أحداث و تقارير

انتصار دردير تكتب: «القضية رقم 23».. تكشف المكبوت اللبناني والوجع الفلسطيني

 ـ  انتصار دردير

تشتعل النيران من مستصغر الشرر، هذا ما ينتهي إليه الفيلم اللبناني «القضية رقم 23» للمخرج اللبناني زياد دويري، الذي عرض مؤخراً في مهرجان فينيسيا وتوج بطله الممثل الفلسطيني كامل الباشا بجائزة أفضل ممثل، كما شارك في مهرجاني تورنتو وتيللورايد فيما رشح ليمثل لبنان في مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، ويشارك في مسابقة الأفلام الطويلة بالجونة السينمائي، ومنحت مجلة فارايتي الأمريكية مخرجه جائزة أفضل موهبة عربية في احتفال أقيم علي هامش المهرجان.

ساعتان من حبس الأنفاس هي مدة عرض الفيلم، الذي يستحوذ عليك وتتعاقب أحداثه ومشاهده في تطور مثير دون أن تطرف عينيك بعيداً عن الشاشة.

عبر موقف يتكرر كثيراً في حياتنا، تنطلق أحداث الفيلم التي تبدأ هادئة بين لبناني يمتلك ورشة لتصليح السيارات وزوجته الجميلة التي تنتظر قدوم مولودتها الأولي وزوجها يتطلع لذلك بشغف فيضع يده علي بطنها يتحسس حركة الجنين، ثمة حوارات عادية بين الرجل وزوجته التي تحثه علي الانتقال لبيت جديد لأجل طفلته القادمة، وتقترح الإقامة في بيت أسرته، فينفعل بشدة دون مبرر مفهوم سيتضح لاحقاً. وبينما يروي الزوج الزرع في شرفته تتساقط مياه الري علي جاره الفلسطيني ياسر سلامة الذي يصعد إليه ليعاتبه، إلا أن اللبناني يرد قائلاً: «ياريت شارون محاكم عن بكرة أبيكم»، مما يدفع الفلسطيني المكلف بمهمة إصلاح في المنطقة إلى كسر «المزراب» الخاص باللبناني، وتندلع معركة بينهما وتفشل محاولات الصلح حيث يطالبه طوني بالإعتذار، ويرفض ياسر، وحينما تلوح بادرة تقدم الفلسطيني باعتذار عن كسره مزراب المياه،  يبادره اللبناني قائلاً «أنتم شعب بلا أصل وليس غريباً أن ترفض الاعتذار»، مايثير ياسر ويضربه، مما يعرض طوني حنا لإصابات بالغة يُنقل علي أثرها للمستشفي، بينما تصدم زوجته وتتعرض لولادة مبكرة حيث يتم إدخال الطفلة الحضانة.

طوال أحداث الفيلم يستعين المخرج بلقطات أرشيفية للرئيس اللبناني الأسبق بشير جميل، وهو يؤكد سياسته التي تتلخص في «لقد أصبح الفلسطينيون مرفوضون بسبب توجهات قيادتهم والمهم آلا يبقوا هنا».

يتحول اعتداء ياسر تجاه طوني حنا إلي قضية في المحكمة، ويحاول القاضي معرفة أسباب تحول ياسر المسالم المفاجيء للعنف، إلا أنه يرفض الإشارة إلي شتائم طوني له، وعندما يتم الحكم بالبراءة للفلسطيني، يتهم اللبناني القاضي بالفساد ويتدخل أحد المحامين الكبار ليسانده وتتحول إلي قضية رأي عام.

وفيما يشتعل الشارع اللبناني بالحدث وينقسم بين مؤيد ومعارض، ويتدخل الإعلام ليفتح الملفات القديمة بين الفلسطينيين واللبنانيين، ويفند كلاً منهما حججهما ومبرراتهما، يزداد الموقف إثارة، بينما المتنازعان في حيرة ولا يتزحزحان عن موقفهما رغم أن زوجة كل منهما تحث زوجها عن التراجع وتؤكدان أن الأمر لم يكن يستحق كل هذه المعركة.

