مراجعات فيلمية

تورنتو 2022 | «أطفال الآخرين» لربيكا زولتوفسكي.. حلم الأمومة و درس الحياة

تورنتو ـ خاص «سينماتوغراف»

قد تباغتنا الرغبة في الأمومة على حين غرة، تأتي كهاجس ملّح، يأتينا حين نلمح طفلة تلهو مع والدها أو والدتها. هذا هو الحال مع راشيل (فيرجيني إيفرا) في فيلم «أطفال الآخرين ـ Other People’s Children» للفرنسية ربيكا زولتوفسكي، الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي، وعرض اليوم في تورنتو السينمائي الـ47.

راشيل امرأة أربعينية، تعمل معلمة لطلبة في سن المراهقة. هي امرأة ناجحة، حياتها مليئة بعملها، وبعزفها على التشلو، وبأسرتها المكونة من اختها ووالدها. هي امرأة جميلة، لا تفتقر إلى اهتمام الرجال. لكنها على حين غرة تأتيها تلك الرغبة العارمة في الأمومة، وهي تدرك أنها إن لم تدرك الإنجاب في هذه الفترة من عمرها، فلن تدركه قط.

تأتينا زولتوفسكي بفيلم إنساني، فيه من فهم المرأة الكثير، وفيه من إدراك ذلك التوق الدفين للأمومة الكثير، وفيه أيضاً الكثير من الوعي بنظرة الشجن والإطراق تلك تباغت النساء الذين يراودهن حلم الأمومة.

تتعرف راشيل أثناء درسٍ لتعلم العزف على الغيتار بـ علي (رشدي زيم)، وهو مهندس سيارات ناجح منفصل عن زوجته، وأب للصغيرة الجميلة ليلى.

تسقط راشيل على ليلى قدراً كبيراً من رغبتها في الأمومة. علاقتها بالطفلة الوديعة اللطيفة علاقة ملتبسة، فهي تحب الصغيرة وتعنى بها، لكنها في الوقت ذاته لا يربطها بالصغيرة رابط الدم الذي يربط ليلى بوالدتها الحقيقية. قد تمثل راشيل أما بديلة للطفلة في بعض العطلات أو الأمسيات التي تمضيها مع والدها، لكنها تشتاق في نهاية المطاف إلى أمها الحقيقية، بل إنها تلح في بعض الأحيان على أن تعود إلى أمها لأنها تفتقدها، على الرغم من التدليل والرعاية اللذين تحصل عليهما من راشيل.

في «أطفال الآخرين» تنجز زولتفسكي فيلماً فيه من الحساسية والإنسانية والإدراك لنوازع المرأة الكثير. في كثير من الأحيان تعامل ليلى راشيل بالكثير من الحب، لكنه حب لغريب، لصديقة للأب، لكن حبها لها لا يعادل حبها لأمها قط، بل إنها تسأل والدها ذات يوم على مسمع ومرأى من راشيل، لم هي باقية معهم. تسمع راشيل هذه التساؤلات من الصغيرة، فتبتسم في حرج وألم تحاول إخفاءه.

يمكننا القول إن «أطفال الآخرين» فيلم اللمسات الصغيرة والانفعالات التي تحاول صاحبتها إخفاءها أسفل سطح يبدو هادئاً، لكنه يخفي الكثير من الألم. وما كان للفيلم أن يكون على هذا القدر من التأثير والحساسية دون الأداء المرهف من إيفيرا، التي تحمل تعبيرات وجهها وخلجاتها، كل هذا الحنين للأمومة، وكل هذا الحب لليلى، وكل هذا الإدراك أن علاقتها بتلك الصغيرة علاقة مشروطة، ستنتهي إذا انتهت علاقتها بوالدها. لكن بحث راشيل عن الأمومة ليس بحثاً يائساً، ولا يعني أن حياتها قد تنهار إذا لم يتحقق. راشيل امرأة متحققة، ذات حياة باريسية سعيدة، وذات عمل تجد فيه الكثير من الرضا، وتجد في علاقتها بطلبتها الكثير من البهجة. كما أنها تجد الكثير من الحنان في علاقتها باختها التي تصغرها.

سيناريو الفيلم، الذي كتبته زولتوفسكي بذكاء وحساسية شديدين، يلمس الوتر الصحيح طوال الفيلم. وضعت كل كلمة في الحوار في موضعها الصحيح، يمكننا أن نلمح السعادة على وجه راشيل عندما تعلم إن اختها حامل، لكننا أيضاً نلمح نظرة التمني في عيني راشيل، وتلك الرغبة في أن يكون لها طفل. وعندما تضع أختها طفلاً، نرى راشيل تنظر له بحب وحنان، لكنها أيضاً نظرة تحمل الحنين والتوق لأن يكون لها طفل. لكن علاقة راشيل وعلي لا تدوم، حيث يجد ما يدفع والدة ليلى إلى أن تطلب منه أن يحاولا العودة لبعضهما بعضا. هنا تقدم إيفيرا ما قد يكون أفضل مشاهدها في الفيلم وأكثرها رهافة وحساسية.

تنتحي راشيل بليلى جانباً لتخبرها أنها قد لا تراها بعد اليوم، لكنها ستبقى على حبها لها. يحمل وجه إيفيرا الكثير من الحزن والتأثر، لكنه لا يحمل اليأس قط. يمكننا أن ندرك من تعامل راشيل مع هذا الموقف أنها لن تنهار، ولن تسقط في هوة اليأس، بل ستواصل حياتها بالكثير من الشغف. قد تكون قد تألمت لانتهاء العلاقة أو لانقضاء علاقتها بليلى، لكنها رابطة الجأش قوية، تجد في ذاتها وحياتها الكثير من التحقق.

حياة راشيل لا تقف لانتهاء علاقتها بحبيبها، ولا تقف لأن رغبتها في الإنجاب لم تتحقق. تمر بضعة أعوام لنراها سعيدة ناجحة، ونراها تلتقي بالصدفة تلميذاً سابقاً لها. نرى كم كان لها من التأثير في حياة هذا الطالب، الذي لا يزال يتذكر كم كانت عوناً له في سنوات مراهقته وتخبطه للعثور على معنى لحياته. تحول زولتوفسكي تعبير «أبناء الآخرين» من تعبير يحمل الأسى والحسرة إلى تعبير عن تأثير راشيل على حياة أبناء الآخرين هؤلاء، وكيف تخلد في ذاكرة الكثيرين منهم كمن عاونتهم على تحقيق أهدافهم في الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى