السكر المر والمذاق المحايد
إسراء إمام تكتب لـ «سينماتوغراف»:
«سكر مر» من الأفلام المُربكة، وبخاصة عندما نكون بصدد الحديث عنها، بصورة لا نقف فيها عند حد آمن من المدح، الذي لن يخلو جانبه من عثرات ليست بالهينة. كما ان الأكثر إرهاقا هو كون كل المتناقضات في هذا الفيلم، تتوارى خلف حبكة شديدة التعقيد، بشخصياتها المتعددة، وسردها المُنهك، سواء على مستوى خلقها، أو مشاهدتها. فالكتابة عن الفيلم، تطلبت بعض التمهل، التفكر، والحِرص، لكى لا يميل القلم إلى حكم واحد جامد، ينساق خلف إبهارات السيناريو دون عيوبه، أو يأكل من حق ما وجب الإشادة به. وفى السطور القادمة، محاولة للحفاظ على هذا الحد الفاصل والدقيق.
فبين التحليل، والتفنيد سنتحدث..
الشخصيات
ثمة شخصيات مهمة، وثرية جدا قد أسس لها السيناريست محمد عبد المعطى، أولها شخصية سليم «أحمد الفيشاوى». الشاب المشطور إلى نصفين، نصف منه يميل إلى عيش حياة متحررة، يلتزم فيها بعلاقه مع فتاة لا يكون الزواج من مفرادتها. بينما نصفه الآخر يتوق لحياة مستقرة، يتزوج فيها من إمرأة تأخذ بيده، ليشعل جذوة النزعة الدينية الكامنة بداخله، والتى ستساهم فى إحداث تحول ما فى شخصيته فيما بعد. سليم نموذج رجولى، حاولت الأعمال الفنية عموما التعبير عنه فى السابق، ولكن محاكاتها كانت سطحية، تحيد عن الواقع، مالت إلى رسمه بصورة الشيطان الذى يفطر قلب الفتيات عمدا، ومن ثم يبحث عن الزوجة الصالحة ليرتبط بها، فنشعر حينها أن سيناريو مماثلا يكاد يتحدث بلهجة أمومية عنيفة، كي يعظ الفتيات «وآدى آخرة اللى مايسمعش كلام بابا وماما»، أو على الأرجح هو لا يستبين بالضبط ما يرغب فى قوله. بينما سليم هنا شخصية حقيقة، من دم ولحم، نعى أنها هى الأخرى تملك معاناتها، حتى وإن كانت سببا فى معاناة آخرين.
إلى جانب شخصية عاليا «آيتن عامر» الفتاة التى تضع حدودا فى علاقاتها مع الشباب، فلا تدخل علاقة بهدف التسلية، أو بغير اتفاق ولو ضمنى على الزواج كنهاية. ولكن مع تغير وضعها المادى بعد زواجها من سليم، وانفتاحها على الدنيا من حولها بمنظور آخر، تتبدل عاليا، وتبدأ فى التهاون عن مبادئها. هذا النموذج أيضا مهم وملفت. حيث يوجد حولنا، بل وفينا وربما لا ندرى عنه شيئا أحيانا. فهى شخصية تدفعنا لطرح العديد من التساؤلات الخاصة بتأثير الظروف علينا، فهل هى ما تخلق ذواتنا فى بعض المنعطفات، وأين ومتى وفقا لظرف كل منا، عندما تتراخى زمام الأمور، ويبدأ أحدهم فى فقدان السيطرة.
أيضا، شخصية نازلى «أمينة خليل» وهى الوجه النسائى ذاته، لشخصية مروان «نبيل عيسى»، شخصيتان مختلفتان لأقصى درجة، نجح السيناريو فى أن يُبين طبيعتهما المائلة لنبذ القيود العاطفية، حتى بعيدا عن إطار الزواج. وهى حالة متفردة، وخصوصا بالنسبة لشخصية نازلى، التى خرج تقديمها من ثوب الفتاة المنحلة، التى تنتقل من حضن رجل لآخر بدون ضوابط، حيث حرص السيناريو على أن يعطى كلا من الشخصيتين حقهما فى أن يختارا هذه الحياة، بل وتناول اشكالياتها، وأزماتها، كأى أسلوب عيش، يمكن المناقشة حوله، دون مناقشته هو ذاته.
أما شيرى «سارة شاهين» فهى الأخرى، شخصية موزونة، متسقة مع ذاتها، واضحة الإختيارات، تمت التعبير عنها بعناية، وبمعادلة نفسية منضبطة، فهى تعرف كيف تواجه حالها ، حتى وإن حاولت فى بعض الأوقات الكذب على نفسها.
ولكن ثمة أيضا شخصيات ضعيفة، خاوية، وغير منطقية. أولها شخصيتى مريم «ناهد السباعى» ونبيل «عمر السعيد»، فهما ببساطة شخصيات مُقتطعة السياق لصالح تواجد حكايتهما ذاتها، ولكن السيناريو لم يؤسس لطبيعتهما المستقلة، عبر أية إشارات واضحة ومستساغة، فهما فقط يظهران ليتحابا بقوة، أو ينفرا من بعضهما بنفس القوة.
إلى جانب شخصية ملك «شيرى عادل» الفتاة التى تتطور شخصيتها فجأة، آخذة منحنى دينيا غير متوقع، فقط لمجرد أن والدتها توفيت على سجادة الصلاة، على الرغم من أن الوالدة لم تكن أبدا تحاول وعظ ابنتها بأى طريقة من الطرق، بل كانت متساهلة مع حياة ابنتها غير المتزمتة، حيث بدت قبل وفاتها بدقائق وهي تختار لإبنتها فستانا مفتوحا لترتديه فى إحدى الحفلات، من دون أن يتم الكشف عن هذا التحول، الذى يُتبَع بملحقاته الصارمة، ف ملك لم تكتف حتى بالحجاب، وهو ما قد يشكل أثرا نفسيا مقبولا فى موقف مماثل، بل انقطعت عن السهر، وداومت على حضور دروس المساجد، فبدت كشخصية تتمادى فى التطرف، وكأنها تكفر عن ذنب غير مفهوم من الأساس.
أما شخصية حسام «هيثم أحمد زكى» فما هى إلا وجها آخر لفكرة التحول الدينى، ولكنها أكثر تطرفا، فهو الشاب الذى نفض عن نفسه حب الدنيا تماما، بعد تمرغه السابق فى الملذات. وتبدو الطفرة التى حدثت فى حياة حسام مقبولة، ومنطقية، لكنها لم تقدم جديدا من ناحية طرحه كنموذج، فهو شخصية محايدة، تخدم الأحداث أكثر من كونها تمثل معضلة بذاتها.
العلاقات
على غرار ما سبق قوله فى الشخصيات، تأتى أيضا علاقات الفيلم، فمنها ما يقف على أساس متين فى الكتابة، ويعمل على نبش بعض التخمينات المعقدة، ومنها ما جاء مخيبا للآمال، واقفا عند نقطة البداية دون أن يتقدم خطوة واحدة على مسار الأحداث..
أما علاقة سليم بـ (عاليا) فهي من العلاقات القوية، التى تملك الكثير من التفسيرات والتساؤلات فى الوقت ذاته، فسليم تحمس للزواج من عاليا بالذات، لأنه حسبها تلك الفتاة التى يتمناها، والتى ستساعده فى التخلي عن حياته القديمة، ولكن ما حدث لم يكن إلا وجها شاقا من أوجه الفشل، الذى تقاسماه سويا، فمن جهة سليم، كان يحمل إخفاقه بين ذراعيه من قبل الشروع فى موضوع الزواج، بكل تناقضه وتخبطه، والنزاعات المستعرة فى نفسه، والتي أودت بحياته إلى منحى خطير. لأنه من الصعب أن يرغب الإنسان فى الشىء ونقيضه ويتوقع أن يصل لمبتغاه. أما من جهة عاليا، فالسبب يكمن فى التحول الذى أصاب شخصيتها، والذى ساهم فى زيادة نفور سليم منها، وأدى به هو الآخر لكى يتطرف فى التمسك بأحقيته فى اختيار الحياة المستقرة، المباركة بالدين. ليصبح التغير النفسي هو السبب الرئيسى فى انهيار العلاقة.
علاقة سليم بـ (شيرى) تعتبر إمتدادا منطقيا لعلاقته بعاليا، إذ كان يمر بإنتكاسة صعبة، أعادته إلى نقطة الصفر من جديد.
أما علاقة شيرى بمروان فهي علاقة لها مبرارتها، فوقت إذ كان استمرار شيرى مع مروان، مقابل التمتع بوجاهته الإجتماعية، وأسلوب حياته، وعند أقرب مواجهة بينهما وبسبب طبيعة شيرى كشخصية تجيد مواجهة نفسها، قطعت علاقتها به. أما مروان فكانت شيرى بالنسبة له مجرد حبيبة مفضلة في إطار الحياة التى يرغب أن يحياها بنفسه ولنفسه، وبدون أي قيد، وبغير اعتماد فى السعادة على شخص أو شىء بعينه. فالوضع بينهما تبدى بصورة مغايرة للواقع، ومع مرور الوقت، بدأت الأمور تأخذ مجراها الصحيح.
علاقة شيرى بـ (على) جاءت لتحمل تفصيلة ذكية، مبنية على المبدأ الشهير فى العلاقات «كما تدين تدان» فعلى يبقى مع شيرى لأمد، يتغاضى فيه عن ماضيها المنفتح، مستغلا ما قدمته له من قيمة مهنية وحياتية. وبالتالى تخلت شيري فى لحظة ما عن تعلقها الصادق بعلى، وعاد الواقع ليتدخل أيضا من جديد.
علاقة مروان بنازلى هذه العلاقة قامت على الصدق الكامل، ليس ثمة طرف يكذب على الآخر، ولكن من المفارقات أن الواقع فرض نفسه تارة وعبث بالعلاقة تارة أخرى، لأن كلا منهما لم يكذب على نفسه. وعند قرارهما بالزواج، سعيا لكى يصدقا أن حياتهما ستسير بنفس السلاسة، ولن يعيرا اهتماما لأقاويل الناس. فإذا بهما، يكتشفان أنهما يدافعان عن هيبة الزواج، قدسيته، ووجوب احترامه. ولذلك فإن ثمة قاعدة تقول «مهما ادعيت تمردك على مجتمعك، سيقابلك يوما ما الموقف الذى يفسد كذبتك».
علاقة ملك بعلى من العلاقات التى ساهم التحولات فى إخفاقها، فبعد حجاب ملك، يتخلى عنها على، لأنه لم يتحمل أسلوب حياتها الجديد. وهو ما يمكن أن نعيب فيه على السيناريو ، الذي وصم تصرف على بالتصرف النذل، والمشين، وكأنه يسلبه حقه فى أن يرى أن هذه الحياة لا تناسبه، وأنه لن يجد راحته فى وضع مثل هذا.
علاقة ملك بحسام من العلاقات التى كذب فيها كل طرف على نفسه، فإختار شريكه تبعا لمنظور ديني مثالي، وملائكي، لا يناسب تعقيداتنا البشرية، وبالتالى ظهر من جديد دور الواقع، ليصدمهما، ويعرى اختلافاتهما الصارخة، والتى دفعت فى النهاية العلاقة لأن تنقض. وهي كتابة منطقية، ووافية.
علاقة مريم ونبيل علاقة هشة البناء، غير منطقية أبدا، ومنقوصة، مثل شخصياتها، تائهة، غير واضحة المعالم، وكأنها من مكملات شبكة العلاقات الواسعة التى تم طرحها، محققة عامل التنوع. فالغرض من كتابتها، أن تكون نموذجا لإثنين متحابين بصدق، ولكن روتين الحياة يغلب مشاعرهما، ويطفئها. ولكن ما إنتهى إليه شكل صياغة العلاقة، فى وسط زحام العلاقات الأخرى، كان حطاما، لا يفيدنا بأى شىء، ويبدو غامضا غير مفهوم، وأكثر من كونه يحمل مدلولا فعليا، وليس اسميا، مدرجا تحت ابتسامة مريم حينما تقوم عن مجلس العائلة التى تبدو معترضة على قرار الطلاق، وبينما تقف فى الشرفة مجهدة وحيدة، تتسللابتسامة إلى شفتيها. ولا يسعنا التفاعل مع هذه الإبتسامة كما ينبغى لأن كل شىء فى هذه العلاقة عموما، يبدو مثلها، مجرد أفعال نراها دون أن نشعر بها.
الضعف والقوة
كم الشخصيات والعلاقات، لا شك أنه أربك السرد، حتى وإن حاول السيناريست محمد عبد المعطى أن يتحايل على ذلك بشتى الطرق. ففى بداية الفيلم، نجد العديد من عودات الفلاش باك، التى تقتطع السياق، مُخلفة نوعا من الصخب الذى شوش على حالة الإندماج المطلوبة، وخاصة مع فيلم من هذه النوعية. فالجزء الأول منه، بدا بهذه الصورة المفككة، لأن السيناريو كان مطالبا بالضرورة بأن يفرد مساحة جيدة للتعريف بالشخصيات، ومحاولة توضيح صلة العلاقات ببعضها، وهو العمل الذى يستتبع بدوره نوعا من الصمت والإنصات لطبيعة الشخصيات، وتلميحات ارتباطها ببعضها. فهذا الصمت، حينما كان مصحوبا ببهرجة مشاهد الفلاش باك، خلق نوعا من الفراغ، وأفسح المجال لشعور غريب، وكأن السيناريو يلهث وهو يعدو بقوة، بينما يقف مكانه، دون التحرك خطوة واحدة.
لعلك لاحظت وقت السرد عن العلاقات، أن الدوافع تتكرر، والأسباب تتكرر، مادمنا نتعرض لشىء مماثل فى حياتنا كل يوم، لكنه ليس سببا كافيا لكى يتم كتابة فيلم على نفس المنوال. فعلاقة واحدة كفيلة بأن توصل مفهوما ما، وما حدث فى سيناريو سكر مر، أن ثمة علاقات وُظفت فقط ليس لتأكيد المضمون، وإنما لتُكمل حالة الإبهار بضخامة هذه الشبكة العنكبوتية التى تنقل ما يحدث بين الشخصيات. وهذا بالطبع ما أضر بدراما الفيلم، وجعلنا فى حالة عدم ارتياح داخلى، وكأن ثمة من ينتزعنا من حالة معينة بدأنا التعايش معها، لحالات أخرى متتابعة ومختلفة ومتتالية. ولهذا سنجد أن معظم الأحاسيس كان يتم التعبير عنها حوارا، ووصفا. مثلا تجد سليم يشرح بنفسه مشكلته مع عاليا، وحسام يفعل نفس الشىء مع ملك. فلا وقت أمام السيناريو لكى يُقربك أكثر من حياة كل ثنائى، لأنه حقيقة مشغول بهمه الأكبر فى أن يوفق بين نقاط تلاقيهم وفراقهم.
ولكن ثمة مناطق قوة لا يمكن نكرانها فى السيناريو، منها العناية بالتفاصيل الخاصة بشخصية ما، والتى ستكون هى بعينها سببا فى مشكلة قادمة. مثلا الإشارة إلى ذوق ملك الشيك، حينما تبدي عاليا إعجابها بنظارة الشمس خاصتها، ومن ثم تقول «هتفضلى ذوقك حلو زى ما انتى». ورغم أن الحقيقة تقول هذه الحاسة الذوقية التى امتلكتها ملك كانت سببا رئيسيا فى مشاكلها مع حسام. لكنها تسبب في حالة تخبط تحياها عاليا فى حياتها المهنية، ليكون ذلك دليلا ل على عدم اتساق خياراتها وقراراتها، وميلها نحو التبدل فى أى لحظة، كما حدث فيما بعد أثناء حياتها مع سليم. مرة أخرى فعلها السيناريو حينما خصص مشاهد بعينها لحالة (على) المعدمة، عندما يتعلق بوجاهة الإنتقالات والمتاجر الراقية، فنجده فى أكثر من موقف بارز يُدلل على قلة حيلته فى مواقف مماثلة، لتأتى بعدها علاقته بشيرى وتبدل هذا الحال تماما.
وبالرغم من أن تفصيلة تزامن قرارات الزواج والطلاق بين هذه الثنائيات، قد تكون خيالية إلى حد ما، إلا أنها أحدثت حالة جيدة جدا، وكانت من لحظات الفيلم المؤثرة، والبعيدة عن سباق القطع من ثنائى لآخر، بالشكل المرهق، والمتعجل .
إلى جانب أن سيناريو سكر مر، وبغض النظر عن إخفاقاته. سيظل محتفظا برونق مفاهيم معينة طرحها فى العلاقات، ستبقى مختزنة فى الذاكرة، حتى وإن لم يعيها المتفرج فى حينها، لكنه من وقت لآخر سيجد نفسه مستدعيا إياها. فالسيناريو بلا شك نجح فى أن يصل لغايته، ويوضح مقاصده، ويطرح نوعية مختلفة للمعضلات التى قد تواجه علاقة ما، مستندا فى ذلك على صغائر الطبيعة البشرية، ولكن ستظل مشكلته الأكبر، متجسدة فى الكيفية التى إختار أن يعالج بها كل هذه المادة الثرية، والتى أرى أن الطمع فى الإستزادة كَماً، أفسد فيها الكثير كيفا.
آخر كلمتين:
_ استكمالا لتقييم سكر مر، لا أتفهم موقف المخرج هانى خليفة على إصراره بالاكتفاء بالعمل في أفلام العلاقات العاطفية وكفى. فلا أجد أى مجال للتخصص الإخراجي فى مثل هذه النوعية من الأفلام، لأن جاذبيتها وجمالها دائما ينسب لمؤلفها، إلا وإن كان مؤلفها هو مخرجها، كنموذج للكاتبة والمخرجة الأمريكية نانسى مايرز.