 ومن خلال سيناريو متدفق لاهث تتسارع وتيرة أحداثه داخل المحكمة العليا حين ينضم لصف طوني المحامي الشهير وجدي وهبة، والذي يجند كتيبة من المحامين لتأكيد إدانة الفلسطيني، ويبحث في تاريخه ويكشف عن مواقفه السابقة في اعتداءات مماثلة، ليثبت عنف الفلسطيني بينما المحامية الشابة التي تساند ياسر تدفع ببطلان كل هذه الإتهامات وتؤكد براءة موكلها.

من وقت لآخر يدفع المخرج بمفاجآت في الأحداث، حين نكتشف أن المحامي وجدي هو والد المحامية الشابة وهناك حالة تحدى بينهما من يكسب القضية.

دويري الذي يردد دائماً أن اللبنانيين رضعوا القضية الفلسطينية مع الحليب لا يتردد عن تعرية واقع مر يتقاسمه الجميع علي السواء .

 وتكشف وقائع المحاكمة حالة الانقسام في المجتمع، وقد عمد المخرج أن يقف علي مسافة واحدة من طرفي الأزمة، فما إن تميل كفة أحدهما حتي يسارع بكشف حقيقة جديدة تحسن موقف الآخر، ولم يكن ذلك في اعتقادي إلا لإيمانه وقناعته أن الطرفين وقع عليهما ظلماً، وهو مايثبته خلال المحاكمة مستغلاً براعة المحامين.

ومثلما تفاجئنا بأن محامية الفلسطيني هي ابنة محامي خصمها اللبناني، تُفاجئنا الأحداث بتغير موقف المحامي ذاته وابنته فكل منهما يلتمس العذر لخصم موكله وهو ما يؤكد عليه المخرج في النهاية، وإذا كان ياسر سلامة لاجئ فإن طوني حنا لاجئ مثله فقد أفراد أسرته خلال الحرب الأهلية ويرفض الذهاب إلي بيت عائلته الذي تم تدميره، وبالتالي لا أحد منهما يحتكر المعاناة، حيث ينأى الفيلم، الذي كتبه دويري وجويل توما، بنفسه عن تقسيم الحياة والساحة اللبنانية إلى ضحايا ومذنبين أو إلى أخيار وأشرار.

ومن ثم، لم تعد القضية قضية ياسر وطوني وأصبحت أي محاولة منهما للإقرار بالذنب بأي صورة من الصور «خذلاناً» للجانب الذي يؤيد ما يتبناه من فكر.

صحيح كانت هناك أكثر من نهاية في الربع الأخير من الفيلم، إلا أن ثمة تفاصيل إنسانية سلط المخرج عليها الضوء، فحين يدير ياسر سيارته بعد فاصل من المحاكمة يكتشف أنها معطلة ويلاحظ طوني ذلك فيعود بسيارته ويقف ليصلحها، وفي لقاء الرئيس بهما نتصور أن هناك أمراً رئاسياً سيصدر لينهي هذه المعركة لكنها تستمر مشتعلة، ثم يختار المخرج نهاية تؤكد عدم إدانة ياسر، وخارج المحكمة نلمح ابتسامة علي وجه كل من الفلسطيني واللبناني.

الفيلم ملئ بتفاصيل غنية نسجها المخرج الموهوب بإتقان، وعزفها معه فريق عمل بديع سواء التصوير أو المونتاج والموسيقي الموحية لايريك نوفوه، أما التمثيل فيستحق أيضاً الممثل اللبناني عادل كرم جائزة، فقد كان شديد التميز أمام كامل الباشا.

السجال الذي يرافق دائماً أفلام زياد دويري يبدو أن مؤشره ارتفع مع «القضية رقم 23» خصوصاً أنه نكأ جرحاً عرى الفساد الثقافي اللبناني قبل السياسي، وأزال حاجز  الكراهية ليكشف من وراء الستار مشاعر إنسانية دافئة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى