«انطباعات رجل غارق».. أسطورة قبرصية غير مكتملة
أحمد شوقي يكتب لـ «سينماتوغراف»:
«رجل يستيقظ فيجد نفسه على شاطئ. لا يتذكر هويته ولا يمتلك مالاً. يقابل شخصاً يخبره أنه ممثل ويقوده نحو مدينة صغيرة، ليكتشف هناك أنه الشاعر اليوناني كوستاس كاريوتاكيس الذي انتحر عام 1928! ».
الملخص السابق يبدو ملائماً جداً لصناعة فيلم تشويقي، يقوم على لغز غامض حول هوية البطل، وربما ينتهي بحل مفاجئ يقوم على اكتشاف ما يصل له البطل خلال بحثه، أو أي بديل آخر وفقاً للمسارات المعتادة للأفلام التشويقية. لكن المفاجأة الحقيقية هي أن فيلمنا هذا لا يسير وفقاً لهذه التوقعات على الإطلاق.
الفيلم هو «انطباعات رجل غارق» أو «Impressions of a Drowned Man»، العمل الطويل الأول للمخرج القبرصي كيروس بابافاسيليوس، والذي عُرض للمرة الأولى عالمياً مطلع العام الجاري في مهرجان روتردام السينمائي الدولي، ووجد طريقه لمصر ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان الأسكندرية الحادي والثلاثين لدول البحر المتوسط.
إنتاج فيلم قبرصي ليس عملية سهلة، فدولة قبرص ليست معروفة بوجود صناعة سينمائية راسخة، ومعدل الإنتاج السنوي لا يتجاوز فيلم أو اثنين، ويمر العام أحيانا دون خروج أي فيلم قبرصي للنور. الوضع الذي أجبر بابافاسيليوس على أن يستمر في تصوير فيلمه منذ بداية 2012 وحتى نهاية 2014، بالرغم من أن عدد أيام التصوير لا تتجاوز 31 يوما، ثلاثين منها تم تصويرهم في قبرص، ويوم واحد في اليونان.
العلاقة الثقافية والتاريخية بين قبرص واليونان تلقي بظلالها على موضوع الفيلم، فالمخرج الذي ولد في قبرص ونشأ في اليونان، اختار شاعراً يونانياً ليحول الفيلم انتحاره إلى أسطورة بشكل ما.
أسطورة مغايرة
الفيلم ليس عن سيرة كوستاس كاريوتاكيس، بل لا يكاد يذكر شيئا عن حياته بخلاف انتحاره. وهو أيضا كما قلنا ليس عملا تشويقياً يسعى لحل لغز عودة الشاعر للحياة، ولكنه يحول انتحاره إلى أسطورة وجودية عنوانها «هل نريد البقاء في هذا العالم أم مغادرته؟».
وفقا لما يعرفه كوستاس عندما يقابل أشخاص يعرفونه ـ حبيبته السابقة ووالديه المتواجدين على قيد الحياة بصورة لا يشغل المخرج نفسه بتفسيرها ـ ففي كل عام تعود روحه للتجسد قبل تاريخ انتحاره، ليعيد معايشة اللحظات الأخيرة من قرار تركه للحياة. وهو قرار احتاج لجهد كبير، بعدما فشل الشاعر الحقيقي في أن يموت غرقاً بسبب إجادته للسباحة، ليطلق على نفسه النار، بعد أن يكتب قصيدة «انطباعات رجل غارق» التي تروي محاولته لإغراق نفسه، والتي اختارها المخرج لتكون عنوان فيلمه.
في القصيدة ينصح كاريوتاكيس من يريد الانتحار ألا يحاول إغراق نفسه إذا ما كان يجيد السباحة، لأنه في هذه الحالة «يتحرك الجسد بشكل معاكس للإرادة». هذا ما خطّه الرجل قبل رحيله، بينما يلمح المخرج في فيلمه أنه وبعد 90 عاماً من إعادة التجسد، يبدو أن إرادة الشاعر قد غيرت موقفها أخيرا، فهو ـ ولأول مرة ـ لا يريد أن ينتحر مجددا!
الاختيار الأسلوبي
المخرج كيروس بابافاسيليوس اختار لفيلمه أسلوبا تأمليا، يعتمد على اللقطات الطويلة سواء الصامتة أو الحوارية، والتي تستخدم أحيانا مقاطعا من القصيدة المذكورة. الأسلوب الذي مهد للفيلم مساره بعيدا عما توحي به الحكاية، وساعد على إنجاز بعض المشاهد المؤثرة، مثل مشهد زيارة البطل لمتحف مخصص للشعراء الذين انتهت حياتهم بالانتحار، أي أنه يذهب لمشاهدة نسخة متحفية من نفسه بعد 90 عاما من انتحاره، في مشهد حمل مفاجأة مهدت لنهاية الفيلم.
يبقى الفيلم، ورغم ذكاء صياغته ونضج اختيارات صانعة، يفتقد للكمال. ربما لارتباطه بمعلومات مرجعية كثيرة يحتاج المشاهد لمعرفتها قبل المشاهدة حتى تصل له الصورة كاملة، أي أنه عمل يخاطب ثقافة محلية بشكل أو بآخر. لكنها تبقى تجربة مغايرة آتية من دولة لم نعتد مشاهدة سينماها. تجربة تستحق المشاهدة وتمتلك عدداً من المشاهد المؤثرة، حتى لو لم تكن المحصلة النهائية بنفس قوة هذه المشاهد.