مقالات ودراسات

الناقدة السينمائية إميلي بيكرتون تكتب .. هل هي نهاية عصر السينما الأوروبية؟

ـ إميلي بيكرتون

إذن تلك هي النهاية. فمع رحيل جان لوك غودار وجان ماري ستروب العام الحالي، أسدل الستار عن اثنين من المخرجين الأكثر راديكالية في القرن العشرين، وبعدهما اقترب عصر عظيم من عصور السينما الأوروبية من نهايته.

كانت أفلامهما غير المصنفة غنية بصور الماضي والحاضر، حيث عرضت مجموعة كاملة من المراجع التاريخية والفلسفية والموسيقية. وفي حين حافظ غودار على شهرته بفضل نجاحاته التي حققها في أوائل ستينات القرن الماضي والتي جعلت أفلامه بين أكثر كلاسيكيات السينما العالمية شهرة، فإن أفلام ستروب وشريكه داني هويليت بالكاد حظيت بالمشاهدة، رغم دفاع رواد السينما عن أفلامهما باستمرار. ما قدمه لنا هؤلاء المخرجون في أعمالهم المختلفة والمتطرفة أحياناً عَكَس – وبوضوح – حال السينما وما يمكن أن تكون عليه لاحقاً.

غادر الجمهور دور العرض الأوروبية بعد أن عانت من الوباء، لتترك صناعة السينما في حالة يرثى لها. فأعداد الحضور في جميع أنحاء القارة آخذة في الانخفاض، وكذلك أعداد الأفلام، وأسعار التذاكر آخذة في الارتفاع. ومنصات البث التي تقدم نموذجاً لمشاهدة الأفلام بأسعار أرخص وبأساليب أبسط وأكثر راحة من القيام برحلة إلى السينما، مسؤولة عن هذا الوضع الذي نعيشه. ورغم تكرار الحجة الشائعة القائلة إن الابتكارات التكنولوجية – ظهور البث الإذاعي ثم التلفزيون – لم تؤدِ إلى زوال السينما، فإن انتشار الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي يمكن الوصول إليها بسهولة أدى إلى إضعاف رغبة الناس في البحث عن أفلام أكثر تحدياً.

ومع ذلك، للحكم من خلال مجموعة الأفلام التي أنتجت العام الحالي، ما من نقد يمكن أن يوجه لجودة صناعة الأفلام الأوروبية. فكثيراً ما خرجت من دار العرض منبهراً، ومنزعجاً، وأحياناً مشجعاً. قد تتعرض السينما لتهديدات من خلال تغيير عادات المشاهدة ونقص التمويل للأجور غير المقيدة، وضيق المساحات الجمالية، وعدم الاطلاع على ثقافات الغير، لكنها تستمر على أي حال. فبعد أكثر من مائة عام من إعلان الأخوين لومي قرب وفاة السينما – لا تزال السينما تزدهر بالحياة.

الكثير من هذه الحيوية ينبع من أعمال المخرجات النساء. ها هو فيلم «في صباح أحد الأيام الجميلة» للمخرجة الفرنسية مايا هانسن لاف، يعرض أفضل ما لديها بعد أن جمع بين كل الصفات المثيرة للإعجاب في صناعة الأفلام – الدراما العاطفية الهادئة والملاحظات الدقيقة للتفاعل البشري وتطور الشخصية والقصص المتجذرة في المدن – لتضعها معاً في قالب بسيط عن علاقة امرأة جديدة تتطور بالتوازي مع التدهور العقلي لوالدها المسن.

كذلك أضافت الألمانية أنغيلا شانيليك فيلماً رائعاً إلى سجلها السينمائي المثير للإعجاب بالفعل. يسرد فيلم «كنت في المنزل، لكني.. ». القصة من خلال سلسلة من المشاهد المحلية من رقص ساحر إلى تفاوض حول دراجة معيبة، إلى الاستجابة الصعبة لعودة ابنها إلى المنزل بعد غياب دام أسبوعاً. جرى إنتاج الفيلم في الأصل في عام 2019. لكنه تأخر بسبب الوباء شأن العديد من الأفلام الأخرى، قبل أن يُطرح في دور السينما الفرنسية في عام 2022.

