«بنجامين بوتن» عبقرية الاختلاف منحته مكانه سينمائية مرموقه
«سينماتوغراف» ـ أسامة عسل
فيلم «الحالة العجيبة لبنجامين بوتن ـ The Curious Case of Benjamin Button» هو سباحة داخل النفس البشرية والمشاعر الإنسانية في جو مليء بالسحر والجمال، وعبقريته الحقيقة في أسلوب الإخراج وأداء التمثيل، فكل لقطة تفتح الطريق للقطة أخري في بناء فني مبدع يتصاعد روعه وعذوبة، اختيار أماكن التصوير وأزمنتها، درجات الإضاءة، حركة الكاميرا، ألوان الملابس وأشكالها، مستويات الصوت البشري مع تدرج العمر صعودا وهبوطا، عناصر كثيرة تضافرت في انسجام كامل دون نشاز أو خلل، ودفعت به إلي منصة أوسكار عام 2009.
لعب دور البطولة النجم براد بيت الذي يظهر في اللحظات الأولي وهو طفل رضيع لكن في الثمانين من عمره، حيث تدور أحداث الفيلم داخل إطار فانتازي حول “بنجامين بوتون” الذي تسير الحياة معه بالعكس، ففي الوقت الذي يكبر الناس من حوله يصغر هو إلى أن يصبح طفلا رضيعا.
في هذا الفيلم الذي يعتبر تحفه سينمائية تستغرق علي الشاشة ساعتين و47 دقيقة. يندمج المشاهد في الأحداث حتى يشعر وكأنه يشيخ تارة ويستعيد شبابه ونضارته تارة أخرى، وقد اقتبست قصته من رواية ثانوية كتبها الأديب الأميركي سكوت فيتزجرالد غير أن كاتب السيناريو اريك روث طورها وأعطاها أبعادا أكثر وأعمق شمولية، وهو صاحب فيلم «فروست جامب» للممثل توم هانكس.
في السينما كما في الحياة هناك «سيرورة» عامة للأحداث وهي السيرورة المنطقية المعتادة، فالجنين يكبر ويصبح رضيعا ومن ثم طفلا ويافعا فشابا ثم كهلا وهكذا، وما جعل من قصة فيلم «حالة بنجامين بوتن الغريبة» مختلفة هو اتكائها على سيرورة مناقضة لما يحدث في الحياة ، ومن هنا مصدر قوتها وغرابتها ، فبراد بيت ولد كهلا وتدرج عكسيا حتى مات طفلا رضيعا !
هل تنتخب الطبيعة حالة مثل هذه، بالطبع لا، ومن هنا عبقرية فكرة الفيلم، وجمالياته والتي احتاج معها براد بيت لسنوات ولكثير من التقنيات حتى يختزل مشاعر رجل يولد «مسخ» ولا يتقبله أهله..
وتأتينا قصة حياة بنجامين بكل تفاصيلها وهي تُقرأ على ديزي من قبل ابنتها «التي تجسد دورها الممثلة جوليا أورموند» في غرفة أحد المستشفيات بولاية نيو أورليانز في العام 2005، وبشكلٍ متزامن مع اقتراب إعصار كاترينا من المدينة، وقد يكون استحضار الإعصار في هذا الفيلم نوع من الإسقاط على اقتراب معرفة الحقيقة التي أخفتها ديزي عن ابنتها لمدة طويلة.
في فيلم الحالة العجيبة لبنجامين بوتن، نرى بنجامين الطفل المولود في جسم رجل عجوز، في مدينة نيو أورليانز في فترة الحرب العالمية الأولى، تموت أمه إثناء الولادة ليضطر أبوه أن يضعه في دار رعاية للمسنين عند «كويني» التي تلعب دورها «تاريجا هانسون» والتي تصبح بمثابة أمه، على الرغم من أنها كانت تتوقع موته في أي لحظة.
نرى حياة بنجامين في دار الرعاية، وتوقه لاكتشاف الحياة كما لو انه طفل صغير، يلعب مع الطفلة ديزي التي تؤدي دورها عندما تكبر النجمة الأسترالية الحسناء كيت بلانشيت، يتسلل معها في منتصف الليل ليتبادلوا الأسرار واكتشاف العالم، لكن بنجامين لا يعرف شيء عن حياته، فهو رجل عجوز بدون ذكريات، أو أي خبرة.
وفي الوقت الذي تتحول مسيرة حياة بنجامين إلى محرك لأحداث الفيلم، نجد أنه أصبح مادة للتأمل تحظي بتعاطف المشاهدين، خصوصا قبل أن يتعرف على ملذات الجسد والخمر في المدينة التي شهدت ولادته.
يذهب باتون للعمل على متن باخرة جوالة حيث يمكث لفترة وجيزة في روسيا، ويجرب الكافيار والعلاقات العاطفية في بيت للدعارة، وعندما يعترف أبوه الذي تركه وهو صغير عجوز وقبيح بأبوته، تبدأ مرحلة جديدة في حياته ويكون على وشك الوصول إلى منتصف العمر وعندما يتلاقى مرة أخري مع ديزي التي تهجر رقص البالية نتيجة حادثة سيارة وهي في باريس، وتعود إليه لينجب منها ابنته كارولين يقرر الرحيل خوفا من مصيره كأب يتجه نحو مرحلة الطفولة، وهكذا يطرح الفيلم نفس الإشكالية الأزلية المتعلقة بفناء الإنسان ونهاية شبابه.
يتمحور فيلم «بنجامين بوتن» حول فكرة عيش الحياة مهما كانت، المخاطرة وفتح أبواب جديدة، الجرأة والتحدي في ظل الصعوبات، واستطاع المخرج ديفيد فينشر تكريس خبرته التي تعرفنا عليها من قبل في أفلامه مثل «اللعبة» و«غرفة الرعب» و«زودياك» في أن يقنعنا إلى حد كبير بما فعله بـ «ديزي وبنجامين» في مراحل العمر المختلفة، ويمكن القول أن هذا الفيلم يعد خطوة متطورة في عالم السينما الرقمية، حيث نلمس من خلالها براعة المخرج في تحويل هذه الرواية لعمل سينمائي كلاسيكي يجدر تعلم الكثير من الدروس الفلسفية والوجودية منه، وبخاصة تقبل الحياة بدون الاحساس بالوقت فيها، بالإضافة إلي انه مدرسة سينمائية في كل شيء، حتى في الاكسسوارات التي لا نعطيها حقها في العالم العربي، بمعنى اننا غالبا ما نكتفي بالحديث عن الزمن ولا نراعي ما حوله ومشتقاته كالملابس والأزياء التي حافظت طوال الفيلم على سمتها التقليدية لتعيد لنا عالم مطالع القرن العشرين وقد تجلى ذلك حتى في نظرات الوجوه وتعبيراتها، الشوارع الكئيبة والعتيقة وحتى باريس ومستشفياتها المتخيلة وكذلك طريقة ملابس شخصيات الفيلم جميعا، وأيضا لايمكن اغفال براعة التصوير خصوصا مع سيناريو متقدم تعبيرياً.
وصلت ميزانية تصوير فيلم «الحالة العجيبة لبنجامين بوتن» إلي 150 مليون دولار، ورغم انه خرج خالي الوفاض من أهم جوائز الاوسكار، لكنه حصل على ثلاثة جوائز، وهي جائزة الأوسكار لأفضل تجميل وجائزة الأوسكار لأفضل تأثيرات بصرية وجائزة الأوسكار لأفضل إخراج فني، والأهم من ذلك أصبحت له مكانة مرموقة في تاريخ عالم السينما إلى جانب أفلام كلاسيكية شهيرة مثل «كازبلانكا» و«ذهب مع الريح» و«تيتانك».
شاهد التريللر الخاص بفيلم The Curious Case of Benjamin Button: