أحداث و تقارير

«توني إدرمان».. طرح إنساني بمسحة باردة وجافة

 

امنية عادل حسينـ  أمنية عادل

لا أحد يختار اسمه.. لا أحد يختار أبيه.. لا أحد يختار أمه.. هذه قاعدة متعارف عليها، فالإنسان مسير بعائلته ولا أحد يستطيع التنصل منها، هذا هو الحال في فيلم توني إردمان، فأنيز سيدة أربعينية متحملة مسؤولية نفسها وتعمل كمستشارة للشركات الكبرى تتقاطع حياتها الديناميكية مع حياة والدها هذا الغريب أو كما يصوره لنا الفيلم في البداية، وتقع «أنيز» أسيرة بقائها مع والدها لعدة أيام، ليتحول كل منهما نحو المستقبل كما تتغير نظرة المشاهد عما يراه ظاهرا.

تقدم المخرجة والكاتبة والمنتجة الألمانية مارين أدي التي اعتادت على كتابة وإخراج أفلامها الماضية، وشاركت بها في مهرجان كان وبرلين بالدورات الماضية، فيلمها الجديد اعتمد على الاكتشاف والصدمة، اكتشاف ما وصلت له الإنسانية والصدمة في معالجة الإنسان لما اكتشفه، من خلال علاقة بسيطة ظاهريا معقدة باطنا، بين ابنه وأبيها، يختلف كل منهما عن الآخر بل ويصل الأمر إلى نبذ الإبنة لأبيها وشعورها بأنها لم تعد تحتاج له كما كانت في سن الطفولة المبكرة، وتشعر أنها تجاوزت تلك المرحلة حتى تتعرض لأزمة هوية، فمن هي وماذا تفعل بالحياة، وكيف وصلت إلى تلك الحالة البائسة؟!، وتجد الإجابة عند أبيها هذا العجوز الغارق في طرفاته ونوادره.

ما ظهر وما بطن

تنبش «أدي» في أعماق الإنسان بطريقتها الخاصة، حيث تقدم نماذج من البشر تعاني وتعافر مع الحياة بطريقتها، وتستهل «أدي» فيلمها بتصوير شكل شخصية توني للمشاهد، حيث رجل ذو ملامح باردة وثقيلة بعض الشئ، لاسيما مع الدعابات التي يجدها مضحكة بالنسبة له، ويستشعر المشاهد أن توني رجل غير مرحب به بصورة كبيرة، في حين تحضر ابنته «أنيز»، تلك الابنة العملية التي لا يتسع وقتها للبقاء مع عائلتها ولو للقليل من الوقت، وهو ما يزيد من الجفاء والفجوة بينها وبين أبيها.

ورغم الصورة الأولى التي تصدرها «أدي» إلى المشاهد إلا أنها لا تستمر طويلا وسرعان ما يتكشف الوجه الحقيقي لكل من الشخصيتين الأساسيتين، فمن خلال مواقف إنسانية خاصة تشيح «أدي» القناع عن الشخصيتين، فتوني هذا العجوز المزعج نراه يتمتع ببعد إنساني خاص، في حين ابنته «أنيز» مادية وتنتمي إلى عالم الأعمال وتقبل الإهانات والإساءات بدافع تسيير الأعمال، وتكشف ملمح من شريحة تنتمى إلى عالم الرأسمال في مقابل الإنسانية والعاطفة التي يمثلها الأب توني، وهو ما يغير واجهة الفيلم ويصعد حالة التباين بينهم.

برود مقصود

يشعر المشاهد أنه أمام فيلم بارد وجاف خالي من أي لمحة مثيرة أو مسلية، فهو عمل هادئ وذو أحداث بسيطة وتتأجل ذروته حتى قرابة النهاية، لكن هذه الحالة الجافة في تناول القصة وتقديمها من قبل المخرجة يجده المشاهد مقصودا ومقنعا أيضا، فمارين إدي لا تسعى إلى طرح تعاطف مع شخصية توني فحسب بل تترك مسافة بينه وبين المشاهد، فرغم أنه رجل ثقيل الظل ولا يرحب الجميع بدعاباته إلا أنه إنسان ويستحق فرصة للتقرب من إبنته التي تجد به في النهاية ملاذا لها، للتخلص من ثقل المادية والحياة، وتتعري مما ينغص عليها حياتها.

كما أن هذا البرود مبرر إذ أن الابنه «أنيز» ليست مراهقة أو في سن صغير كما أنها مستقلة ماديا منذ سنوات عدة وتعتبر كيان قائم بذاته من الصعب أن تتعامل مع والدها بحميمة كبيرة، ويمكن اعتبار مدة الفيلم التي زادت عن الساعتين ونصف ما هي إلا فترة لإذابة الثلج الذي كان يخيم على علاقتهما.

55555555555555555555555

سينما غنية

يتمتع فيلم توني إدرمان بلغة سينمائية غنية وقوية، حيث اهتم المصور الألماني باتريك أورث بتصوير التعبيرات الخاصة والدقيقة لكل من توني وأنيز، فتنوعت لقطات الفيلم ما بين اللقطات القريبة والمتوسطة، كما برعت كاميرته في توصيل المشاهد لحالة الجفاء المقصود، وتسريب بعض الدفء إليه فيما بعد مع تحسن أجواء علاقة الإبنه وأبيها.

ورغم طول مدة الفيلم إلا أن الملل لم يتسلل إلى المشاهد كثيرا، حيث وازنت المونتيرة هيك بالبريس، التي شاركت مارين أدي في بعض من أعمالها الماضية، إيقاع الفيلم بمونتاج واعي دعم تباين الشخصيات وأيضا الحالة الإنسانية التي تغيرت على مدار أحداث العمل.

تغير وتحول

لم تكن الموسيقي من العناصر المشاركة بقوة في تكوين فيلم توني إردمان، رغم هذا حضرت على استحياء قرابة النهاية، كذلك الأغنية التي أدتها «أنيز» وفرغت بها شحنة الغضب والاحتقان التي تعيش في كنفها منذ سنوات.

tonierdmann_02

أما التمثيل فخدم الفكرة العامة التي يدور حولها الفيلم، حيث قدم الممثل الاسترالي أداء مميز وتغير كبير في ملامحه العادية لتجسيد شخصية توني إردمان وحصد عليها جائزة مهرجان الفيلم الاسترالي عام 2017، فيما نجحت الممثلة الألمانية ذات الملامح الجامدة الباردة في تجسيد شخصية أنيز الابنة التي ابتلعتها الحياة المادية وفقدت شعورها بالوفاء والحنو نحو أبيها.

فيلم توني إردمان يظهر للوهلة الأولى أنه ثقيل وصعب في معالجته والسبيل الذي سلكته مخرجته وكاتبته، لكنه يلمس قضية مطروحة بقوة في السينما الجديدة، حيث العلاقات الإنسانية، ولكن بطرح جديد ومعالجة تظهر جافة لكنها تقدم الكثير من خطوات وبصمات سينما الإنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى