ترايبيكا السينمائى يحتفى به.. «سائق التاكسي» 40 عاما من التوهج
«سينماتوغراف» ـ محمود درويش
بعد مرور أربعين عاما على انتاجه يحتفى مهرجان ترايبيكا السينمائى فى دورته هذا العام بالفيلم الأمريكى «سائق التاكسى Taxi Driver»، الذى يعد واحدا من أهم الأفلام السينمائية وقد أنتج عام 1976، ولعب بطولته النجم روبرت دى نيرو، وجودى فوستر وأخرجه مارتن سكورسيزى وتأليف بول شرادر، و رشح الفيلم لأربع جوائز أوسكار، من ضمنها أفضل فيلم، كما تم تصنيفه في المركز الـ 52 في قائمة أعظم 100 فيلم أمريكي.
وقد تم اختياره من أجل حفظه ضمن سجل الأفلام الوطنية من قِبل مكتبة الكونجرس الأمريكية، لكونه أثرا «حضاريا وتاريخيا أو جماليا».
كما يعد «سائق التاكسى» أحد أهم وأفضل وأشهر الأفلام للمخرج الأمريكي الكبير مارتن سكورسويزي، وفيه يظهر حبه الأسطوري لمدينة نيويرك وتعلقه بها، هذا التعلق الذى ترجمه بعد ذلك فى أفلام تالية مثل “«عصابات نيويورك».
لكن لماذا يحظى الفيلم بكل هذا الاهتمام، وما عناصر تميزه؟
الحقيقة أن الفيلم تضافرت له عناصر النجاح مكتملة سواء فى السيناريو الذى يغوص داخل نفس بطله المعذبة، الحائرة، أو يستعرض لنا عمله فى شوارع المدينة الكبيرة وكيف عليه أن يتعامل مع فئات متباينة الى حد التناقض، أو فى الأداء العبقرى لبطله روبرت دى نيرو وقد كان الفيلم بداية للكشف عن موهبته الكبيرة في السينما الأمريكية وموهبة مخرجه سكورسيزى فى ابداع لقطاته وايقاع الفيلم الذى لم يفلت منه فى مشهد واحد.
بطل الفيلم ترافيس (روبرت دي نيرو) مضطرب نفسيا، ويبرع دى نيرو فى ترجمة نظراته التى تدل على الشك والارتياب، وهو مسكون بهواجس سوداء حول نظرية يؤمن بها أشد الإيمان وهى نظرية (التطهير العرقي) وهى الطبقة السفلى من سكان مدينة نيويورك من اللصوص والعاهرات، يرغب «ترافيس» فى العمل كسائق ليلي لأنه لا يستطيع النوم في الليل وهو يتجول في القطارات والحافلات فلماذا لا يأخذ على ذلك أجرا.
وفي الحقيقة، فإن هذا الرجل المضطرب نفسيا، مسكون بتلك الهواجس قبل عمله كسائق تاكسي، فهو مغرم بتأمل العوالم الليلية لمدينة نيويورك، تلك العوالم التي تشكل الهاجس بالنسبة إليه، وتؤرقه ليلا، والماضي بالنسبة لترافيس غامض مختصر فقد خدم في البحرية أثناء حرب فيتنام وسرح تسريحا مشرفا من الخدمة كما أن له والدين بالكاد يزورهما ولكنه يراسلهما بحنان وشوق.
في بداية الفيلم نتعرف على الهواجس المسكون بها ترافيس حين يقول: «الحيوانات كلها تخرج في الليل، العاهرات، وبائعات الهوى ومدمنو المخدرات، وبائعوها والمخنثون»، إنه ينظر نظرة مقززة إلى العوالم الليلية لمدينة نيويورك وليس إلى نيويورك نفسها، فالقضية تختصر في الطبقة الاجتماعية التي من الممكن أن تتواجد في أي مدينة، وهو إن كان لا يحب هذه العوالم ولكن شدة هذه الهواجس وتعلقها في روحه وتفكيره تجعله لا يستطيع أن يبتعد عنها، إنه يريد أن يبقى منشغلا، ولكن الانشغال لن يحقق له راحة البال أو يبعد ذهنه عن فكرة التطهر، كما إن انشغاله بهذه المهنة لم يحقق له سوى إزالة القاذورات وأحيانا الدماء عن الكرسي الخلفي لسيارة الأجرة التي يقودها، لذلك فانشغاله كسائق تاكسي لم يحقق له النتيجة المرجوة ألا وهي التخفيف من هواجسه حول موضوع التطهير.
ويعمل ترافيس إثنتى عشرة ساعة في اليوم، وبالرغم من ذلك لا يستطيع النوم لذلك هو يتردد وبطريقة منتظمة على سينما للأفلام الإباحية اذ يعيش ضمن إدراك وقناعات خاصة جدا، وتبدو الخلفيات معدومة في نظرته للكون، لذلك يقبل على الأفلام الإباحية باعتبارها شيئا عاديا لا يثير أي خزي وبالنسبة له لا يمكن تصنيفها أبدأ ضمن العوالم الليلية المقززة فى تصوره
ويقول ترافيس بينه وبين نفسه: «علي أن أقع في الغرام». ولكن يبدو أن الوقوع في الغرام حالة للتخلص من الانكفاء على النفس، فهو يريد بها تقليد الأشخاص العاديين وهي بحد ذاتها ليست مطلبا شخصيا أو جسديا، ويحدث أن تلفت نظره امرأة تعمل في الدعاية الانتخابية لأحد المرشحين للرئاسة (بيتسي) وهو يراها امرأة مثالية بعيدة عن حياة الجحيم والقذارة، خاصة أنه يستمع بشكل دوري لمغامرات زملائه من سائقي التاكسي ولكنه يبدو مستمعا فقط لا أكثر.
ورغم اضطراب ترافيس النفسي إلا أن لديه طريقة جيدة وجذابة في التعريف بنفسه، فهو يدعو بيتسي إلى فنجان من القهوة من أول تعارف بينهما، إن ترافيس يؤرخ لحياته ويكتب يومياته، فهو يذكر التاريخ مع كل حدث، ويقوم بدور الراوي بين فترة وأخرى، فنرى العالم من خلال عيون ترافيس، فهو الشخصية المركزية والحدث المركزي الخالص.
تنتهي علاقة بيتسي مع ترافيس ليصطدم فورا بالفتاة ذات الاثنى عشر عاما العاهرة (باتريس) جودي فوستر لتعبر هذه الفتاة لاحقا عن الجانب الحقيقي لترافيس، الجانب الأسود والجانب الأبيض وستكون في نفس الوقت الوسيلة للتنفيس عن كروبه والتعبير عن نظرياته.
شهد الفيلم بصمة تمثيلية لدي نيرو فى عنفوان الشباب، وجمله مثل : أتتحدث إلى؟! أو مشاهده أمام المرآة مصوبا المسدس، ومشهده حليق الرأس إلا من جزء صغير فى منتصفها وهو مرتديا الجاكت متربصا بالمرشح الرئاسي لاغتياله، وعلى شفتيه ابتسامة السخرية والرغبة فى الانفجار ليدمر هذا «السيرك».
وقد تحولت تلك المشاهد الأثر خالد فى ذاكرة المشاهد، أما سكورسيزي، فعاد مرات بعدها لمدينته الأثيرة نيوريوك لتجسيد تنويعات ذلك الغضب والعنف وأزمات السياسة والبحث عن الحل، من خلال الرجل المصاب بأزمة فى التكيف مع النساء وبدرجة أكبر مع المجتمع وعالم الجريمة والعنف كما نرى مثلا فى الثور الهائج وعصابات نيويورك وغيرهما، سكورسويزي يقدم فيلما على النمط الأمريكي بامتياز وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم من ضياع العلاقات وعدم القدرة على فهمها أو تحليلها سوى من جانب واحد، فإن الفيلم يعتبر من أفضل الأفلام التي خلقتها السينما الأمريكية على مدار تاريخها الطويل.