المخرج المكسيكي كارلوس رايغاداس.. حب متطرف جميل نحو سينما حرة بلا حدود
عالم السينما جميل ورائع ولكنه قاسي وفيه الكثير من المعاناة بوجود عوائق انتاجية وقوانين السوق التي قد تحد من حرية السينمائي وتدفعه للتنازل عن بعض أفكاره أو قيم جمالية وفنية، ولكن هناك من لا يقبل أن يتنازل قيد شعرة ويؤمن أن الإبداع يجب أن يظل حرا طليقا، المخرج السينمائي المكسيكي كارلوس رايغاداس مثالا مهما لهذا النموذج النادر، سنتوقف معه ولحسن الحظ بثت إحدى القنوات السينمائية مقابلة وحوار تم قبل أربع سنوات في جنيف على هامش مهرجان فيستيفال بلاك موفي حيث تم عرض فيلم «بوست تينيبراس لوكس» وقد حصل على جائزة أفضل مخرج بمهرجان كان السينمائي 2012، ما يهمني هنا محاولة فهم كارلوس رايغاداس ووجهة نظره تجاه قضايا تقنية وجمالية لا أقول تساعدنا في فهمه ولكن تقربنا من عالمه الساحر، يصعب ترجمة هذا الحوار وعرضه لكم، لكني أود تلخيص نقاط مهمة وفهمي الخاص لها وليس ترجمتها أو نقلها حرفيا.
يتحدث كارلوس عن دوافعه لعمل سينما ويلخص هذا بالرغبة في مشاركة الآخرين بعض الأفكار والأحاسيس، هذه الرغبة يقدمها في شكل مركز وهو يحب الصور الفوتغرافية المتحركة، السينما يراها ليست الحكايات ولكنها هذه الصور الفوتوغرافية التي تتحرك لذلك يحب تحريك الكاميرا ولا يدعها تقف أو تستريح ويحظها أن تلتقط حضور الكائن الإنساني والمنظر الطبيعي.
أهمية الحكاية
لا يهتم كارلوس بالحكاية ذات الأحداث والتسلسل المنطقي والدرامي ويرى أنه يصعب علينا الجزم بفهم الموسيقى مثلا ولكننا نقول نحب وكذلك مع الفن التشكيلي نستخدم هذا الفعل، ويجد الجزم بفهم السينما أمرا غريبا، السينما عرض تجريدي للأدب وهو يرفض تصنيفه كسينمائي تجريبي فالسينما برأيه بعيدة عن التجريب والصدف والفيلم له تخطيط وبناء ويوجد حوار ويتم كتابة سيناريو ويعرف ماذا يريد من كل لقطة، يؤكد بوجود لغة تعبيرية في أفلامه ليست تعبيرات أدبية ولكنها ليست تجريبية.
في اللقطة السينمائية توجد لغة وأسلوب تعبيري وعلاقات بين العناصر من كل هذا يخلق المعنى، والعناصر الموجودة في اللقطة لها أسس منطقية ولا يُشترط أن تعتمد على المنطق الأدبي ولكنها منطقية وليست صدف وهذا غير موجود في السينما التجريبية حيث يتم بناء عالم من الصور التي قد لا تكون مترابطة ولا تجمعها علاقة لا تهتم بالمعنى الذي سيولد.
كارلوس يوضح أنه يهتم بكل لقطة ومشهد ويستخدم القطع القوي ولكنه يحرص ويتمنى دائما أن تظل كل المشاهد متماسكة وذات علاقات تدور في نفس العالم ويتحاشى خلق عوالم متنافرة ولكن بطبيعة الحال نجد بعض المشاهد قوية ودائما ما نجد مشهدا ساحرا وقد لا يكون أساسي ضمن القصة لكنه ينطبع في أذهاننا، نفهم منه أن أي تجربة سينمائية تنضج بالممارسة والعمل وقد يغير السينمائي أسلوبه وهذا ليس عيبا، فالتعلم من الأخطاء أمر ضروري ولا يجب المكابرة والعناد بل يجب السعي لتقديم الأفضل.
كتابة السيناريو
يرفض كارلوس رايغاداس الأفلام التجارية ولا يرى السينما تجارة واستثمار ربحي، نرى في أفلامه وجهة نظر قد يصعب فهمها ويصعب تحليلها ويصنفه البعض بالتطرف الجمالي ولكنه يرفض السينما التي تخدع وتغش متفرجيها، فالمخرج السينمائي يعرض رؤيته حول العالم وقمة الجمال أن ترى نظرتك تعرض من خلال الشخصية التي تخلقها وأكبر هدية أن يمنحك أحدهم روحه لتحشوها بكل ما تريد.
سينما رايغاداس، هي مختلفة والحكاية لا تأتي في المرتبة الأولى وهو يميل ويوظف الكاميرا أولا لعمل اللقطة وكل لقطة لها أسلوب وطريقة واحده لخلقها وهو يكتب سيناريو يحتوي على رؤيته لكل لقطة وعند التصوير يحرص أن يصور اللقطة كما هي في رأسه ومدونة في السيناريو والفيلم في نهاية المطاف تصوير وعرض لما تخيله، ولديه أسلوب تقني فعندما تأتي فكرة أو موضوع في رأسه يجعلها تختمر ومع ميلاد الشخصيات والأماكن في خياله، يسارع في كتابة السيناريو مباشرة في مدة قصيرة يومين أو خمسة أيام على الأكثر، بعد هذه المرحلة يكون الفيلم شبه جاهز وتأتي مرحلة التصوير والمونتاج كمراحل تنفيذ.
رايغاداس لم يدرس في معهد سينمائي ويوضح أنه تعلم السينما من خلال مشاهدته للأفلام وهو يميل لطريقة هيتشكوك في تحديد كل لقطة وأحيانا رسمها وتحديد زمنها وهذا لا يعني أن يكون السيناريو مغلقا، هناك لقطات يكون وصفها في السيناريو فمثلا مشهد ركض الكلاب والخيول وحركة البقر والطفلة في فيلم «بوست تينيبراس لوكس»، السيناريو يصف ما يوجد في الكادر ويشير إلى الحركة ولكن لا يمكن وصف الحركة بتفاصيل دقيقة فالحيوانات والأطفال الصغار يصعب جدا توجيههم ومطالبتهم بفعل دقيق ومحدد جدا.
تحديد حجم وزاوية الكاميرا وما يحتويه الكادر وكل ما يتعلق بها لا يعني غلق العقل كليا خلال التنفيذ وقد يحدث بعض التعديلات الطفيفة ويصف عمله كسينمائي بالمهندس المعماري خلال التنفيذ قد يكبر مساحة نافذة أو يستحدث نافذة عندما يرى أنها مهمة وستزيد المبنى جماليات أكثر.
جماليات مدهشة
يفضل رايغاداس الممثل غير المحترف وبالنسبة للتعامل مع الممثلين الغير محترفين قد تحدث حوادث وأحيانا تكون لها جماليات غير متوقعة ومدهشة وما يحدث في الواقع خلال التصوير والخارج عن تحكمنا مثلا هبة نسيم أو نظرة تعبيرية من وجه ممثل مثل هذه الأمور تغذي الفيلم بجماليات واقع اللحظة وهذا رائع فالسينما تصويرية وكالفن التشكيلي قد يلتقط لحظة ساحرة لم تكن في خيال الرسام عند التفكير في المنظر.
بخصوص اختياراته لممثليه الغير محترفين يوضح كارلو رايغاداس بعدم وجود قاعدة ولا شروط والمسألة أشبه بنظرة اعجاب وهو لا يحدد خلال كتابة السيناريو المواصفات الجسمانية الدقيقة في كل شخصية، ولكن يحدد صفاته وملامحه مثلا رجل سكير أو ذو ملامح حزينة أو امرأة مغرية وهكذا يعني وصف قيمة الشخصية وما تحمله وليس شكله ومظهره الخارجي، ثم يبحث عن ممثلين في المقاهي والأسواق والشوارع وعندما يجد شخصا يحسه قريبا من شخصيته يعرض عليه الدور، فالشخص يكون فيه ولو جزء صغير من الشخصية في خياله كمخرج وكذلك تحس بوجود طاقة وروح يتم استكشافها ولا يتطلب تطويع الشخص وتدريبه ليؤدي الدور، بل تطويع الدور ليناسب هذا الشخص، فلا يجب مسخ الشخصية الواقعية وأن نطلب منها التحول لتلعب الدور، والتعامل مع الممثل غير المحترف يختلف من شخص إلى آخر، هناك من تعطيه الدور مكتوبا وهناك من يفهم بسرعة وقد تصادف شخصا يحتاج إلى شرح كثير، فالمسألة تشبه كيفية حديثك مع أطفالك ولكن المهم أن يؤدي ما أطلبه منه أمام الكاميرا ولا تهم الوسيلة.
شديد الذاتية
جميع أفلامه نجد فيها أشياء منه أي كارلوس رايغاداس، فهو قد يوظف كلابه مثلا في الفيلم أو أطفاله أو يصور في أماكن له معها ذكرى أو يُدخل في الديكور متعلقاته الشخصية أي أن الأفلام لا تنفصل عنه وهي ذاتية وبعضها شديد الذاتية ولكن تلتقي مع الكون والواقع وهو يرفض أن يعمل فيلما لكسب المال أو لهدف نفعي يتعارض مع وجهة نظره الفنية ولذلك يمتلك استديو مونتاج ومكساج لضمان دخل يقيه شر الحاجة إلى المال وهو يساهم في انتاج أفلامه ولا يحب أن يخضع لسلطة المنتج أو الممول ولا يسمح بأي إملاء أو توجيه من أحد، وهو يخرج الفيلم كما يحسه بغض النظر عن الاعتبارات المادية وهو يتحاشى المشاهد ذات التكلفة المادية الباهظة.
المخرج السينمائي يعبر عن واقعه والمناخ الذي يعشه لذلك سنشعر أن كارلوس رايغاداس يقول في أفلامه ماذا يعني المكسيك وأن تكون مواطن مكسيكي وهو لا ينكر هذه النقطة ويراها طبيعية، لكن هذه الأسئلة لا يتم عرضها بطرق مباشرة كون المباشرة تقتل العمل الفني وتدمره.
يرى رايغاداس أن النقد مهم جدا وضروري كونه ينعش الحوار حول الفيلم وهناك نقاد يكتبون بجدية وهناك نوع تهريجي وسطحي.