شهد العام الماضي أيضاً استمرار ازدهار أفلام الطبقة العاملة، أو «البروليتكينو»، وهو نوع من الأفلام ولد في الاتحاد السوفياتي مع بداية عام 1920. كانت البروليتاريا أكثر قوة مما هي عليه اليوم في أوروبا، ما بعد الحقبة الصناعية، لكن في العقود الأخيرة سجلت الأفلام من هذا النوع عودة مثيرة للإعجاب والدهشة في جميع أنحاء القارة. هذا النوع من أفلام «البروليتكينو» الجديدة، كما سميته، شهد عاماً مزدهراً آخر.

أنتج الأخوان داردين، صانعا الأفلام البلجيكيان اللذان كانت لهما مسيرة مهنية ناجحة مع الأعمال الدرامية الاجتماعية التي تدور أحداثها في مدينة فولاذية قديمة، أحد أقوى أفلامهما – والأكثر كآبة – حتى الآن والذي حمل اسم «توري ولوكيتا». يدور الفيلم حول طفلين مهاجرين من بنين يهبطان في فرنسا، والمعاناة الجديدة التي يدخلانها عندما لم يتمكن أحدهما من الحصول على الأوراق المطلوبة. كذلك عاد المؤلف البرتغالي بيدرو كوستا إلى موضوعاته القديمة حول مهاجري الرأس الأخضر في الأحياء الفقيرة في لشبونة برسوماته وأشعاره التي حملت عنوان «فيتالينا فاريلا».

في فرنسا، اختتم أوكفان بريز ثلاثية أفلامه الرائعة التي تعكس عالم العمل الحديث. ففي فيلمه «عالم آخر»، يركز على الضغوط التي يشعر بها المدير الذي كان قريباً من عماله، لكنه اضطر الآن إلى تلبية مطالب مستحيلة بزيادة الكفاءة وفرض تسريح العمال على نطاق واسع. إذا نظرنا إلى تاريخ الأعمال السينمائية خلال العقود القليلة الماضية، سنجد أن عدداً محدوداً من الأفلام قد فاق ثلاثية أوكفان بريز.

كان العام الماضي عاماً جيداً للأفلام الوثائقية الروائية، بما في ذلك فيلم جوناس تروبا الطموح «من يمنعنا؟»، فعلى مدى خمس سنوات وعلى مدار أكثر من ثلاث ساعات، يرسم الفيلم حياة الشباب في مدريد وهم ينتقلون من المراهقة إلى العشرينات. فالفيلم هنا بمثابة استمرار لسلسلة مثيرة من الأعمال الحديثة التي تمزج بين الفيلم الوثائقي والخيال الذي تعود جذوره إلى المسلسل التلفزيوني البريطاني الكلاسيكي للمخرج مايكل أبتيد «سفين أب»، إنتاج عام 1964. وتشمل أيضاً مسلسل «الصبا» لريتشارد لينكلاتر (2014) و«المراهقون» لسوفباستيان ليفشيتز (2019). في التزاوج بين الاهتمام الاجتماعي والتجربة الرسمية، تعرض أفلام تروبا طريقاً جديداً مثيراً للسينما الوثائقية واستكشافاً وتوسيعاً لإمكانيات هذا النموذج من الأعمال الدرامية.

ربما ليس هناك مثال على هذا المزج بين الواقع والخيال أفضل من أليس ديوب، الخبيرة الوثائقية الفرنسية التي كان أول فيلم روائي طويل لها بعنوان «سانت أومار»، الذي كان ضمن تشريحات «أوسكار» لأفضل فيلم دولي.

الدراما المُحكمة، استناداً إلى القصة الحقيقية لجرائم قتل الأطفال، تستحق التقدير، وكذلك السيدة ديوب في فيلمها الوثائقي «نحن»، الذي عرض بدور السينما في وقت سابق من العام الحالي والذي يسلط الضوء بوعي وحساسية على تجربة الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين في ضواحي فرنسا.

وداعاً السيد غودار والسيدة ستروب.. لقد فقد عالم السينما اثنين من عمالقته. فناهيك عن الفقدان، هناك أسباب جوهرية تدعو للقلق، خاصة فيما يتعلق بالتوزيع – الذي يقلل من عدد الأفلام إلى عدد محدود من الأفلام في مواقع حصرية – ونقص التعليم السينمائي المفترض أن يبدأ في المدرسة. كان السيد غودار، بصفة خاصة، مرشداً رائعاً هنا، فأفلامه في حد ذاتها بمثابة دروس في تاريخ السينما، وليس هناك من يستطيع الجلوس على عرشه في القرن الواحد والعشرين.

لكن ما زال هناك وقت. وهناك عدد قليل من رواد السينما التواقين للمشاهدة في قاعة العرض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى