إضاءات

«الغريب» لأمير فخر الدين.. مَلَل الجولان وجحيمه مع السلام الميت

«سينماتوغراف» ـ محمد صبحي

في خضم صراعات المنطقة الملتهبة والمتكاثرة، ثمة حالات وأوضاع تسقط في النسيان، كحالة مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل عسكرياً منذ العام 1967. غالباً ما يتحدث الإعلام الدولي عن الظروف المعيشية في قطاع غزة أو كردستان، لكن بالنسبة لتلك الهضبة البالغة مساحتها نحو 1800 كيلومتر مربع يبدو أن ستاراً حاجباً قد سقط. غير أن السينما قادرة على أخذنا إلى هناك، للإنغماس في واقع أهلها وأرضها. وهذا تحديداً ما يفعله المخرج السوري أمير فخر الدين (1991) في عمله الروائي الأول، “الغريب”، الذي عُرض في مهرجان البندقية السينمائي الدولي في سبتمبر الماضي، كما وقع عليه الاختيار لتمثيل فلسطين في منافسات جائزة الأوسكار لأفضل فيلم دولي لعام 2022.

الوجود الجولاني يطالعنا منذ اللقطات الأولى للفيلم: قرى تتشبث بالتلال، في خلفيتها سلسلة متتالية من الانفجارات والأزيز والدخان المتصاعد تتراءى عبر الحدود السورية معلنةً استمرار المقتلة السورية الدامية. الدخان، مثل ضباب يبتلع ويحجب كل شيء، حتى مجازياً، يدخل حتى منزل بطل الفيلم، عدنان. الذي ترك دراسة الطب في روسيا وعاد إلى الجولان بعد وفاة والده، محبطاً ومستاءً ومدمناً على الكحول، في صراع مع شبح والده وزوجته (التي كانت حبيبته). تحاصره كوابيس ماضيه، ولا يرى حوله إلا عالماً كئيباً مدمراً: كلب بثلاث قوائم، وبقرة لم تعد تدر الحليب، طفل حرب مصاب بجروح قاتلة، وجيران تقودهم الانتهازية. صور مغايرة وغير مطابقة للنمطيات الجولانية المعتادة حول الطبيعة الساحرة والمشاهد الأخاذة. جولان فخر الدين، جحيم أخضر، وسماء واسعة غائمة تحتلها أصوات حرب قريبة، وأرض موحلة يسكنها يائسون من انتظار لا ينتهي.

أمير فخر الدين، المولود في الاتحاد السوفياتي، لأبوين سوريين من مرتفعات الجولان الذي عادوا جميعاً لاحقاً للعيش فيه؛ يبني عملاً يعكس مفهوماً مشوشاً للهوية الوطنية في تيهها، يطبعه التشكك، مثل العديد من الصور والمناظر الطبيعية في فيلمه. نجاحه في ترجمة هذه الحالة غير المؤكدة والمستديمة للركود الجيوسياسي لسوريين يحكمهم العدو المحتل، على بعد خطوات قليلة من حدودٍ، تحتدم خلفها فوضى وكارثة أبطالها سوريون مثلهم، إلى صورٍ سينمائية.. إنجاز لافت غير عادي.

يفعل ذلك أولاً عبر نفض كل نمطية يمكنها مداخلة قصّته بما يبعدها عن مقصودها، وثانياً من خلال اتباع تعاليم أساتذة سينما الطبيعة وانعكاساتها الإنسانية: تاركوفسكي كما بيلا تار (يبدأ الفيلم بلقطة لموقد، تماماً مثل فيلم “إيقاعات ويركمايستر”)، فيما تلك الأرض القاحلة حيث ترعى الأبقار، تبدو كأنها تعيد إنتاج السهل الهنغاري لمخرج “تانغو الشيطان”؛ صور المناظر الطبيعية تستحضر نوري بيلجي سيلان وكياروستامي؛ فيكتور إيريس كذلك (حالة إخفاء جندي جريح كما في فيلم “روح خلية النحل”)، وأخيراً هناك هيتشكوك الحاضر في الجثة المخبّأة في أكياس التفاح.

يستثمر “الغريب” كثيراً في التراكيب التصويرية لكادراته، والاستعارات، التي تعاود ظهورها في الفيلم: حليب يتحوّل إلى اللون الأحمر بسبب الدمّ، كلب بثلاث قوائم يمثّل حالة ضعف البطل ويعكس صعوبة حركته كما شعب الجولان. كل هذا يُعرض داخل إطار سينمائي عتيق وخانق بنسبة 4:3، يمنع المشهد الطبيعي من السيطرة، ولا حتى في اللقطات الطويلة والواسعة جداً. ينعكس مزاج البطل، بعذاباته ومعاناته، على الكاميرا في تصويرها بيئته والمشهد الطبيعي حوله، كما على باليتة ألوان الفيلم حيث الغلبة للألوان الداكنة. الجمال مخنوق، والأحلام تستحيل كوابيس، وانتظار التغيير يغدو تصريفاً لملل أبدي.

بعيداً مما تقترحه حقيقة دراسة البطل في روسيا والعودة منها للجولان، من عناصر سيرية وذاتية للحكاية؛ إلا أن شخصية عدنان، بمعضلاته، تمثل حياة بأهدافٍ ضائعة تحاصرها توقعات الكبار والعيش في ظلالهم، ومدخلاً لمقاربة وحدة وعزلة مفروضة على بشرٍ وأرض. في البداية، تواجهه زوجته بإمكانية الهجرة إلى فرنسا أو ألمانيا أو أي مكان آخر. لكنه لا يجيب، منشغلاً بأسئلة عالقة، ليستقر أخيراً على إدراكه الحزين باستحكام مصيره مسجوناً بأي حال من الأحوال بروابطه مع موطنه الأصلي، المحتلّ، حيث يمكن للمرء فقط الاختيار بين تدخين السجائر السورية أو الإسرائيلية.

على هذه الأرض العائشة سلاماً ميتاً، المحكومة بمنطق تقليدي وأعراف ثقافة أبوية متحكمة، تتجلّى محدداتها في الشخصية القمعية لوالد عدنان أو في الزيجات المرتّبة باتفاق العائلات. الظروف المعيشية والاجتماعية والثقافية متخلفة بقدر ركودها، لأن أي ديناميكية في مثل هذا السياق مصيرها الكبح. ما يبقى هو انتظار، بلا أملٍ ولا أوان، حتى ينقضي الجحيم وتعود للسماء ألوانها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى