«المحاسب».. فقد كل ما حاول امتلاكه من مميزات
ـ محمد جابر
هناك عدة قصص، يحبها جمهور السينما دوماً، عالم التوحد وشخصياته هو أمر مثير دائماً للانتباه، أفلام المحاسبة والفساد داخل الشركات الكبرى، أفلام العصابات والشخص العادي في مواجهة مؤسسات إجرامية، أو حتى الحكايات الرومانسية بين أشخاص غير عاديين، وفيلم The Accountant (المحاسب)، الذي يعرض حالياً في صالات السينما حول العالم من بطولة بن أفليك وإخراج جيفين أوكونور، به القليل من كل قصة، ولكن هذا لا يعني أبداً أن تكون النتيجة النهائية جيدة.
تدور القصة حول كريستيان وولف (يقوم بدوره بن أفليك)، الشخص الذي نعرف من خلفية قصته أنه يعاني من مرض التوحد، ونتيجة لسمات هذا المرض (التي تابعناها سابقاً في أفلام مثل “رجل المطر” أو “عقل جميل”) يعمل حالياً كمحاسب ناجح وبارع في الأرقام والرياضيات داخل شركته المخصصة في الاستشارات الاقتصادية، والتي رغم حجمها الصغير إلا أنها تتعامل مع أخطر الشركات الإجرامية، حيث يكشف “كريس” أي تلاعب مالي من موظفي تلك المؤسسات، والأمور تسير بشكلها العادي قبل أن ينقلب كل شيء حيث تكتشف إحدى الشركات التي يعمل لها “كريس” خللاً مالياً عن طريق الموظفة دانا كامينج (أنا كيندريك)، وبعد أن يقترب من حل سبب هذا الخلل يفاجأ بمجموعة تحاول قتله، فيكشف عن جانب عنيف آخر في شخصيته، في نفس الوقت الذي يقوم فيه عملاء مخابرات بالبحث في حقيقة أعماله.
في الثلث الأول من الفيلم تسير الأمور بتتابعات منطقية، لا تجعله فيلماً خارقاً ولكن على الأقل فهي تتابعات مبشرة جداً لشخصية مُعقدة مثل مريض التوحد وفي أجواء إجرامية جديدة قد تضعه في صورة الشخص المطارد وتكون حياته مهددة بخطر مستمر، نعرف القليل المناسب عن شخصية “كريس” وتفاصيله اليومية التي تبرز طبيعته التوحدية، والقليل المناسب أيضاً عن طبيعة عمله والأشخاص الذين يتعاون معهم، وبالتالي كان من المحتمل أن يكتمل مسار الفيلم في هذا الصدام عن الشخص الذي يصبح مطارداً مع خلفية من القصة الرومانسية بينه وبين الموظفة “دانا”، ولكن رغبة الفيلم في الحصول على ما هو أكثر جعله في ثلثيه التاليين يتفرع إلى حدود ليس بالإمكان متابعتها، فيؤسس فجأة نقطة إضافية لشخصية “كريس”، لا يكتفي بكونه “متوحداً” و”بارعاً في الحسابات” و”يعمل مع العصابات”، ولكنه أيضاً يصبح خارقاً في استخدام الأسلحة والقنص والهرب ومشاهد الحركة، ما يجعل الشخصية نفسها تتحول لشيء هزلي وغير حقيقي.
تزداد الأمور سوءاً، حين يحاول الفيلم ربط وتأسيس شخصية “كريس” (الخارقة في تفاصيلها) بطفولته، فنعود إلى مشاهد “فلاش-باك” بينه وبين عائلته للكشف عن تفاصيل تخص ماضيه، وكل مشاهد الطفولة تلك –على الرغم من جودتها في ذاتها ككتابة وإخراج وتمثيل- إلا أنها خارجة عن سياق وإيقاع الفيلم بالكامل، فنصبح مع منتصف الفيلم تقريباً تائهين تماماً، ولا نعرف ما هو الخط الذي يجب أن نمنحه تركيزنا ونسير معه، فكل شيء يصبح متداخلاً.
الغريب أن هذا الفيلم، كان يمكن أن يصبح عملاً رائعاً، عن طفولة صعبة لطفل متوحد، أو فيلم حركة جيد (على نسق The Firm مثلاً) عن فساد الشركات من وجهة نظر اقتصادي مريض بالتوحد، ولكن دمجه لكل الخيوط المتاحة أمامه سبب تشتتاً واضحاً للجميع، حتى أداء بن أفليك، وعلى الرغم من أنه كان جيداً في بداية العمل حين انصب على جزئية محددة، إلا أنه فقد روح الشخصية لاحقاً مع تراكم التفاصيل، وكأنه هو نفسه لم يعد يعرف هل يظهر كشخص خارق وقوي وبارع في استخدام الأسلحة أم مطارد توحدي في موقف غير عادي، أما بقية الممثلين فقد كان وضعهم معكوساً، فنتيجة لضغط وزيادة تفاصيل الشخصية الرئيسية فإن شخصياتهم كانت فارغة إلى حد بعيد وتتسم ببعد واحد يخدم على “كريس”، فتصبح “آنا كيندريك” مرة أخرى في دور الفتاة الرومانسية الجميلة الموجودة في ورطة وتساعد البطل، ويتحول ممثل بقيمة “ج.ك سيمونز” إلى حضور تقليدي جداً للمحقق، فيفقد الفيلم في النهاية كل ما حاول امتلاكه.