتناظر الحوارى نفسه كان مقنعاً ويوضح أن نوع الحياة الآخر هو أيضاً عبث، وإن كان أقل عبثاً من الأول، هى تدرك ذلك لدرجة، فهى أصبحت تضحك على مآدب الغداء الرهبانية، وتغمض عينيها بيأس فى حفل تنصيب إحدى الراهبات الجدد.
حسناً، فإيدا تعرف أن حياتها الأولى أيضاً عبث، ولكنه العبث الذى تعرفه والذى نشأت عليه، العبث الذى يقدم لها إجابة أكثر إغراءً على سؤال “ماذا بعد؟”، أما خيار الحياة الثانية فيستلزم قدرا أكبر من الشجاعة والثقة والقوة التى لا تتحلى بها إيدا ولا تتناسب مع نشأتها المنكسرة. الأمر ليس وعظياً بتاتاً فلقد شاهدت أفلام المخرج السابقة وهى لا تدل أبداً على تديّنه، لكن خيار إيدا النهائى كان فقط واقعياً، ومخلصاً تماماً لدراسة المؤلفين للشخصية.
يحتوى الفيلم على عديد من المشاهد المذهلة التى لن نستطيع تحديد أيها الأفضل، ومشهد النهاية هو أحد تلك المشاهد التى وصل بها المخرج لأعلى مراحل التأثير، متلاعباً بأدواته البصرية والصوتية والإنفعالية بمهارة فائقة، فالكاميرا لم تتحرك طوال الفيلم إلا فى هذا المشهد، والموسيقى لم تصدر من خارج الدراما إلا فى ذلك المشهد، وإيدا لم تبد إنفعالات مؤثرة إلا فى ذلك المشهد.
فتحريك الكاميرا اليدوى (بدون كرين) بعد 75 دقيقة من السكون يعطى المتفرج الشعور النموذجى من التوتر المتناسب مع النقلة القوية لحالة البطلة النفسية فى تلك اللحظة.
كما أن اختيار مقطوعة بيانو ليوهان سباستيان باخ بعنوان I Call to you, Lord Jesus Christ،لم يكن مصادفة، فبجانب تناغمها الشديد مع حالة الحزن والضعف والشفقة والأسى التى غلّفت المناخ العام للمشهد فإن كلماتها الأصلية التى كتبها “يوهان أجريكولا” للنسخة الكورالية تحتوى على كل معانى الضعف وتوسل الهداية التى تعطى الإنسان الأمل المفقود وتنقذه من العذاب النامى.
من ناحية أخرى، يذكرنى هذا المشهد بمشهد النهاية التاريخى لفيلم 400 Blows لفرنسوا تروفو، وفى رأيى أنه الرد عليه، فبعكس الفيلم الأقدم الذى عبّر فيه ركض الفتى على شاطىء البحر عن معانى التحرر والتمرد وخروج الإنسان للعالم، فقد عبّر ركض إيدا فى الفيلم الأحدث عن معانى الإنهزام والضعف ورجوع الإنسان لشرنقته.
قليلة هى الأفلام التى تنجح فى التدليل على أن السينما يمكن أن تكون فناً مستقلاً بذاته وليس مجرد وسيط مساعد لفن الرواية أو القصة.
والفيلم البولندى “إيدا” هو أحدث هذه الأفلام وربما هو الفيلم الأوحد بهذا العام فى جمعه لكل العناصر التى تؤهله لمكانة السينما الخالصة، سواء بثراء وفرادة لغته البصرية أو بدقة تكوين لقطاته أو بجمالية وعذوبة تتابع تلك اللقطات، فضلاً عن القوة والجرأة المفرطة بأطروحاته الفلسفية التى تتناغم مع أسلوب تصويره وإخراجه إلى مدى لا يتكرر كثيراً فى السينما.
إنه نقطة التلاقى بين كآبة بيرجمان الساحرة بِصَمْتِها المزعج من ناحية، وهدوء كوريسماكى المشحون بكادرات يزخرفها الواقع المهمش، إنه بلا أدنى شك كنز هذا العام لعشاق التأمل، ولكارهى الإجابات النموذجية، وهو شهادة ميلاد حقيقية لصانعه “باول باولكوفسكى” تعطيه تأشيرة الدخول لنادى أساطير سينما أولئك الذين تنتهى أحرف إسمهم بـ “سكى” .. الثلاثة أحرف الختامية التى يعرف فقط محبو السينما ومهاويسها دلالتها وبصمتها التاريخية بهذا الفن المُذهل.