«باترسون» لجيم جارموش.. قصيدة السهل الممتنع
ـ رجاء العالم
فيلم باترسون Paterson من تأليف وإخراج المخرج المشهور جيم جارموش Jim Jarmusch، ويلعب بطولته الممثل الذي صعد نجمه مؤخراً آدم درايفر Adam Driver، والنجمة الإيرانية الأصل جولشيفتي فرحاني Golshifteh Farahani، واللذان يمثلان دور زوجين شابين من مدينة باترسون من نيوجيرسي. الزوج يعمل كسائق لحافلة نقل عام وهو في نفس الوقت شاعر ينظم الشعر كإيقاع سري على خلفية مجريات يومه، بينما الزوجة ربة بيت تشغل وقتها بالرسم، تلك المساحة من الحلم والتي تمارس فيها ولعها بلونين وحيدين هما الأبيض والأسود.
الفيلم هو أشبه بيوميات تبدأ مع بداية أسبوع العمل، أي يوم الاثنين مروراً بالثلاثاء والأربعاء وهكذا حتى ينتهي للاثنين من جديد حين تظهر عبارة النهاية، لتوحي بأن عجلة تلك اليوميات البطيئة ستمضي لما لا نهاية حتى يشيخ الزوجان وينتهيان بالموت.
من اليوم الأول تشعر باختناق بطء تلك اليوميات التي لا جديد فيها، لكن وتدريجياً تسرقك الأحداث الصغيرة، فتكتشف تياراً خفياً من سحر يجري تحت سطح الروتيني المكرر، عذوبة لذلك التيار لا تضاهيها عذوبة، حيث نتابع بطل الفيلم سائق الحافلة، منذ أن يستيقظ كل يوم في تمام السادسة والنصف، يلبس ساعته وينهض بينما زوجته لاتزال غافية، سلام منقطع النظير يتم بالقليل من الكلام، ورغم الحوار المحدود أو شبه المعدوم إلا أن لغة خفية تترجم عاطفة عميقة بين الزوجين وتجاه الحياة عموماً. هناك حس عميق بالرضا لا يهزه شك ولا تساؤل يخيم على ذلك البيت الأميركي الذي لا يختلف عن آلاف البيوت، هناك تعايش مع الواقع لأقصى روتينيته، حيث لا مكان للملل بل ويتلاشى مفهوم الملل، والوحيد الذي يستعير لهجة حادة في تلك الواحة من القبول التام هو الكلب المدلل، والذي يضفي مسحة طرافة حيث لا يكف عن انتقاده المزمجر للتقارب بين الزوجين وتتساءل ما إذا كان هناك نوع من التنافس بينه وبين الزوج، صراع ينتهي بتمزيق المفكرة السرية الحاوية على عصارة قصائد الشاعر.
أما الزوجة فلا تنتطر أكثر مما يقدمه ذلك الواقع المحدود، تصحو كل صباح على بيت فارغ وقد غادر زوجها لعمله، تمضي ساعات النهار فيما هو أشبه بغيبوبة منومة مغناطيسياً بريشتها التي تزحف يوماً وراء يوم لتغطي بالأسود والأبيض الستائر والجدران والأثاث بل وحتى الطعام الذي تطهوه، وتمضي لتكسو الزوجة في أزياء أيضاً بالأسود والأبيض والتي تقوم بتصميمها لتنفيذ استعراضات تحلم بها، لوحات سيريالية مثل تجسيد لأحلام تتفجر في البيئة حول الزوجين الماضيين على درب الرضا، لا تفاجئك في تلك اليوميات ولا لحظة سخط أو غضب أو حتى اعتراض.. حتى لحظات اليأس العميق من فقد الشاعر لقصائده تمر بصمت مطبق، ولا يتم التعبير عنها إلا بعبارة محلولة بالكثير من الطيبة، “أنا لا أستلطفك.” يقولها الزوج للكلب المنتصر.
فيلم يقول وببساطة شديدة وبعمق فني إن السعادة تتمثل في أروع صورها في اليومي البسيط، وإننا لسنا بحاجة للكثير وإنما وفقط للرضا. فالبطل لا يملك بل ولا يتحمس لاقتناء هاتف نقال، ويمضي في حافلته بينما يجري حوله الزمن والأحداث كعجلة ترفد قصائده وعشقه العميق لزوجته ومهنته وروتينية تفاصيل يومه، حيث يواظب على روتينه ويكلله بطقس سري، يتمثل في اختلاس لحظات أمام الشلال في شبه خلوة يومية يصوغ فيها بيتاً أو بيتين من الشعر، تلك غاية متعته بالإضافة لحافظة الطعام التي تدس له فيها الزوجة مفاجآتها العجيبة بالأبيض والأسود ووصفات الطعام التي تخترعها ببساطة وبدهشة طفل. هناك طفولة مندهشة تجاه الروتيني الخانق في روتينيته.
باترسون هو فيلم كسلسلة أفلام المخرج جيم جارموش التي ما هي إلا لوحات فنية أو فورة للفني وسط اللا معقول والعادي بل واللاشيء.
يختتم الفيلم بدفتر جديد وصفحات بيضاء بانتظار فيض قصائد. والجدير بالذكر أن فيلم باترسون قد ترشح لجائزة السعفة الذهبية بمهرجان كان ٢٠١٦، وفاز بجائزة سعفة الكلب Palm Dog award، والتي تمنح لأحسن أداء من قبل كلب حقيقي أو كرتوني وهي عبارة عن طوق عنق بلاستيكي.
باترسون هو بحق قصيدة من السهل الممتنع.