«الفارس الأخضر».. أسطورة ملحمية لقصيدة عن الفروسية
*** أسـامة عسـل
استفادت السينما في كل عصورها من الأساطير، وهو ما عزز الشغف بهذا النوع من الأفلام القائمة على الخيال والإيهام البصري، ويصنف موقع (آي.أم.بي.دي) الشهير أفلاماً ذائعة الصيت من هذا التصنيف، على أنها الأعمال الأكثر جماهيرية وأهمية في تاريخ السينما، والأساطير قصص خاصة تروى عن حوادث خارقة وخارجة عن المألوف في أزمان غابرة، وقد تتحدث عن تجارب متخيلة للإنسان بغض النظر عن إمكان حدوثها أو تسويغها بالبراهين، وتحتل حيزاً مهماً من تراث الإنسانية، ولا يخلو مجتمع أو حضارة من أساطير ترتبط بتراثهما جنباً إلى جنب مع الأشكال الأدبية والفنية الأولى التي تميز ثقافة ذلك المجتمع كالحكايا والخرافات وقصص التراث والسير الشعبية والموضوعات الفنية المختلفة.
وفيلم «الفارس الأخضر ــ The Green Knight»، ــ والمقصود بالأخضر لون الطبيعة وأيضاً العفن ــ أسطورة فانتازية ملحمية قدمتها السينما الأميركية، مبني على قصيدة سير غواين والفارس الأخضر، وهو من إخراج ديفيد لوري، وبطولة (ديف باتيل، أليسيا فيكاندير، جويل إجيرتون، باري كيوغان، ورالف إنيسون).
الفيلم أقرب ما يكون إلي العمل الفلسفي، ونقل بأمانه قصيدة الفروسية الرومانسية للسير غواين والفارس الأخضر عبر مغامرة رائعة، تعكس العلاقة التي لا مفر منها بين الحياة والموت، وهي حكاية عن الشجاعة والفروسية فضلاً عن الصدق والعفة.
هذه الأسطورة تنتمي لأواخر القرن الرابع عشر وتحكي مغامرة سير غواين أحد فرسان الطاولة المستديرة (كاميلوت)، الذين كانوا مع الملك آرثر، ويُعتقد أن هذه القصيدة كُتبت بواسطة مؤلف مجهول سُمي شاعر اللؤلؤة أو شاعر غواين، وفيها يقبل سير غواين تحدياً من محاربٍ غامض جلده أخضر وكذلك شعره ولحيته وثيابه، حيث يعرض «الفارس الأخضر» أن يسمح لأيٍ كان بأن يضرب عنقه بالفأس على أن يتلقى المتحدي الضربة ذاتها بعد عام في نفس اليوم، ويوافق غواين ويقطع رأس الفارس الأخضر بضربة واحدة، ليقف الفارس الأخضر بعدها ويلتقط رأسه، ويُذكر غواين بأن يُقابله في الموعد المحدد، لتبدأ قصة صراع غواين ومغامراته وبحثه طوال الطريق إلى مكان اللقاء عن روح الفروسية والولاء.
فيلم «الفارس الأخضر» ممتع حقاً، فهو يتحدى المعايير القياسية للأفلام المبنية على أسطورة آرثر، ويفضل الأجواء المحيطية والمزاجية على الآكشن والمونولوجات، حيث يمتزج الأداء المميز للممثلين مع أسلوب المخرج ديفيد لوري المهتم بالصورة والتفاصيل والخدع، لينجم عن ذلك عملاً مثيراً يركز على التجربة أكثر من القصة.
«سير غواين والفارس الأخضر» قصيدة مهمة رومانسية عن تقاليد الفروسية، وهي مستوحاة من القصص الويلزية والأيرلندية والإنجليزية، وتعكس في أحداثها المثيرة وتصويرها السينمائي المبهر، حكاية بطل يذهب في رحلة محفوفة بالمخاطر تختبر قدراته وبراعته، وقد تم تقديمها في السينما والمسرح مراتٍ عديدة، بمعالجات مختلفة.
لا تترابط فصول الفيلم بإيقاع دائم ومستمر ومتوالي، ولكنه يحتوي على صور غنية بالذكريات ومليئة بالدلالات، ويصنع في كل مراحله لغته الخاصة المفعمة بالحيوية، والتي تزيد من وتيرته، وتدور الكاميرا في بعض الأحيان مثل عقارب الساعة تتقدم ثم تتوقف وتعكس الوقت، ويتحول مسعى «غواين» إلى مجرّد حلم، وفي بعض المشاهد إلي كابوس يوقظه على حياته وهي تسير نحو الموت.
يضع «ديف باتيل» لمسة مختلفة ومتميزه على شخصية «غواين» الذي من أجل تعطشه لأمجاد الفروسية، يقبل التحدي لمواجهة الفارس الأخضر.
يظهر إبداع سيناريو فيلم «الفارس الأخضر»، الذي كتبه المخرج ديفيد لوري، في طريقة سرده للأحداث، خصوصاً وهو يؤسس خلال السنة الفاصلة، ويبرز إلي أن الفعل الشجاع (قطع رأس الفارس الأخضر بضربة واحدة) لم يجعل «غواين» بطلاً، ويركز بدلاً من هذا المشهد على الرحلة الشاقة التي بدأها والتي لا يمكن التنبؤ بها، ويقود البطل المتهور عبر ساحات المعارك المروعة والغابات التي يلفها الضباب ليواجه في الطريق اللصوص الذين ينصبون الكمائن، وروحاً حزينة، وعمالقة يصدحون، وثنائي معقّد في قلعة غريبة.
تتميز كل مواقع تصوير الفيلم، بجمالها الغريب والخاص، ونراها تتدرج في الألوان مركزة على اللون الذهبي والأخضر والرمادي، ويظهر ذلك جلياً مع المستنقع الممتليء بالطحالب مقابل عباءة البطل الساطعة الألوان، في مزج له تأثيره للمناظر الطبيعية الباهتة، كما تتحدى درجات اللون الدافئة لعباءة «باتيل» الذهبية درجات اللون الباردة لـ «الفارس الأخضر»، والذي تتكون بشرته من خشب محفور وتعلوه لحية من الجذور الصلبة بلون العفن الأخضر، ثم يشتعل اللون الأحمر في كل مكان، منذراً بالتمرد والتشاؤوم، ليكون بمثابة تحذير، مع ظهور ثعلب أحمر رشيق يصبح صديق «غواين»، هذا التمازج المدهش واللقطات الشديدة التأثير قدمها المصور السينمائي «أندرو دروز باليرمو»، والذي عمل سابقاً مع المخرج ديفيد لوري في فيلمه (قصة شبح ــ A Ghost Story)، لا يوازن بين هذه الألوان مع لمسة مذهلة من الشاعرية فحسب، بل يخلق أيضاً نسيجاً ملموساً لدرجة تشعر أنك ترى واقعاً على الشاشة، تشعر خلاله بحلقات الدرع المعدنية ولحاء الشجرة وفرو الثعلب، وحتى كل جسد باتيل المتعرق.
كل هذا لا يبدو جميلاً فقط، بل أيضاً شديد الأهمية والأناقة، ويمنحنا شعوراً بمشاهد حية مثيرة بارزة التفاصيل، تكشف تلقائياً عن سرد متأني يحكي أحداث قصة الفيلم، ويضفي الغموض الذي يتناسب من أجواء الأساطير، كما تبدوا شخصيات العمل معبرة في انعكاس تام لما خلفها وحولها، ونجح «لوري» في رسم شخصياته عبر لحظات قصيرة بوضوح كامل وشديد الأهمية، وسمح لكل طاقم ممثليه في اطلاق العنان للتعبير عن الحب والحقد والعذاب والرغبة، ما حول كل مشهد إلى حدث مثير للتوتر ورائع في الوقت نفسه، ومع ذلك، فإن أداء «باتيل» وحده يجعل الفيلم شيئاً لا يجب أن تفوته، حيث أن بنيته الجسدية القوية، وشخصيته الفوضوية، وعينيه الحالمتان، كل ذلك يقول الكثير، وهو يخلق صورة آسرة ومعقدة لرجل يكتشف أخطاءه وقيمته.
بالإضافة إلى ضبابية حبكة الفيلم، لا يحاول المخرج الوقوف كثيراً عند التاريخ المعقد للملك آرثر وشقيقته مورغان، لكنه يركز أكثر في تقديم لقطات ومشاهد تؤسس
لتبرير دوافع غواين مع كل من يتعامل معهم، ويحاول أن يبرز شغفه تجاه الفروسية. ضمن إطار السيناريو جاءت الحوارات شاعرية وتحتوي على كثير من الاستعارات، وهو ما يتناسب مع أجواء القصيدة المأخوذ عنها الفيلم، قد تختفي بعض الكلمات، التي ينطق بها البطل بصوت خافت أو بهمسة أو صراخ، وبعضها الآخر يتعانق مع موسيقى واكبت مناخ الأسطورة، وركزت معظم مقاطعها على أنغام الناي والإيقاعات السريعة والغناء الكورالي المرتفع الصوت، لكنه لم يشذ وعانق اللقطات المثيرة وساعدها على البروز، وساهم في خاتمه غامضة، قد تزعج البعض وتسبب حالة من الانقسام، لكن يمكن القول أن المخرج ديفيد لوري، لم يكن يريد تقديم مغامرة تحتوي على أكشن وحركة وسيوف وخيول ومعارك، بل أراد أن يقذف بالمشاهد في آتون أسطورة ساحرة، أكثر من كونها فيلم خيالي عن خصله من معاني الفروسية.