«المختارون» إنحاز للجانب البصري على حساب القيمة
ـ إبراهيم الملا
كان جمهور الدورة الـ13 من مهرجان دبي السينمائي الدولي في ثالث أيامه، على موعد مع مفاجأة إماراتية جديدة وجريئة في طرحها وتنفيذها ورهانها على التفرّد والتجاوز محلياً وعربياً أيضاً، وتتمثل هذه التجربة المفعمة بحسّها الاحترافي وبتميّزها التقني في فيلم «المختارون» للمخرج الإماراتي على فيصل مصطفى، الذي سبق له تقديم أول أفلامه الطويلة «دار الحيّ» أو «مدينة الحياة» على شاشة مهرجان دبي في عام 2009، ثم قدم في مهرجان أبوظبي السينمائي عام 2014 فيلمه الطويل الثاني (من ألف إلى باء)، في إشارة إلى مدينتي أبوظبي وبيروت، ضمن بنية روائية اعتمدت التوليفة المشهدية المليئة بالانعطافات والمفاجآت غير المتوقعة في أفلام الطريق.
في عمله الجديد، يذهب على مصطفى إلى منطقة مغايرة وشائكة، أقرب ربما إلى المناخ الكابوسي والتشاؤمي لمدن المستقبل، أو مدن ما بعد الكارثة، اعتماداً على مؤشرات الفوضى الهدّامة في مناطق العالم المختلفة، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط بعد الثورات المزيّفة للخريف الدموي.
بقايا الخراب
تنطلق المشاهد الأولى في الفيلم من خرائب هذه الفوضى، وما ترتب عليها من خسارات بيئية وبشرية دفعت المجموعات الصغيرة المتبقية إلى إنشاء كانتونات نائية و«غيتوهات» منعزلة، تكافح من أجل بقائها وسط مساحات خارجية هائلة موبوءة بالمرض والموت والجوع والجفاف.
يضعنا المخرج مباشرة أمام الصورة العامة لحكاية الفيلم مع المشهد الافتتاحي الأقرب إلى الصيغة التنبؤية والاستشرافية لما ما يمكن أن نراه لاحقاً من أحداث صارخة، وفظاعات، وانتهاكات وحشية وبهيمية، عندما يغيب القانون وتختفي الدول، وتسود الغرائز البدائية. نرى في المشهد الاستهلالي سائق الشاحنة شعيب (الممثل سامر المصري)، وهو يصطحب معه عابر طريق يصفه شعيب بـ«المنذر» (الممثل حبيب غلوم)، ونستمع إلى حديث «المنذر» عن أصحاب الرايات السود وجنونهم العقدي انسياقاً وراء خرافات دينية مشوهة، وأن مَن يسميهم (المختارون) سيكونون هم طوق النجاة والخلاص، ويجب الحفاظ عليهم لإنقاذ أرض الديانات ومهد الرسالات، ولشفاء العالم من لوثة هؤلاء البرابرة الجدد.
في المشهد التالي مباشرةً، يضعنا المخرج وسط مسرح «الغروتسك» الغرائبي، في أرض الاستعارات المشوهة، وسينوغرافيا الحطام والوهم، ويقودنا مع خريطة التيه، إلى ما يمكن وصفه باللاّمكان، فكل شيء هنا متآكل، وطارئ، وعلى حافة الذبول والمحو، ففي مصنع قديم لصناعة أجنحة الطائرات، ومع وجود خزان وحيد للمياه النظيفة، تنشأ أولى بذور الصراع بين القاطنين في المصنع، وبين عصابات خارجية تسعى لاقتحام المكان المحصّن بالأسوار والأسلحة، من أجل الاستيلاء على مصدر الحياة الوحيد في المنطقة – في إشارة ذكية إلى حروب المياه المقبلة بين الدول – ووسط هذه الهشاشة الوجودية يسعى شعيب للحفاظ على حياة الأفراد القليلين المحيطين به، خصوصاً ابنه عيسى (الممثل محمود الأطرش) وابنته مريم (الممثلة راكين سعد)، ومع ندرة الموارد مثل الماء والطعام في الخارج، أو انقراضها بالأحرى، يبقى هؤلاء الأفراد منتمين ومخلصين للمكان الوحيد القادر على حمايتهم من الموت، ولكن هذا الطيف المرعب للموت لن يتأخر كثيراً، عندما يتمكن اثنان من الغرباء من التسلل وبحيلة ماكرة إلى المكان، من خلال التأثير على شعيب وعلى أفراد المجموعة، وإيهامهم بالإقامة المؤقتة التي تتحول لاحقاً إلى ما يشبه فصلاً من الجحيم، عندما يبدأ الوافد الجديد موسى (الممثل سامر إسماعيل) وبصحبة فتاة كردية غامضة ومريبة تدعى غولبين (الممثلة ميساء عبدالهادي)، في القضاء على الجميع، بتصفية جسدية مباشرة أحياناً، وبزرع المفخخات ونصب الكمائن القاتلة في أحيان أخرى، يبدأ موسى بطعن شعيب أمام الجميع، ثم يختبئ في دهاليز المصنع لتبدأ سلسلة القتل بمشاهد قاسية وموغلة في العنف والشراسة، إضافة إلى ظهور عنصر متمرد من داخل المجموعة وهو المثقف جمال (الممثل علي سليمان)، الذي يطمح لقيادة المجموعة كبديل لشعيب، حيث ينتهي به المطاف إلى النفي خارج أسوار المصنع والسقوط في فخ الموت الذي بات ينصبه موسى في كل مكان من أجل هدف غريب وهو التعرف على الشخص «المختار» القوي والأجدر بالبقاء في المجموعة، وسيكون هذا الشخص في نهاية الفيلم هو الابن (عيسى) الذي يترك المكان بعد تفجير خزان المياه وموت الجميع، وبعد قضائه على منافسه الأخطر (موسى).
رموز وإسقاطات
حمل فيلم (المختارون) الكثير من الرموز التي يمكن إسقاطها على الواقع العربي، خصوصاً في بؤر التوتر والفوضى الدموية، وكانت دلالاته الدينية واضحة من خلال اختيار أسماء حاضرة في الموروث العقائدي للرسالات السماوية مثل «شعيب وموسى وعيسى وداوود ومريم»، بجانب المصطلحات المرتبطة بفكرة نهاية العالم مثل: المنذر، والمختار، والمخلّص.
تعيدنا مناخات الفيلم لأعمال سينمائية شهيرة عالجت التصورات السوداوية لنهاية العالم مثل فيلم «ماكس المجنون» بأجزائه المختلفة، وفيلم «كتاب إيلاي»، وفيلم «الطريق» للمخرج جون هيلكوت.
امتاز الفيلم أيضاً بمعالجاته السمعية والبصرية المتقنة في ما يتعلق بمشاهد القتال، ومشاهد الحركة والتلاحم العنيف بين المتصارعين على النفوذ والسلطة، ويعد الفيلم من النتاجات السينمائية العربية النادرة والمتفوقة في امتلاك الشرط التقني الصعب لمؤثرات الغرافيك المقنعة واللصيقة بأجواء الفيلم، تفوق يكاد يلامس التفوق الهوليودي في تنفيذ هذه النوعية من الأفلام. ولكن الاهتمام بالبنية الروائية وبالحوارات خصوصاً ربما جاء أقل من مستوى الطموح التقني للفيلم، وباستثناء الحوار في المشهد الأخير بين شخصية (المنذر) وبين (عيسى) الناجي الوحيد من مذبحة المصنع، فإن أغلب الحوارات وكذلك الانتقالات المشهدية والأبعاد الشخصية جاءت كأجزاء جانبية ومهمشة مقارنةً بالجانب البصري المفعم بالإثارة الخارجية، وبالضراوة المشهدية في كادر الصورة المصوغ أساساً على ثنائيات الدمار والفَناء، ولو انحاز السيناريو إلى البعد الأدبي والبحث الفلسفي لمثل هذه المواضيع المستقبلية الداكنة لاستطاع امتلاك التوازن المطلوب بين القيمة النوعية والشكل المتماسك، ولاستطاع التوليف بين الطرح العميق والأسلوب التجريدي للأفلام المعاصرة، وأفلام ما بعد الحداثة.