الانحراف الجنسى و الاضطراب النفسي في فيلم «آباء وبنات»
«سينماتوغراف» ـ يسرا على
الحياة كائن مغلق على نفسه، ولكنه متشعب في النفس البشرية، فالنفس مرآه تعكس مكنون الحياة وتناقضاتها، نحن لا نعرف عن الحياة والكون شيئا، ولا عن أسرار الروح والنفس ما يليق بمعرفتها معرفة حقة، نسير على فطرتنا واكتشافاتنا المحدودة للكون والروح والجسد لكن فجأة تتغير الحياة علي حين غفلة من أنفسنا، فتعصف بجذورها المتشعبة فينا، تحدث ضجة في ذواتنا وأنفسنا، قد تمر تداعياتها بسلام وقد نسقط في هاوية تلك الحوادث والهزات، وما تحدثه من ثغرات في النفس وخلل في وظائفها النفسية.
هذه الحالة يجسدها فيلم «Fathers & Daughters أو آباء وبنات» وهو من بطولة راسل كرو الـذي يـلـعـب دور الأب «جـاك ديفيس»، وأماندا سيفريد التي تلعب دور الابنة «كاتي»، وكايلي روجرز، التي لا يتجاوز عمرها 10 أعوام، وتتمتع بموهبة تمثيل عالية، وقدرات أدائية متناهية في الروعة، ولعبت دور كاتي بإتقان شديد في مرحلة الطفولة، إلى درجة أن من يشاهدها في الفيلم لا يتمنى أن تغيب هذه الصغيرة بأدائها اللطيف، بالإضافة إلي آرون بول، وديان كروغر.
مدة الفيلم على الشاشة 116 دقيقة من سيناريو براد ديش وإخراج الإيطالي جابريل موكينو الذي وقع اختياره في أغلب أعماله السينمائية الأمريكية، على هذه الأعمال المليئة بالمشاعر المتضاربة والعلاقات الإنسانية، مثل «سبعة جنيهات Seven Pounds» و«البحث عن السعادة Pursuit of Happiness».
ومخلص أحداث «آباء وبنات» انتاج عام 2015، تدور حول معاناة كاتب مشهور من إعاقة ذهنية، ورحلته في تربية طفلته التي تبلغ من العمر خمسة أعوام بمفرده بعد وفاة زوجته، ثم ينتقل زمن الفيلم بعد 30 عاماً، وقد كبرت الطفلة، ويحاول الأب التغلب على الآثار التي ترتبت على نشأتها، وما مرت به في طفولتها، ويرتكز العمل ضمن محاوره على قضية الإنحراف الجنسي الذي يأتي نتيجة من نتائج الإضراب النفسي، أو «العقدة النفسية» وآثار ذلك علي السلوك الإنساني.
خلل نفسي
هل تتوقف الحياة عندما نفقد شخصا عزيزا علينا؟ بالطبع لا، فلو توقفت لانتهت، فهى تسير بنا في اتجاهات معاكسة لرغباتنا وطموحاتنا، والنفس تأبي الرضا بكل ما يحدث حولنا من حتمية قدرية لا مفر منها، عدم الرضا هذا قد يحدث صدمة انفعالية داخل ذواتنا، هذه الشحنات الانفعالية تمر أحيانا بسلام حتي يتيقن العقل ويدرك ما يحدث، وأحيانا أخرى يتوقف العقل والنفس عند نقطة معينة لا يستطيع تخطيها، فتحدث «العقدة النفسية» تلك الصدمة الانفعالية أو الاتجاه اللا شعوري نتيجة خبرات ومشاعر تم اختزالها في العقل الباطن تؤثر في التفكير علي الرغم من محاولة الكبت والنسيان.
في هذا الفيلم نحن أمام حالة من فقدان الوالدين، هذا الفقدان يترك أثرا جسيما في حياة البطلة منذ طفولتها حتي شبابها مما يؤدي إلي حدوث عقدة أو خلل نفسي يسبب انحرافا جنسيا، حيث تفقد كاتي بطلة الفيلم، حين كانت طفلة فى الثامنة، أمها إثر حادث سيارة، ويتولى رعايتها والدها «جـاك ديفيس» الكاتب المشهور، العلاقة بين الأب وكاتي علي درجة عالية من القرب، فكلاهما مصدر ومنبع الحياة لبعضها، وتمركزت حياة كاتي حول والدها برعايته وحبه لها، وقد غمرها بكل الحنان والعطف والاهتمام بعد وفاة والدتها، وكان يؤكد لها أنه لن يموت ويتركها بمفردها، وسيظل بجانبها حتي تكبر وتكون عائلة كبيرة، لكنه ونتيجة للحادث يدخل الأب في مرض «ذهان الهوس الاكتئابي Manic-depressive» حيث يصاب بنوبات من الصرع والانهيارات النفسية، ويخضع للعلاج بالصدمات الكهربائية، ويموت إثر نوبة من نوبات الصرع، وهي مازالت علي طفولتها، وسأترك للقارئ توقع ما حدث في نفس الطفلة بعد وفاة الأب.
يتحول السرد في الفيلم بعد مرور 30 عاما لينقلنا إلي أثر وفاة الأب، عقدة نفسية حولت حياتها إلي خواء داخلي، جعلها تمارس الجنس مع الرجال لمجرد الشعور بلذة علها تخرجها من فراغ المشاعر.
صدمة انفعالية
تفسير الحالة بشكل أدق، إن موت الأب أحدث صدمة انفعالية داخلها، لم يتحقق وعده، تركها بعد كل هذا التعلق، طفلة لم تدرك حقيقة الموت، تمركزت العقدة في اللاوعي واختزلت في العقل الباطن «أن كل من سترتبط به سيتركها»، جردت نفسها من جميع أنواع الشعور الطبيعية التي ممكن أن يعيشها الإنسان، ليس هناك أصدقاء، تولت تربيتها خالة «ديان كروغر» لا تعرف كيف تحب بل تمتلك فقط، واتجهت كاتي إلي الإنحراف الجنسي، وممارسة الجنس مع مختلف الرجال ليوم واحد، وهو نوع من أنواع الصراع النفسي، هي لا تريد هذا ولكنها تريده في وقت واحد، لأن توقف استقبال وإرسال المشاعر عندها، جعلها تفقد الشعور بذاتها، وعقدتها التي تدفعها إلي نوع من أنواع الرفض لحدوث ارتباط نفسي بشخص ما، ولكن ممارسة الجنس تشعرها بشيء من الوجود تعاقب فيه نفسها داخليا : وكما جاء فى حوار الطبيبة النفسية مع كاتي حيث تخبرها كاتى قائلة «أنا لا أقع فى الحب»، فتسألها لماذا تنامين مع كل هؤلاء الرجال، ماذا تريدين؟ فتجيب: لا أريد شيئا، فيتأكد للطبيبة أنها فقدت الاحساس بالحياة.
اتجاه «كاتي» إلي الإنحراف الجنسي نتيجة عدم الشعور باللذة والسعادة في الحياة بصفة عامة، فالدافع إلي ممارسة الجنس هنا مع أشخاص لا ترتبط بهم عاطفيا يعد مصدرا من مصادر الحصول على اللذة المفقودة، ووسيلة من وسائل التغلب على القلق والمخاوف، وما يحدث داخلها من رفض أو اللاشعور تجاه جميع الأشخاص يجعلها لا تري جرم ما تفعله في نفسها، فخلل داخلها يجعلها تبحث عن مسكن للألم الداخلي أو الهروب منه حتي لا تعترف النفس بأن هناك خلل ما يجب التخلص منه، فتسير في دائرة مغلقة معتقدة أن انحرافها الجنسي لا يؤثر بالسلب تدريجيا عليها وهذا درجة من درجات الوهم المرضي.
وتتحول الحياة مرة ثانية، تحصل على حبيب «آرون بول»، كاتب، يرى فى والدها مثله الأعلى في الكتابة، وهنا نجد نقطة التقاء روحية بينهما وهي «الأب»، كذلك هو يتعرف عليها من خلال الظاهر أو من خلال بطاقة تعريف مسبقة من قبل كتب والدها التي كان يطلق عليها «رقاقة البطاطا» فهي لم تظهر له الباغية كما تظهر للآخرين، تسير معه بصورتها الشخصية التي تريدها، يقعا في الحب، ولكن تتأزم الأمور وتظهر عقدها علي السطح (مستوي الشعور والوعي والإعتراف)، حيث تعترف «لا أستطيع أن أكون حبيبة» هذا الإعتراف هو الوقوف علي سلم المشكلة النفسية، أولا هي تخطت مشكلة الخواء والأرض الجرداء وأحبت، ولكن الصدمة الداخلية تجعلها لا تستطيع التسليم بحبها وهذا ما قالته عندها حاول حبيبها تهدئتها واحتواء مشاعرها: «لا تفكري أن كل من سيحبك سيتركك» (في كوامنها تسير شحنة انفعالية تؤكد عكس ذلك- نتيجة الوعد غير المحقق من والدها).
فترد قائلة: «أنا أعرف ذلك هنا» وأشارت إلي عقلها – «لكن لست متيقنة منه» وأشارت إلي قلبها.
وهنا أشير إلي أن العقدة النفسية محلها القلب، والعقل يخضع لها خضوعا تاما، لأن القلب محل الإدارك قبل العقل وهذا ما نص عليه القرآن الكريم «ألهم قلوب يعقلون بها»، فكل ما يحدث في نفوسنا محله القلب، به نسير وعلي صحته تصح الحياة بأكملها.
الإعتراف بالعلة
تدخل كاتي بعد الإعتراف بعقدتها في صراع آخر، وهى فكرة «الإعتراف بالعلة»، فعندما تعلم النفس البشرية بعلتها، تصبح أمام اختيارين إما العودة عن ضلتها، أو الاستمرار في نفس الخلل السلوكي حتي تصاب بصدمة أخرى تجعلها تفيق من العلة وتصل إلى الشفاء، وأشير إلى أن العادات أو الانحرافات السلوكية تدخل الإنسان في منطقة آمان نفسي، بمعني أنها تخرج شحنة الغضب في ممارسة الجنس، نوعا من أنواع الهروب، يحدث عندها حالة من الراحة، بعد تكرار هذا السلوك المنحرف، تتكون منطقة أمان عند الإنسان من الصعب جدا الرجوع عنها، مثل المدمن لشيء ما، وهذه الحالة تحدث عند الإنسان السوي وغير السوي.
تحولت الى عاهرة
لذلك نجد كاتي بعد اعترافها بعقدتها تذهب مرة أخرى لممارسة الجنس من الرجال، في البيت الذي تعيش فيه مع حبيبها، حتي تخبره، فهي تصل لأعلي مراحل الصراع وكأنها تقول لنفسها ماذا سيحدث بعد؟ وعندما يعلم البطل يتركها ويترك المنزل، وتصيح أن هذا حدث بدون وعي منها! وأنها لا تعرف لماذا أقدمت على هذا!، (تصرفات لا واعية تصدر منها نتيجة الاضطراب النفسي/ العقدة داخلها) هنا النفس تصل إلى منتهاها تريد أن تفعل كل شىء حتي تصل إلي فقدان أكبر، يحدث صدمة عكسية أخرى تتمثل في فقدان الحبيب لتفيق بعدها.
وأتوقف عند فكرة ممارسة الجنس للبطلة بدون وعي منها لماذا تفعل هذا؟ لأوضح مصطلح «الغلمة Nymphomania» و «الشراهة الجنسية Satyriasis» رغبة في ممارسة الجنس بصورة مستمرة عندما يكون الإنسان في حالة من كثرة الخلط والتشويش وغير قادر على الحب، وفي كثير من هذه الحالات يعتبر اضطراب عقلي بتميز بالسلوك الجنسي القهري.
إن صعود حالة الإنحراف عندها بعد أن تركها حبيبها، جعلها تذهب لممارسة الجنس كعاهرة في ملاهي ليلية، وقد تبدلت هيئتها وثيابها اقرارا منها أن هذا سيصبح طريقها، ولكنها تسمع أغنيتها التي كانت تغنيها مع والدها، فلا تستطيع الاستمرار، وتعترف باشتياقها له بصوت عالي، هذا ليس اعتراف عابر، بل هو اعتراف بأنها ليست عاهرة، وأن تنشئتها الاجتماعية جديرة بالإحترام والتقدير، أي أنها بذاتها ليست بهذه الصورة الموحشة التي أصبحت عليها، بل هي «رقاقة البطاطس» الغالية، خاصة والدها، وليست باغية متاحة للجميع بجسدها.
ولهذا نجدها تغتسل قبل قرارها بالرجوع إلي حبيبها والإعتراف له بالحب، والإغتسال هنا نوع من أنواع الرجوع للذات وانتهاء العقدة أو أثر الصدمة النفسية، حيث إفاقة النفس وتطهيرها، من كل ما حدث، والإقدام إلى حياة جديدة، كلها رسائل نفسية ترسلها النفس لذاتها، في إشارات لاشعورية.
الفيلم يسير في خطوط متوازية من السرد والزمن، بالنسبة للزمن هناك توازي بين الماضي «طفولة كاتي مع أبيها» – والحاضر «أثر الطفولة» حيث يعرض بالتوازي حالة من حالات «ماكان، وأثر ماكان»، والسير هنا في زمنين متداخلين يجعل المتلقي يسير مع تفسير العقدة النفسية التي حدثت للبطلة، وكأننا أمام شخصيتين متخلفتين، كاتي الطفلة، ليس هي كاتي بعد ثلاثين عاما، كذلك يعرض أثر التنشئة الاجتماعية ومردودها علي فعل الذات مهما واجهت من صعوبات، هذه التنشئة لها دور كبير في حياة الإنسان مهما اختل توازنه، ولذلك نجد كاتي تعود في النهاية للصورة المتوازنة والطبيعية لها، باعتبارها طبيبة أمراض نفسية، ووجدت قلب يحبها ويخاف عليها ويتمسك بها.
المريضة الطبيبة
وكما نوهت سابقا تسير أحداث الفيلم في خطوط متشابكة، حيث نتعرف على لوسى وتلعب دورها «كوفينزانيه واليس» تلك الفتاه الصغيرة التي تموت والدتها، فتتوقف عن الكلام نهائيا، وتعاني نفس ما تعانيه كاتي ولكن تتغير فعل الذات لأثر الصدمة الانفعالية، كاتي اتجهت للإنحراف الجنسي، بينما اتجهت لوسي للصمت، فنجد مشكلة واحدة لكن مردودها مختلف علي النفس البشرية.
أثرت هذه الحالة في نفس كاتي تأثيرا كبيرا، نفس المعاناة والألم، تجاذب أطراف الحديث بينهما- بعد أن نجحت كاتي في كسر حاجز الصمت عندها- كان له دور في شفاء كاتي، اعترافها بالفقدان معها ومناقشة هذا الفقدان، جعل كاتي تخرج من دواخلها وتخرجها وتقاوم، فكثير من المشاعر التى حدثت بين كاتي وأبيها حدثت مع لوسي، وكأن كاتي تثبت لنفسها أن لديها قدرة علي العطاء والشعور، صورة موازية كاتي تعيش دور والدها لكن في حياة لوسي، لذلك نجد أنها عند لحظة وداعها تستخدم نفس كلمات الأب في عدم الإستسلام للحزن وأن الحياة ستستمر، كاتي تنصح نفسها وتنصح لوسي.
إن كاتي التى أصيبت بعقدة نفسية نتيجة الفقدان وتوقفت الحياة داخلها، والأب الذى أصيب بصرع دماغي وهو ليس بالأمر الهين، لكنه واصل الحياة لوجود هدف حقيقي وهو «تربية ابنته»، ومواجهة الأب صراعات كثيرة مع خالة كاتي التي أرادت تبنيها، وكذلك أزمات مادية كثيرة، (لأن وظيفة الأب ليست ثابتة، يعيش علي إثر ما يكتبه)، لكن نجده رغم كل هذا لا تسير نفسه في اتجاه معاكس، لم نجد أي صورة من صور الإنحراف لديه، بل جعله المؤلف والمخرج شخصية مستقيمة، سوية في انفعالاتها وتفكيرها وحياتها، تسير وفق شخصية الأب الذي يمكن أن يصنع ما يفوق الحد لإبنته، بصبر وجلد، وبرغم أن مهنة الكاتب مهنة قاسية، تجعل الإنسان في قلق دائم وتقلبات مزاجية، بالإضافة إلي وجود مرض ذهني ليس باليسير، لكن قوته هذه ترجع إلي قوة نفسه البشرية و قوة الروح الكامنة داخله.
نجح الزمن المتوازي في الفيلم في عرض صورتين من صور النفس، نفس تحمل مرض لكنها سوية تسير بقوة ثابتة رغم أن ما تواجهه ليس هين، ونفس ضعيفة تتجه إلى الإنحراف نتيجة صدمة يمكن تخطيها، لقد كانت حالة كاتي أصعب من حالة والدها، لأن ما يصيب النفس في كوامن اللاشعور أصعب مما يصيب النفس في كوامن الشعور، وعندما يملك الإنسان قوة نفسة رغم صعوبة المرض العضوي وألمه، أهون بكثير من فقدان الإنسان لهذه القوة.
https://www.youtube.com/watch?v=YZ-6gOCidMY