أفلام لها تاريخ

«الفتوة» .. تحفة سينمائية نادرة

محاولة جادة وعميقة ترصد الأسباب التى تؤدى بالملايين إلي غياهب الفقر والظلم

«سينماتوغراف»ـ ناصر عراق

فى 29 إبريل 1957 عرض فيلم “الفتوة” للمرة الأولى فى سينما الكورسال، فى ذلك الوقت كان المصريون قد خرجوا للتو من معركة بورسعيد، حيث دحروا العدوان الثلاثى البغيض، واختير يوم 23 ديسمبر 1956 عيداً للنصر على إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، وكان جمال عبدالناصر قد اتخذ قراره الشجاع، وأعاد قناة السويس إلى شعبها قبل ذلك بعشرة أشهر ” 26 يوليو 1956″، وهكذا كان المصريون على موعد مع الحرية والأمل فى حياة أكثر عدلا وجمالا.

فى هذه الأجواء التى يحتفل فيها الشعب بقدراته على مواجهة الظالمين وإيمانه بالعمل من أجل مستقبل أفضل، عُرض “الفتوة” فى محاولة جادة وعميقة لإلقاء الضوء على الأسباب الرئيسية التى تودى بالملايين فى غياهب الفقر والظلم، بينما ملايين الجنيهات تملأ جيوب حفنة من التجار وأصحاب النفوذ.. شارحًا بذكاء التحالف المشبوه بين التاجر الجشع ورجل السلطة الفاسد!

اللافت أن شركة أفلام العهد الجديد التى أنتجت الفيلم كان يملكها فريد شوقى، ولعلك لاحظت أن اسم الشركة مرتبط بالعهد الجديد، والمقصود به عهد التخلص من النظام الملكى والاحتلال الإنجليزى، كما لاحظت أن فريد شوقى نفسه هو من كتب قصة الفيلم بالاشتراك مع محمود صبحى، وأن هناك أربعة أشخاص كتبوا سيناريو “الفتوة”، الثالث فى الترتيب هو العبقرى نجيب محفوظ الذى توقف عن كتابة الروايات فى تلك الفترة وبالتحديد من عام 1952 حتى سنة 1958 كما قال غير مرة، أما المشاركون الآخرون فى كتابة السيناريو فهم بالترتيب محمود صبحى، سيد بدير، صلاح أبوسيف.

 

"الفتوة" .. تحفة سينمائية نادرة محاولة جادة وعميقة ترصد الأسباب التى تؤدى بالملايين إلي غياهب الفقر والظلم

عندما تشاهد الفيلم الآن ستكتشف أمورًا كثيرة مهمة ومثيرة، منها أن المقدمة كتبت بخط النسخ الرقيق والجميل، ما يعنى اهتمام المخرج بأن يظهر فيلمه على الناس بأبهى صورة، ومنها أن هذه المقدمة مترجمة إلى اللغة الفرنسية، وهى عادة انطلقت مع بدايات السينما، حيث حرص القائمون عليها آنذاك على كتابة المقدمة العربية مصحوبة بترجمة فرنسية وليست إنجليزية، لأن المصريين خاصموا هذه اللغة باعتبارها لغة المحتل، وبرغم أن جلاء الاحتلال الإنجليزى عن مصر تم فى 18 يونيو 1956، غير أن عادة ترجمة المقدمة إلى الفرنسية ظلت مستمرة بعد ذلك عدة سنوات، حتى توقفت تمامًا مع مطلع الستينيات، باستثناء الأفلام التى يقدمها يوسف شاهين.

لا أحد يعرف لماذا وضع المخرج هذه العبارة بعد انتهاء المقدمة وقبل انطلاق أحداث الفيلم، وكأنه يريد أن يبشر الناس بأن الظلم الذى وقع فى العهد الملكى لن يعود، أو يؤكد أن طمع الناس لن يتوقف لا فى زمن الباشاوات ولا فى العهد الجديد، أو أن المخرج آثر أن يحذرنا من التساهل تجاه حقوقنا، حتى لا نترك فئة قليلة تنهب وتتحكم وتستبد، طالع منطوق هذه العبارة أولا ثم احكم: “وقعت حوادث هذه القصة أيام أن كانت فئة قليلة تتحكم فى أرزاق الناس وأقواتهم”.

 

"الفتوة" .. تحفة سينمائية نادرة محاولة جادة وعميقة ترصد الأسباب التى تؤدى بالملايين إلي غياهب الفقر والظلم

أعرف أنك تعرف حكاية الفيلم وتفاصيله، لكن لا بأس لو تذكرنا معًا بعض المشاهد المتميزة التى توضح براعة السيناريو ومهارة المخرج، ولا تنس أن هذا الفيلم صنع قبل 58 سنة، فلا تحكم عليه بمعايير زماننا، وإن كان “الفتوة” قادرا على الصمود أمام تغير الذائقة ونيل إعجاب المشاهدين من قرن إلى آخر.

خذ عندك.. يقدم لنا المخرج فى بداية الفيلم إطلالة سريعة على الأسعار المرتفعة فى ذلك الوقت، من خلال احتجاج الناس ضد بائع الخضار “الممثل الموهوب عبدالمنعم إسماعيل”، فنعرف أن رطل اللحم “453.6 جرام” ارتفع سعره إلى عشرة قروش، وأن “وقة/ كيلو وربع الكيلو” البطاطس أصبحت بخمسة قروش، والكوسة غدت بستة قروش، فلما انزعجت النسوة واحتججن من هذا الجنون فى زيادة الأسعار صرخ فيهن البائع قائلا: “ما لكم ومال الخضار.. خليكم فى النابت أحسن”! أى أن الفقراء لا يحق لهم تناول الخضراوات!

أما عندما يعمل فريد شوقى بدلا من الحمار المريض فى البداية، نتابع الكاميرا وهى تتنقل بين قدمى هريدى “فريد شوقى” المنهكتين من جرّ العربة، وبين أقدام أحد الحمير المتعبة، وحين يبتلع فريد طعامه نرى الحمار بجانبه وقد مدّ رأسه ليتناول طعامه من صاحبه، كل هذا إشارات إلى المستوى البائس الذى بلغه الإنسان فى ذلك الزمن وكأنه – أستغفر الله – مثل الحمار الذى لا يملك من أمر نفسه شيئا، أما اللقطات السريعة التى توضح حال القاهرة فى ذلك الزمن فتكشف لنا عن بعض الحقائق المثيرة، فصندوق البريد المعلق فى الشارع مثلا مكتوب عليه “صندوق الخطابات” باللغة العربية والفرنسية، ويبدو أنه مصمم بشكل جميل، كما رأينا عسكرى الشرطة الذى يقف فى الشارع لحماية الناس أو المبانى من أى اعتداء “بدر نوفل”، وإذا انتقلنا إلى سوق روض الفرج، فنلاحظ أن المخرج الذكى قد التقط عدة مشاهد عامة من بعيد للسوق، وهى مشاهد حقيقية كما سمعتها من صلاح أبوسيف شخصيًا، لكنه شيد مجسمًا للسوق فى الاستوديو ليتمكن من تصوير المشاهد التى تجمع النجوم، لأنه – كما قال – من المحال أن يصطحب فريد شوقى إلى سوق روض الفرج لأن الجماهير لن تمنحه أية فرصة للعمل.

فى بناء الفيلم نستطيع الجزم أن السيناريو كتب بحذق حتى يحافظ على عنصرى التشويق والجمال، وقد نجح فى تحقيق ذلك على أكمل وجه، ولن أطيل عليك، فقط سنراجع معًا المشهد الذى انتهى بمحاولة المجذوب “محمود السباع” قتل زكى رستم، فأنقذه فى اللحظة الأخيرة فريد شوقى، فى هذا المشهد يستعرض التاجر الرهيب أبوزيد مع رجاله الأشرار كيفية الاستحواذ على مزاد خضار وفواكه سيدر عليه أموالا كثيرة، لينتهى المشهد بمحاولة القتل، ثم ننتقل على الفور إلى أغنية تنشدها المجموعة، بينما الكاميرا تطوف فى الحقول المزدهرة بثمار الفواكه والخضراوات.

تقول كلمات الأغنية المعبرة بقوة عن حال الشعب مع التجار، والتى كتبها عبدالفتاح مصطفى ولحنها محمود الشريف “أراضينا حنينة وكريمة زينا/ الخير ده كله فين/ بيروح ما تشوفه عين/ والنيل دايما يزيد والزرع ماهوش لنا.. من شلة طماعين/ ما فيش فى قلوبها دين/ وبدم الشقيانين ها يقابلوا ربنا”.

أرأيت هذا التقابل بين محاولة قتل وأغنية تصدح بها الموسيقى؟ إنه براعة سيناريست ومهارة مخرج، من أجل تقديم فيلم يتكئ على فضيلتى التجويد والإتقان.

 

"الفتوة" .. تحفة سينمائية نادرة محاولة جادة وعميقة ترصد الأسباب التى تؤدى بالملايين إلي غياهب الفقر والظلم

الممثل العظيم تتألق قدراته أكثر مع مخرج عظيم، هذا قول صائب وحقيقى، وزكى رستم الذى يتربع على عرش قبيلة الممثلين الجبارين أعطى فى فيلم “الفتوة” درسًا ثمينا فى فنون التمثيل، لكل من أن أراد أن يقف أمام الكاميرا، من فضلك تأمل ملامحه المتأففة من الضابط الشاب “كمال ياسين” الذى وقف له بالمرصاد، وتابع تقلص عضلات فمه وهو يتصل بالهانم، وسيلته التى تصله بالباشا الكبير الذى لم يظهر على الشاشة أبداً، فى إشارة إلى أنه الحاكم الأول أو الملك أو المتحكم الأول فى الناس والعباد.

انظر إلى زكى رستم وهو يوبخ التجار الصغار الذين يترجونه أن يخفض سعر الطماطم، وكيف يتهكم عليهم، أو حين يخبره فريد شوقى أن الطماطم فاسدة وقد “يأكلها الناس من هنا وتموت من هنا”، فيسخر بثقة ودون لحظة وجل واحدة صائحًا
“وماله.. الدنيا زحمة.. خليها تخف”.

إذا أردت أن تعدد مزايا أداء زكى رستم فى هذا الفيلم فلن تكفينا هذه المساحة، فقط أذكرك بطريقة حواره مع ميمى شكيب “الهانم”، أو تحول مشاعره ضد فريد شوقى حين علم أنه من يدبر حكاية الغزولى، أو قراره بقتله داخل الثلاجة، أو نظرات عينيه المرعبتين المخادعتين وهو يحيه “وينقطه” فى ليلة عرسه.. أو.. أو.. وكلها مشاهد تكشف عن ممثل من طراز فريد لم يتكرر حتى الآن.

إن فيلم الفتوة.. تحفة سينمائية نادرة، يمكن القول عنها إنها فيلم كامل الأوصاف، رغم أن النقاد لا يحبذون إطلاق ألفاظ التفخيم هذه، لكنى متمسك بها، وإذا أردت أن تتأكد من صحة موقفى.. أرجوك شاهد الفيلم بتركيز مرة أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى