تابوهات الحياة والموت في فيلم «كاجال» للمخرج الإيراني «نيما يار»
ـ حميد عقبي
يذهب المخرج «نيما يار» إلى الحدود الإيرانية الكردستانية العراقية، ليصور لنا تحفة سينمائية وتراجيديا إنسانية من خلال فيلم «كاجال» بالفارسية (کژال)، والذي حاز في عام 2018 على جائزة أفضل فيلم آسيوي من لجنة تحكيم شبكة الترويج السينمائي لآسيا والمحيط الهادئ ومهرجان تالين بلاك نايتس السينمائي، كما تم عرضه في سوق مهرجان كان وغيره من المهرجانات الدولية.
هذا الفيلم الكردي الإيراني تم منعه في إيران، وتعمد مخرجه ومنتجه نشر نسخة أصلية وبجودة عالية على حسابه عبر انستجرام وعدة منصات بعد مشاركاته الكثيرة بالمهرجانات السينمائية الدولية، وهذا الإجراء بمثابة احتجاج على المنع والمصادرة، ونقدم هذه القراءة تحية لهذا المخرج الشجاع وفريق عمله وسكان تلك القرى الحدودية وأهلها المحكوم عليهم بالجوع أو الموت.
يرصد الفيلم قصة حقيقية لفتاة كردية تدعى«كاجال»، يموت أخوها «جوهر» العائل لها ولأسرتها التي تعيش في قرية صغيرة وفقيرة بمنطقة حدودية، وأغلب رجال هذه المنطقة يعملون في التهريب وكثيراً ما تحدث كوارث قد تفضي إلى موت أحدهم.
تبدو القرية معزولة وسط الجبال، ولكي يتصل أحدهم عبر هاتفه المحمول عليه الصعود إلى الأعلى ليلتقط إشارة الإتصال، وهكذا منذ بداية الفيلم يجعلنا المخرج نعيش أجواء هذا المكان وهؤلاء الناس الذين يعيشون في عزلة، ويحفزنا أن نتقدم خطوات لنستكشف هذا العالم الموجوع.
تصاب الأم بمرض نفسي وتتخيل أن ولدها لا يزال حياً، كأن المخرج أراد أن يصور لنا عالم الموت وبعدة أساليب، مثلاً المقبرة في بداية الفيلم تكون مقفرة، ثم يحرك اللقطات إلى عدة مستويات حيث يكون في الأعلى الطريق العام ومرور سيارة وبالوسط والأسفل تظهر كاجال والقبور، ثمة نزعة فنية تشكيلية محضة في العديد من المشاهد وتقديم مستويات متعددة وفعل حركة ولو بسيطة في العمق، في الدقيقة 22 وعشرين ثانية تظهر الأم في مشهد ليلي وهي تصرخ، وتطلب من ولدها جوهر أن ينزل من أعلى الشجرة، المشهد تهيمن عليه العتمة وتسمح لنا رؤية الشجرة الجرداء وثمة ضوء يسقط على الشجرة ليخلق الظل، وكأننا مع لوحة قصيرة متحركة لعالم الموت بما فيه من غموض، ثم تتحرك الكاميرا وكأنها تريد تصوير هذا العالم ومع حركة الشخصية تظهر التفاصيل الدنيوية كضوء البيت وأبوابه ونوافذه وهنا تكون معانى مربكة لتابوهات الحياة والموت.
ولأن المرأة في عالم الشرق تكون عرضة للاستغلال، يحدث هذا مع كاجال، جارها «سيرون» الذي يتعهد بأخذ سيارة العائلة ويعطيهم ما يكفيهم للعيش، لكنه يستخدمها للمرح والتسكع مع رفاقه، وتتدخل كاجال مؤجلة سفرها إلى المدينة حيث عملها وجامعتها، وترافقه إلى الحدود، وهناك تستكشف أن المهرب يطلب مبلغاً ضخماً ثمن بضاعته والتي يبدو أنها تلفت مع حادث موت جوهر، وهنا نتعرف على ما تعنيه كلمة «الكولبار»، وهم الرجال الذين يوصلون البضائع على ظهورهم ويعبرون بها في الطرق الوعرة المظلمة، صحيح هي بضائع عادية وليست ممنوعات ولا مخدرات، لكنها تكشف عن عالم مختلف يسير فيه كل شيء بحذر وسرعة.
لو توقفنا مع لقطة تأتي في الدقيقة 31 و40 ثانية فنحن مع لوحة تشكيلية بديعة حيث تسير مجموعة من السيارات بطريق جبلي غير معبد تثير الغبار الذي يكاد يصل السماء بالأرض، تفاصيل كثيرة بداخل هذه اللوحات التي يرسمها «نيما يار»، حيث تبدو وكأنها لوحات مخطط لها بوعي وبتأثير ساحر مع الموسيقى التصويريه التي ترافقها.
نلاحظ ضمن أحداث الفيلم، أن هذه القرية لها قوانينها الخاصة حيث أن وضع المرأة شديد الحساسية مع الكثير من التعقيدات التي يفرضها الرجال، ورفضهم لعمل النساء، وأن مكانهن الطبيعي هو البيت والزواج ورعاية الأولاد، لذلك يتم تعنيف كاجال لأنها استطاعت أن تنقذ سيارتها والبضاعة التي فيها بعد هروب السائق عند مواجهة كمين شرطة الحدود، ومنعهم لها من تكرار الأمر، معتبرين أن فعلها مخجل وعار، ومع ذلك لم يقدم أحد منهم حلاً لما تواجهة هذه العائلة بعد موت معيلها، والأكثر من ذلك يطالبون الفتاة أن تتوقف عن دراستها ولا تذهب إلى طهران.
تكسر كاجال هذه التابوهات وتعمل بالتهريب وقيادة سيارتها ليس حباً في المغامرة، ولكنها مجبرة على ذلك لتصون عائلتها ولكن رجال القرية يستخدمون القوة والمنع وحجز سيارتها ليثبتوا أنهم رجال، هي تقول لنا وتسأل أين الخطأ؟ ما فعلته لم يكن هواية ترف بل من أجل أن تعيش هي وأسرتها.
لم يكتفي الأقرباء من منعها بل يتمادون أكثر ويسعون إلى تزويجها والتخلص من أدنى مسؤولية بشأنها، في بداية الفيلم تسأل كاجال صديقتها راجين إن كانت تحب خطيبها؟، فترد القروية أن منطق القرية هو أن تتزوج.
منطق الرجال وقانونهم ألا تخالف أي امرأة ما يقررونه ولا خيار لها، ومن ثم يغضب أخوال كاجال بمجرد مناقشتها لهم موضوع العمل والزواج، وتتوالى الضربات على رأس البطلة ويبدو أنها مرتبطة بصديق في طهران وكان قد أقرضها بعض المال وربما لأن ظروفها متعثرة لذلك هو لا يرد عليها، تستجير بالمهرب كاكة سليمان ليقرضها المال وهي مستعدة أن تعمل مهنة الكولبار الخطرة والمرهقة، يعرض كاكة سليمان حلاً لكل مشاكلها وسداد جميع ديونها وهو الزواج منه، تعتذر كاجال ويبدو أن الرجل يمنحها المال ليحكم شباكة ويحاصرها لتقبل به.
تعمل كاجال في مهنة الكولبار، وتنجح في الرحلة الأولى أن تجتاز الحدود الإيرانية الكردستانية وتعود بسلام، قبل نهاية الفيلم نرى وجهها وكأنه وجه ميت بسبب التعب الشديد، في الرحلة الثانية تتعرض قافلة الكولبار إلى كمين من الشرطة وإطلاق نار، وتكون النهاية حينما حاولت الهروب من الرصاص أن تدوس على لغم فينفجر، يتم تصوير المشهد من بعيد وتنطلق أغنية الختام وكأنها رثاء مفجوج لهذه المرأة التي سعت أن تحافظ على كرامتها وعائلتها، لتتوالى على الشاشة المعلومات التي ترصد موت الآلاف سنوياً من الشباب والرجال في هذه المنطقة الخطرة، حيث الألغام والموت ولا خيارات أخرى متاحة.
يجب أن نشيد هنا بالممثلة سميرا زكائي والتي جعلت من شخصية كاجال روحاً وصوتاً بديعاً، وهي ممثلة سينمائية وتلفزيونية ومسرحية وقد شاركت في أفلام كثيرة مثل “كيلو وواحد وعشرون جرام” (یک کیلو و بیست و یک گرم)، “كل شئ عظيم” (همه چی عالیه)، “كوش” (کاناپه)، “الطفل الرابع” (فرزند چهارم )، “أسيد”، “البيت السعيد” (خانه خوشبخت)، “بيت ببيت” (خانه به خانه) و “كاجال” (کژال)، وهي عاشقة للمسرح ويبدو أنها تدرس خيارتها بدقة وحرفية، وتعشق الأعمال التي تحوي تعقيدات ومجازفة وأيضاً ذات المضامين الإنسانية.
ختاماً، نحن مع شريط سينمائي فيه القصة والفكرة والفن، تنزع الكاميرا إلى الفضاء الخارجي وربما يكون تسعين بالمئة من المشاهد خارجية، ونلاحظ حرفية المخرج في الاشتغال على هذه الطبيعة القاسية، وجعلها كأنها تعانق السماء، بخلاف ولعه بالظلال وبعض العتمة حتى في المشاهد الخارجية النهارية مع تركيزه على أكثر من موقف لتأطير شخصية البطلة، خصوصاً في بدايات الفيلم وهي متجهة بالسيارة إلى قريتها، وكأنه مع مشاهد العتمة والظلال يتنبأ بمصيرها المؤلم.
** احتجاجاً على المنع والمصادرة، يمكن مشاهدة الفيلم، من اللينك التالي المرفق..