المهرجانات الأجنبية

«القصيدة شخصٌ عارٍ».. فينالي يستضيف العرض الأوّل لفيلم من السبعينيّات!

عرض الفيلم نموذج لقدرة الوسيط السينمائيّ على تحدّي الزمن

فييناـ «سينماتوغراف»: أحمد شوقي

نشاهد مئات الأفلام الجديدة كلّ عام، كلّ منها يحمل شغف صانعه، رؤيته وطاقته. ولكن نادراً ما نرى فيلماً وراءه حكاية ضخمة ومثيرة، تمنحه قيمة تاريخيّة بغضّ النظر عن أيّ تقييم لمحتواه. هذا ما ينطبق بكلّ المقاييس على الفيلم التسجيليّ «القصيدة شخص عارٍ» أو A Poem is a Naked Person، الذي صوّره صانع الأفلام الأمريكيّ الشهير «ليس بلانك» في الفترة بين عاميّ 1972 و1974، وحصل مهرجان فيينا السينمائيّ الدوليّ (فينالي) في نسخة 2015 على حقّ عرضه الأوروبيّ الأوّل!

نعم ما سبق صحيح. الفيلم يُعرض في أوروبا للمرّة الأولى، بعدما أقيم عرضه العالميّ الأوّل في مارس الماضي بمهرجان «الجنوب للجنوب الغربي» South by Southwest. والسبب يعود إلى أنّ الفيلم ظلّ أكثر من أربعين عاماً حبيساً بسبب رفض منتجه والشخصيّة الرئيسيّة فيه السماح بعرضه. المنتج هو ليون راسل، المغنّي، المؤلّف والمنتج الموسيقيّ الشهير، الذي تضمّ أعماله عناوين صنعها مع نجوم بحجم بوب ديلان، جورج هاريسون وجو كوكر، والذي كان وقت تصوير الفيلم يعيش أعظم أوقات نجاحه كنجم غنائيّ يتوافد الآلاف لحضور حفلاته، ويعمل مع كبار نجوم الغناء الأمريكيّ.

حكاية العمل

«راسل» أبدى حماسة وقتذاك لفكرة تصوير فيلم تسجيليّ عن حياته، وقرر تمويل المشروع الذي أسند إخراجه إلى ليس بلانك، الذي لم يسبق له في تلك الفترة أن قام بصنع أيّ أفلام طويلة، ليقوم بلانك على مدار سنتين بتصوير حفلات ليون راسل واجتماعاته الموسيقيّة بأصدقائه. بلانك قام بتسجيل مقابلات مع جيران طفولة راسل، صوّر أغاني يؤديها راسل ومعه نجوم المرحلة، حفلاته الصاخبة، والأهم: الجو العام لعالم الموسيقى خلال الحقبة، وبعض اللّقطات الرمزية التي كانت إحداها (لقطة طويلة لثعبان يلتهم فرخاً بالكامل) أحد أسباب رفض راسل أن يعرض الفيلم بعد إتمامه.

Leon-Russell-and-Ernest-Tubb-A-Poem-Is-A-Naked-Person-by-Les-Blank-lb823-0-2000-0-1125-crop

نتيجة عمل «ليس بلانك» كانت أبعد ما تكون عما تخيّله النجم الكبير. الفيلم مليئ باللّقطات الرمزيّة والمستخدمة لأهداف جماليّة تخصّ المخرج، والتي لا يبدو ظاهرياً أنّ لها أيّ علاقة بالموضوع الرئيسيّ، وحتى أحاديث راسل التي يحاول التحدّث فيها بعمق عن الموت والفنّ، يتم تقديمها بصورة أقرب للسخريّة اللّاذعة منها للإعجاب الحقيقيّ بالنجم الذي كان يعيش حياته حرفيّاً على طريقة نجوم السبعينيّات: الحياة البوهيميّة في المظهر وطريقة الحديث ومضمونه.

لم يكن من الغريب إذن أن يكره راسل الفيلم، الذي رأى أنّه «يدور عن أشياء أخرى غير ليون راسل»، وباعتباره المنتج وصاحب الحقوق قرّر منع الفيلم نهائيّاً من العرض التجاريّ، فلم يبقَ للمخرج سوى حقّ العرض في أماكن ذات طابع ثقافيّ، لليلة واحدة وبدون بيع تذاكر، وبدون أيّ شكل من أشكال الدعاية الترويجيّة للفيلم، أي أنّ الفيلم بقرار من منتجه وبطله صار حبيساً أبديّاً لقاعات المتاحف والمراكز الثقافيّة.

العودة للشاشة

الأمر تغيّر مع وفاة ليس بلانك عام 2013، ليقرّر ابنه هارود، المهووس بالفيلم بشكل خاصّ، أن يفعل كلّ شيء ممكن كي يجد الفيلم طريقه إلى النور. هارود بلانك الذي حضر لتقديم الفيلم في فيينا روى قيامه بمراسلة ليون راسل بشكل يائس على صفحة فيس بوك، ليفاجأ بأنّ راسل ردّ عليه، ليبدآ حديثاً حول والده الراحل، ويستمرّ الأمر حتى يقتنع راسل أخيراً بالموافقة على عرض الفيلم، بل ويحضر بنفسه العرض الأوّل خلال مهرجان «الجنوب للجنوب الغربيّ».

الموافقة لا يمكن أن نراها بمعزل عن حقيقة تغيّر الأوضاع وحجم الشعبيّة، فبينما كان راسل في السبعينيّات هو النجم وبلانك مجرّد مخرج صاعد يصنع فيلمه الأوّل، ابتعدت الأضواء كثيراً عن راسل (الذي يصعب لمن لم يشاهد الفيلم تخيّل حجم شعبيّته) بصورة تجعل لعودته في فيلم منسيّ لمخرج كبير راحل فائدة ترويجيّة له قبل كلّ شيء. الأمر الذي أكده ما كشفه هارود بعد عرض الفيلم في فيينا، من الترتيب لعرض جديد للفيلم يليه حفل غنائيّ لليون راسل ذي الثلاثة وسبعين عاماَ.Leon-Russell

قيمة التأريخ وأشياء سنراها يوماً

بعيداً عن حكاية الفيلم المثيرة، وعن مستواه الفنيّ الذي يحتاج مقالاً أكثر تفصيلاً يرصد الشكل الحديث لبناء عمل سيرة ذاتيّة بطريقة غير معتادة، فإنّ ظهور الفيلم بعد أكثر من 40 عاماً من تصويره نموذجاً يمكن أن يُضرب به المثل في قيمة الكاميرا كأداة لتوثيق اللّحظة والتأريخ الصامد في وجه كلّ الظروف. هذه مادّة تنقل قبل كلّ شيء صورة شديدة الوضوح لحياة السبعينيّات وثقافة العقد، بلقطات حيّة صادقة مثيرة، تجاوزت رفض مموّلها وعبرت السنوات لتُعرض في النهاية وتلعب دورها الثقافيّ، الفنيّ والتأريخيّ.

لهذا فإنّ عرض الفيلم لحظة احتفال في تاريخ السينما، أثار اهتمامنا هارود بلانك فيها بحديثه عن لقطات أخرى تمّ حذفها من نسخة الفيلم بسبب رفض أصحابها التصريح بعرضها، على رأسها نسخة ساخرة من أغنية فريق البيتلز الشهير «ليدي مادونا»، يقوم بأدائها نجم الفريق بول مكارتني بكلمات خارجة، لذلك رفض بشكل قاطع أن يصرح لابن المخرج بعرضها خوفاً على صورته. وإذا كانت لقطات السينما أبقى وأقدر على مواجهة الزمن، فربّما نتمكن يوماً في المستقبل من مشاهدة هذه الأغنية، وغيرها من اللّقطات التي رصدتها كاميرا السينما على مدار قرن ونيّف.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى