«بيتزا العرقسوس» .. كوميديا رومانسية لا تشبه غيرها
«سينماتوغراف» ـ محمد صبحي
هل هذا ممكن؟ هل يمكن لمخرج هذا الفيلم أن يكون هو نفسه صاحب البورتريهات المظلمة والكئيبة لشخصيات مهووسة مثل تلك الموجودة في أفلام “ستسيل الدماء” و”المعلّم” و”فانتوم ثريد”، أو تلك المنكوبة بجنون العظَمة وتدمير الذات (“ماغنوليا”)، أو اللاهثة والمحمومة بالمخدرات والبارانويا (“خطيئة متأصّلة”)؟. أين “بيتزا العرقسوس” من هذا كله؟
صحيح أن بول توماس أندرسون (استوديو سيتي، كاليفورنيا – 1970) أخرج أيضاً فيلمي “بانش درانك لاف” و”بوغي نايتس”، اللذين يمكن إدراجهما خطأً تحت تصنيف الكوميديا، لكنهما بالرغم من احتوائهما على لحظات مركّزة من الفكاهة، لم يكونا كذلك أبداً. دائماً هناك الكثير من الذّهان في شخصياته، والتي بدورها تتشعَّب تعقيداتها رافدة إياها بصورٍ أكبر ترسم ملامح زمنها. “بيتزا العرقسوس”، من ناحية أخرى، ممتع أكثر من أي فيلم آخر في مسيرة السينمائي الأميركي البارز، وزاخر بخفّة وسعادة تبدو وكأنها تخصّ سينمائياً آخر. وفي الوقت نفسه، لم يكن في وسع أي شخص آخر إنجاز فيلم كهذا.
المكان: وادي سان فرناندو، كاليفورنيا. الزمان: صيف 1973. لا يتعلّق مكان الفيلم وزمانه بتاريخ أندرسون الشخصي فحسب، هو الذي ما زال يعيش هناك، ليس بعيداً من المكان الذي وُلِد ونشأ فيه، وإنما يرتبطان أيضاً بمكانٍ وزمانٍ حيث يشعر بأنه في بيته. ربما لا يعرف أي مخرج أميركي آخر – وهو الذي يصوّر أفلامه بفورمات الـ70 مم القديم والرائع – ما شكل الضوء في جنوب كاليفورنيا. وفي هذه الحالة بالذات، ما كان عليه الحال عندما ظهر الرئيس ريتشارد نيكسون في شاشة التلفزيون، يشكو أزمة النفط العالمية (بسبب حرب أكتوبر)، والتي كانت قادرة على ترك دولة بأكملها لم تكن تعرف – وما زالت لا تعرف – كيف يمكن التحرك والتنقل إن لم يكن على أربع عجلات.
في تلك الطرق السريعة التي تغمرها الشمس نهاراً، في شوارع تلك الضواحي المضاءة ليلاً بعدد قليل من أضواء الشوارع أو لافتات النيون، يلتقي غاري وألانا (كوبر هوفمان وألانا هايم، كلاهما من الوافدين الجدد على الشاشة)، يشعران بالغيرة من بعضهما البعض، ويلاحقان بعضهما البعض، ويحبّان بعضهما البعض. تكمن المشكلة في أنه يبلغ من العمر 15 عاماً بينما هي في الخامسة والعشرين. لكن غاري، من المشهد الأول، عندما يلتقيان في المدرسة الثانوية (عليه أن يلتقط الصورة السنوية المعتادة، وهي المساعدة المسكينة للمصور الفوتوغرافي طويل اليد واللسان) متأكد من أن ألانا هي امرأة حياته. ويخبرها بذلك هناك، بمجرد أن يراها، وكل هرموناته تنفجر بثوراً في وجهه. ورغم فارق السنّ وحَبّ الشباب البادي على وجه غاري الغضّ، فإنها (هي المتمتعة بجمال يناقض النموذج الكلاسيكي عن الشقراوات الكاليفورنيات؛ في الواقع هي سمراء الشعر ويهودية) تقبل دعوته لتناول العشاء من دون أن تعرف السبب.
من حينها فصاعداً، يصطبغ كل شيء في الفيلم بجنونٍ نادر وبهيج، لأن هذا التباين العمري لا ينظر إليه أندرسون كظرفٍ مقيّد أو مفجع بل كنقطة انطلاق لسلسلة من المواقف، كل منها أكثر مرحاً وعبثية من سابقه، وتساعد في ذلك البيئة التي يتنقلون عبرها. بصفتها ابنة لعائلة من الطبقة الوسطى ذات قيم محافظة، فإن ألانا ليست مستعدة للنوم مع قاصر. هي ليست من الهيبيز، وإلى جانب ذلك، في عينيها (وأي شخص آخر) ما زال غاري طفلاً تقريباً. مراراً وتكراراً، تصرخ فيه ساخرة “أيها الطفل!”، لكنها في الوقت نفسه تحبّه، ولا تستطيع الاستغناء عنه، أو العيش من دون مشاعره النقية والصادقة. ولا حتى غرابة أطواره، التي تتراوح بين كونه ممثلاً شاباً في هوليوود يحاول شقّ طريقه لأدوار أكثر أهمية، إلى إنشاء شركة لتجارة المراتب المائية – من الباب إلى الباب – مع شقيقه الأصغر وزملائه في المدرسة، بحماسٍ يستحقّ مشروعاً أفضل.
في أحاديثه الصحافية، قال أندرسون بأن مصدر إلهامه – إلى جانب ذلك الواضح والمتمثّل في فيلم “أميركان غيرافيتي” (1973، جورج لوكاس) – كانت ذكريات وحكايات صديقه غاري جوتزمان، الذي اشتهر لمدة ربع ساعة كأحد أبناء لوسيل بول في الفيلم الكوميدي الجماهيري “ملكك، ملكي، ملكنا” (1968). وبحلول العام 1973 كان لا يزال يجري تمثيله لكن معروضاً على خشبة المسرح في لاس فيغاس واستديوهات التلفزيون في نيويورك. أدّى هذا السياق إلى ظهور واحدة من لحظات عجيبة في “بيتزا العرقسوس”، عندما جعل غاري، ألانا تسافر معه إلى مانهاتن لتقديم عرض مسرحي بصفتها الوصي القانوني عليه، لأنه كان قاصراً.
بالإضافة إلى لوسيل بول (بالمناسبة، هناك فيلم آخر مرشّح لأوسكار هذا العام يتناول بالتفصيل جانباً من حياتها كنجمة تلفزيونية)، يختلط مشاهير آخرين من ماضي هوليوود في مغامرات غاري وألانا وعصابتهما. يريد الممثل المخضرم جاك هولدن (يلعب دوره شون بِن) الظفر بألانا عبر تلاوة سطوره الرومانسية من فيلمه الحربي “جسور توكو-راي” (1954)، بالإضافة إلى القيام بعرض مرتجل لقيادة دراجة نارية، وهذا ممكن فقط بعد ليلة من السُكر المفرط، يعززها حماس صديق المخرج القديم (توم ويتس) المسؤول عن العرض. ناهيك عن الفقرة المُهلِكة التي يقدّمها المنتج ومصمم الأزياء المستحيل جون بيترز (برادلي كوبر مقلّداً شخصية وارن بيتي في فيلم “شامبوو” (1975، هال آشبي)). في ذلك الوقت، كان بيترز شريك باربرا سترايسند وليس لديه فكرة أفضل من شراء أحد تلك الأسرّة المائية الجديدة من غاري وألانا. وهو ما سيفضي إلى إنجاز مشهد كوميدي يبدو كأنه خارج لتوه من أفضل كوميديات بليك إدواردز.
مسخرة كاملة، لكن الخيط الناظم في هذا كلّه، أنه في كل مرة يتورّط غاري وألانا في مأزق لا يسعهما سوى الركض – حرفياً – إلى بعضهما البعض لمساعدة بعضهما البعض، للعثور على بعضهما البعض، ومعانقة بعضهما البعض، لأنهما لا يستطيعان العيش إذا لم يكونا معاً، بغض النظر عن مدى أفلاطونية علاقتهما. في النهاية – رغم صعوبة تصديق أندرسون – هذه كوميديا رومانسية، فيها الكثير من الحساسية، والكثير من الحبّ، والكثير من السينما. ربما الفيلم أطول مما يلزم، كما يحدث عادةً مع المخرج الذي يميل إلى الإفراط (الحبكة الفرعية للسياسي المثلي الذي يلعبه بيني سافدي تضعف محصلّته النهائية)، لكنه دائماً ما يكون مبهجاً وسعيداً ومتفائلاً بعناد. مدعوماً بموسيقى تصويرية لجوني غرينوود وآخرين – تمتد من نينا سيمون إلى بول مكارتني مروراً بديفيد بوي وذا دورز وسوني آند شير- وثيقة الصلة وأساسية ولا ينبغي تفويتها، في فيلمٍ أقرب ما يكون لحفلة بهيجة تجمع الأهل والأصدقاء والأحباب.