مراجعات فيلمية

«تحت سماء دمشق» .. المرأة في مواجهة الظلم والقهر والتحرش

«سينماتوغراف» ـ نسرين أحمد

وجه جميل رغم ما خطته السنين والآلام من إجهاد وحزن باد. إنه وجه امرأة سورية، كانت في ريعان شبابها ممثلة، لكنها لم تخضع لرغبة مسؤول متنفذ، فكال لها العذاب وألقاها في السجن سنوات طوال. امرأة تشكو بحرقة من زوج لا يعمل ولا ينفق، ويستولي على الأجر الضئيل الذي تحصل عليه.

تلك هي قصص بعض النساء الذين يسلط عليهن الضوء المخرجان طلال ديركي وهبة خالد في فيلمهما الوثائقي «تحت سماء دمشق» الذي شارك في بانوراما مهرجان برلين السينمائي في دورته الثالثة والسبعين. بخلاف العديد من الأفلام في الأعوام الماضية، التي تناولت الحرب في سوريا، وما خلفته من دمار معنوي ومادي، محور «تحت سماء دمشق» هو المرأة في سوريا وما تواجهه من ظلم وقهر وتعنت وتحرش. في أحد مشاهد الفيلم تسعى شابة سورية لتقديم شكوى رسمية في رجل تحرّش بها، وبينما يحاول البعض إثناءها عن الشكوى، نرى إصرارها على شكواها، تنتقل الشكوى من موظف لآخر، وفيما تتراكم عليها الأختام الرسمية والتوقيعات، على الرغم من يقينها الداخلي إن كل هذه التوقيعات والأختام ليست سوى إجراءات روتينية لن تمكنها من الحصول على حقوقها، أو حتى في الحصول على ترضية معنوية. لكن تصوير فيلم عن الواقع المعاش للمرأة السورية، الذي يتماهي في واقع الحال مع واقع المرأة في مختلف البلاد العربية، لم يكن بالأمر اليسير، خاصة أن مخرجي الفيلم، طلال ديركي وهبة خالد، يعيشان في المهجر، أو فلنقل المنفى، في ألمانيا ولا يتسنى لهما الذهاب إلى سوريا لأسباب أمنية وسياسية.

وعلى غرار أفلام الإيراني جعفر بناهي، الذي طالما استثمر قرار منعه من مزاولة الإخراج في بلاده لصالح إنجاز أفلام ذات تأثير كبير، وكان أحدثها فيلم «لا دببة» الذي حصل على الجائزة الخاصة للجنة التحكيم في مهرجان فينيسا عام 2022، يستثمر ديركي وهبة عدم تمكنهما من الوجود على أرض الواقع في سوريا لصالح فيلمهما، ولصالح تسليط الضوء على المرأة السورية ومحنتها. يجد ديركي وهبة حلا لعدم تمكنهما من الوجود على أرض الواقع في سوريا بالاستعانة بعدد من الشابات السوريات، وهن إينانا وإليانيا وغريس وسهير وفرح، نعرف أنهن ممثلات وفنانات يطمحن لتقديم عمل مسرحي يعتمد على تصوير شهادات النساء عما يتعرضن له من عنف وتحرش وابتزاز وتنكيل. إنه عمل مسرحي للبوح ولتقديم شهادات ولفضح المسكوت عنه، وليكن بمثابة تجربة علاجية للنساء من آلام تعرضهن للقهر والبطش. تستأجر الشابات القائمات على العرض المسرحي منزلا يصلح لإقامتهن ولإقامة عروض المسرحية. هن فتيات تمكن من نيل بعض الحرية، وبعض المتنفس في مجتمع لا يزال يرسم حدودا ضيقة للغاية للمرأة، ورغم تجاوزهن للكثير من أوجه العنف والاضطهاد الذي تشهده المرأة، إلا أن شهادات النساء اللاتي يجمعنها لمسرحيتهن تلمس وترا حساسا داخلهن.

 

الفيلم إذن مسرحية في داخل فيلم، يتضافر فيه العملان لسرد واقع المرأة السورية، في العديد من مشاهد الفيلم نرى الدمار الذي حل في دمشق في الحرب، نرى مساحات شاسعة من المباني المدمرة الخربة المقفرة، وكأن هذا الخراب يعكس ما يحيق بنفوس النساء جراء ما يتعرضن له.. نرى مباني مهدمة دمرتها القذائف والمدافع، ونساء منهكات نفسيا. مدينة في حاجة إلى إعادة إعمار، ونساء يروين آلامهن علهن يجدن في البوح بعض المتنفس. نرى نساء في مصحة للأمراض النفسية والعقلية، لأن أجسادهن ونفسياتهن لم تقو على مواجهة مواجعهن. لا يتناول الفيلم الحرب أو السياسة بشكل صريح، لكن النظام الذكوري الديكتاتوري الباطش الذي أدخل البلاد في تلك الحرب المهلكة هو ذاته الذي بطش بهؤلاء النساء واستباح حقوقهن ودمّر حياتهن. ثمة تواز وتماه بين واقع البلاد وواقع النساء.

يطلعنا الفيلم في صورة مقدمة مكتوبة أنه وسط موجات النزوح التي تسببت فيها الحرب، كانت الحلقة الأضعف هي النساء، وبقيت الكثيرات منهن بمفردهن في البلاد بعد فقد الأزواج والأهل. بقين لإعالة الأبناء، وليحاولن أن يجمعن شتات عالمهن الذي دمرته الحروب، لكن شجاعتهن وقوتهن لم تكن حائلا يقيهن بطش الرجال والتعنيف والتنكيل.

نظن لوهلة أن الشابات اللاتي أوكل إليهن إنجاز المسرحية، صاحبات حظ أوفر من غيرهن، وأنهن تمكن من نيل حقوقهن والتحرر من قيود المجتمع، لكن الواقع يصدمنا دون هوادة وعلى حين غرة. يواجه الفيلم والمسرحية تحديا حقيقيا يوضح المجتمع الذكوري الذي تعيش فيه الفتيات واجتماع التحرش مع تسلط الرجل وسطوته. تتغيب إحدى الممثلات الشابات عن المسرحية، إذ فجأة وبعد محاولات مستميتة للاتصال بها، تعلن أنها ستتخلى عن العمل في المسرحية. نكتشف لاحقا أنها تعرضت لملاحقة مسعورة وتحرش من أحد المسؤولين عن الإنتاج في الفيلم، وهو أحد الذين ينوبون عن مخرجي الفيلم في سوريا، نظرا لوجودهما خارج البلاد. نرى أن الفتيات اللاتي أخذن على عاتقهن أن يساعدن النساء على البوح والتعافي يواجهن أيضا التحرش، وإنه في أوساط المتحدثين عن حقوق المرأة نجد رجالا يتحرشون بالمرأة.

تجد الفتيات ومخرجا الفيلم أنه لا سبيل لإتمام الفيلم إلا بخروج الفتيات من سوريا، حيث يسافرن إلى لبنان للتعافي من آثار التحرش ولاستكمال مسيرة الفيلم. يبدو كما لو أن الفيلم ينذرنا بأنه في مجتمعات ذكورية سلطوية مثل مجتمعاتنا لا ملاذ للمرأة إلا المغادرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى